Al Jazirah NewsPaper Tuesday  13/07/2010 G Issue 13802
الثلاثاء 01 شعبان 1431   العدد  13802
 
تحقيق أصولي وإيضاح نفسيٌّ لا غير.. وَصَفْحٌ جميل (1ـ 2)
بقلم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

 

جزى الله الأستاذ عبدالله بن محمد العسكر عني وعن أخي الدكتور عبدالرحمن العشماوي خير الجزاء على أسلوبه المستعلي على السفاهة المنشور بجريدة الجزيرة عدد 13797 في 26-7-1431هـ، وإنني مُميت ما جرى بيني وبين أخي العشماوي؛ لما ولَّده من عربجات في حقه وحقي نشرت بالإنترنت لا تصدر عن مسلم يخاف الله، ولن أبحث ما دار بيننا البتة إلا بالصفح الجميل، وإباحتي له من قلبي، والله يغفر لي وله.. بل أعلن ندمي الباخع النفَس؛ ولعلي - لازدحام الأدعية الشرعية في ذهني عند الورد الذي أُحافظ عليه - أُنسيتُ قوله: (اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، ربَّ كلِّ شيء ومليكه: أشهد أن لا إله إلا أنت..

*، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجرَّه إلى مسلم)..

على أنني لا أنسى أبداً دعاء الخروج من البيت إلى المسجد، ولا أقول: (قدَّر الله وما شاء فعل) في هذا الموضع؛ لأن ما حاك في النفس أنه ذنب لا ترمي به على القدر، وقد جعل الله لك القدرة والحرية على الفعل والترك؛ وإنما أقول ما علَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه أن يقول في سجوده (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً - ولا يغفر الذنوب إلا أنت -؛ فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم)، وأقول ما قاله رسول الله معلِّماً أمته: (اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة).. ويعلم الله - وكفى بالله شهيداً - أنني كثير الحوقلة والاسترجاع بعد ما حصل..

*، وقوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} *سورة الشورى/41*، ومثل ذلك في آخر سورة الشعراء؛ وإنما ندمي من أمرين: أولهما: أنني وددت لو اكتفيتُ بالذب عن نفسي دون التجاوز..

*..

ولو انتصف الدكتور لنفسه فلن أجزع، بل ذلك يريح ضميري؛ وإنما غرضي ههنا مسائل علمية خالصة أحب أن أتحف بها إخواني من طلبة العلم، وإنني لعاشقٌ اقتناص فرص مثل هذه المناسبات لهذا الغرض؛ فتحضر لإخوانك شاهدَ العلم، وتزيل عنهم غُمَّة نسيانه أو جهله؛ وبهذا يعلم أخي العسكر حفظه الله (على الرغم من أسلوبه المهذب): أن الكفة الراجحة عنده كانت قاسطة لا مُقسطة..

لا عن عمدٍ ولا قصد، ولكن لِغياب شاهد العلم؛ فأول ذلك قوله: (المُثبِتُ مُقدَّم على النافي) فهذه قاعدة فُهمت على غير وجهها لخلوِّ كُتب السلف من كتب مفردة تحرِّر نظرية المعرفة البشرية، ونظرية المعرفة الشرعية؛ فالمثبت حفظكم الله هو من أقام دعواه على برهان؛ فتكون الحجة على النافي ببراهين تجعل برهان المثبت غير وارد، وأما إذا كان المدعي والنافي لا يملكان برهاناً فالنافي هو المقدم فيما نفاه، وهو المصدَّق فيما أقرَّ به على نفسه؛ لأن الأصل في النافي استصحاب براءة الذمة؛ ولهذا قال: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) فالمنكر ناف، وليس عليه إلا اليمين إن لم يملك برهاناً يدفع به دعوى المدَّعي الذي لم يظهر البينة، والمدَّعي هو المثبت فعليه البينة..

وأنا نافٍ ما نفيته بعد إقراري بما أقررت به، وقد تطوَّعت باليمين؛ فاعلم حفظك الله يا آل العسكر الفرق بين المدَّعي والمثبت.

والأصل الثاني: قال أخي العسكر: (من حفظ حجة على من لم يحفظ)؛ فاعلم بارك الله فيك أن هذا يقال لمن قام البرهان على حفظه، وقام البرهان على نسيان أخيه؛ فهل عندك حفظك الله برهان على أنني نسيت، وأن أخي الدكتور العشماوي هو الذي حفظ؟..

وأنت جعلتني بلا حجة في مقام الناسي بعطفك (من حفظ) على (والمثبت مقدم)..

وما اتسعت هوة الخلاف بين علماء المسلمين إلا لمداخل الأغلوطات سهواً؛ لغياب شاهد العلم أو الفكر المعطَّل.

والأصل الثالث: قلت حفظك الله: (ألا يوجد في كتب الحديث والمصطلح أخبار من حدَّث عن الثقات فنسي؟).. ما هذا بارك الله فيك؟!..

إن المتحدث عن أخبار أخيه - وأرجو أن أكون من الثقات - هو أخي الدكتور العشماوي -، ولم يرو من قولي شيئاً؛ فكيف جعلته الآن ناسياً، وجعلته قبل ذلك حافظاً مثبتاً مقدَّماً؟!..

وسواء أنسي أخي الدكتور عبدالرحمن أو نسي أخوه أبو عبدالرحمن: فالقاعدة (فَتِّشْ ثم انقش، وأسِّس ثم ابنِ)؛ فهل عندكم حفظكم الله برهان على الحافظ والناسي منا، وهل أخبر الدكتور العشماوي - وهو المحدِّث - أنه نسي..

الفكر يا أخي عبدالله آل العسكر موهبة أو دِرْبة يكون لمَّاحاً، دقيقَ التمييز، حاذقاً الفروق والعلاقات بين الأشياء؛ فإن فاته ذلك وقع في حُبَّالة الأغلوطة.

والأصل الرابع: حكمك بتقديم المقاصد التي لا يعلمها إلا الله على دلالة الألفاظ عندما قلت لي: (أليس الأجدر في حقك أن تحكم على الرجل من ظاهر كلامه بدون دخول في المقاصد والنوايا؟)..

أخي عبدَالله: إن جاءك من يقول لك: (أخطأت في النوايا، والصواب النيات) فاعلم أنه متنطِّع، وأنك أنت المصيب؛ لأن (النيات) جمع قلة للنية، (والنوايا) جمع كثرة لنوِيَّة مثل المطايا والطوايا لمطية وطوية..

ثم اعلم حفظك الله أن القاعدة المجمع عليها علماً وفكراً وعملاً أن المعتدَّ به دلالةُ الألفاظ لا مقاصد المتكلمين..

هذا في العقود والإقرارات وكل قول صادر إلا ما أحال الشرع فيه إلى النية مثل الألفاظ التي تكون كناية عن الطلاق ولا تكون صريحة فيه..

ومقاصد المتكلمين تُحمل في الظاهر - وعلم الباطن عند الله - على دلالات الألفاظ..

وقد أخذت على نفسي ألا أغيظ الدكتور العشماوي بعد الصفح الجميل؛ فأنا متنازل عن بحث دلالات الألفاظ، وعن مدى قيمة الثناء بعد (....)، ولا أزيد فالله يغفر لي وله، وألوم أخي آل عسكر على الكفة القاسطة في رجحانها؛ فأنا في مقام الدفاع عن نفسي، وهو أنني لم أجاهر أيام ممارستي بشيء أعتقد حرمته استنباطاً وإن كان دون الكبائر، وقد أسلفتُ نصيحة أحد مشايخي رحمه الله؛ فكيف جعلتني دائماً محكوماً عليه، ملوماً دائماً؟..

*.

*، أو مفارقةً مُعْتدَّاً بها؛ فإذا كانت النتيجة المشابهة فتلك النتيجة باطلة؛ لأنه ما من شيء إلا يشبه الشيء الآخر من وجه أو أوجهٍ ويغايره في وجه أو أوجه؛ ولولا ذلك لكانت الأشياء مِثليَّات لا غيريَّات، وأما إذا كانت النتيجة بلا فارق أو بفوارق غير مُعْتَدٍّ بها، وقام البرهان على المقصد الشرعي باستقراء العقل، أو كان ما يسمونه (مقيساً) داخلاً في مدلول الخطاب الذي جعلوه (مقيساً عليه) فذلك حق؛ فمن ضرب إنساناً، أو دفعه فاستلقى على ظهره - وإن لم يحصل له من الضرر إلا الإذلال عند الناس -، أو بصق في وجهه؛ فالحق أن المجنيَّ عليه يقتصُّ إن شاء..

*؛ فالبصاق في وجه الإنسان عمداً اعتداء، وحينئذٍ لا نزعم أننا ألحقنا البصاق بالجروح في المقاصة بآرائنا، بل وجدناه ملحقاً من عند ربنا بشمول دلالة الاعتداء، ونستثني من القصاص ما استثناه الشرع كالمُثْلة، وكقوله: (لا تخن من خانك)، ومثل عدم الأمن من الحيف في القصاص من بعض الجروح؛ فيتعيَّن الأرش، ولقد أحكم الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى هذا الأصل، ولكنه قدس الله روحه أخطأ في التطبيق؛ لأنه لما أخذ بعموم الاعتداء عارضه المالكيون بقولهم: (لو أن إنساناً نكح إنساناً حتى مات: هل تنكحونه حتى يموت؟)؛ فرد بقوله: (بل نستدبره بوتد حتى يموت)!!.

قال أبو عبدالرحمن: هذه مُثْلَة مُحَرَّمة قبيحة، والصواب أن الجاني يُعزَّر أولاً عن جريمة اللواط؛ لأنه لم يصح في اللواط حد، وهو كبيرة من الموبقات كالعقوق والربا؛ فالمآل إلى التعزير، ثم يُقتل قصاصاً لا مُثلة، وإن عفا ولي المقتول عن القصاص فلا يعفو وليُّ الأمر عن التعزير، وإن وصل التعزير إلى القتل وكان ولي المقتول عفا عن القصاص بأخذ البديل الذي هو الدية فيدفع ولي الأمر له الدية؛ إذْ لا يكلف أولياء المقتول بالدية وقد قُتل مَن افتدوه تعزيراً..

وأخي العسكر قاس مع الفارق كثيراً مثل قوله: إن أخي الدكتور العشماوي لم يَهْجُ أحداً في شعره.. وإلى القياس مع الفارق فهو استدلال في غير محل النزاع، ولن أتقصَّى ذلك، بل أذكر بعض أقيسته..

قال حفظه الله: (إن أحد السلف لما بلغه أن أحد إخوانه انتقصه جاء إليه، وقال: إن كنتُ كما تقول فغفر الله لي، وإن لم أكن كذلك فغفر الله لك).

قال أبو عبدالرحمن: لا ندري ما هو ذلك الانتقاص حتى نقيس، ولا ندري عن نوعية شيوع الانتقاص حتى نقيس أيضاً، وأما ما كتبه أخي الدكتور العشماوي فهو أمر علني يقرؤه آلاف البشر، وليس هم الذين أُحصوا بأعداد ما يطبع من الجريدة، بل وصل ذلك إلى من لم يقرأ الجريدة في الجوالات والإنترنت..

*، ولكن الله سبحانه لم يحجب عن عباده إذنه بالإيمان إن هم فعلوا الأسباب الدينية التي شرعها لهم؛ فسلكوها على عادتهم في التماس مآربهم بالأسباب الدنيوية كالحرث والزرع للحصول على الغذاء..

*، وأجلُّ مطلوب الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم صراطِ الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين..

أما قبل إنابتي فلم أعلن ذلك ولم أُجاهر به، ولم أكن مستهتراً، بل كنت في غاية التكتم كالهرة تدفن ما يخرج منها؛ وإنما جاهرت بالغناء عن اعتقادٍ تقليدي خاطئ بالإباحة..

ولو هاتفني أخي الدكتور العشماوي أو زارني وأفضى إليَّ بما ذكره في الجريدة أو أكثر مما ذكر ولم ينشره على الملأ لقلت له: يا أخي عبدالرحمن: بحث الموضوع أصلاً غير مناسب تعليقاً على بحثي المحقَّق في الغناء؛ لأن ذلك يُضعف الثقة بجانب الدعوة لديَّ بعد الإنابة..

ولقلت له: لو صح أنني مستهتر مجاهر بما أنبت عنه فلا يحل طرح ذلك بعد إنابتي.. على أنني لم أعترف فيما كتبته بالمجاهرة كالغناء..

ولقلت له: إن الشيخ أبا تراب غير موجود لما زرتني، وعرضك لحركات الشيخ مع أنه لم يحضر تشنيع عليه بما هو فوق ما عبته عليَّ..

ولقلت له: كنتُ وحيداً في مكتبتي لما زرتني أقرأ مخطوطات صورتها من المغرب على الجهاز؛ فما معنى وضعي للديوان ذي الصورة الذي لم يطل عمره أكثر من أشهر بعد طبعه عام 1399هـ؛ إذْ هاتفني أخي عبدالعزيز الشبانات طالباً إحراق النسخ ذات الصورة ويعوضني عن قيمتها.. فقلت له: جزاك الله خيراً أحرقها ولا أريد عوضاً.. فأحرقها..

فإن أصرَّ على معلوماته، وأصررتُ على معلوماتي قلت له: (غفر الله لي ولك)؛ فلما كان الأمر علنياً لزمني إيضاح الواقع..

والتنقص يا أخي العسكر كالوصف بالجهل والغفلة وما أشبه ذلك، وأما التشهير بالسلوك فهو تجريح شخصي لا يحل، ولا ينبغي لي السكوت عنه؛ فأدفع ما لا يصح، ولاسيما المجاهرة ولا يعرف هذا عني أحد من خلطائي.

* الذين نالهم ما نالهم من أعدائهم؛ وهم إنما يريدون للناس النجاة من العذاب والفوز بالجنة؟!).

قال أبو عبدالرحمن: قبل بيان فساد القياس أستحلف أخي العسكر هل وجد أو يستطيع أن يجد نقداً مهذباً هادفاً في القسم الأول الذي غاظني من مقال أخي الدكتور العشماوي عفا الله عنه..

هل في هذا إلا التشهير بي في شيء تركته، والادعاء عليَّ أنني في غير الغناء غير مبال ومستهتر.. ثم ما موضع النقد الهادف في هذا السياق؟.. أهو شيء اقترفته الآن فهو ينقدني نقداً مهذباً هادفاً (مع أن المشروع في مثل هذا المناصحة سراً)، أو ينتقدني في أمر تبرأت منه منذ أزيد من عقْد؟..

أما ما بعد المقدمة الغائظة فهو تقريظ لا نقد لبحثي عن حكم الغناء، ويا ليتني سلمت من الأمرين سامحكما الله معاً..

وأما فساد القياس فهو أن الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام تعلو منازلهم عند ربهم، ويكتب الله لهم النصر بما صبروا على أعداء الله الكافرين..

وأما أنا العبد الضعيف كثير الذنوب والخطايا والتقصير فالذي شهَّر بي - عفا الله عنه عدد سنيِّ عمره - أخ لي في الله مسلم، وأنا إنسان أنهكني الندم والحسرة على ضياع العمر، والتشهير بي لو أضرَّ بي في ذاتي ما اهتممتُ بذلك، ولكنه يضرُّ مصداقية دعوتي إلى الله بعد الإنابة.. يا أخي آل العسكر: إن الله يحب الصدق، ويحب من جاء به، ويحب من صدَّق به..

وبعد الانتقال إلى الإيضاح النفسي أبدي لأخي العسكر أنه عن غير قصد إن شاء الله قلب الكِفَّة؛ فجعل دفاعي عن نفسي محلَّ لوم لي كثير في مقالته، وجعل ابتداء أخي العشماوي بالتشهير بي مجال ثناء عليه مطلق، وأن انتصار المظلوم الذي أباح الله له ذلك ينافي الورع؛ فهذا عكس للحقائق، وحيف في الحكم يدركه العامي قبل المثقَّف..

وأما طلب العفو والمسامحة؛ وذلك هو المستحب الأفضل لا المباح غير المحرم: فلا يكون بأسلوب اللوم الدائم للمنتصف لنفسه كما مر من سورة النساء، ولا يكون بالثناء والتبرئة المطلقة لأخي العشماوي الذي ابتدأ إغاظتي، وقد ختمت الأمر بالصفح الجميل، وأعيش الآن مع الهمِّ الذاتي في الإيضاح النفسي..

لقد كان أحبائي في المسجد وفي الطريق وفي البيت يُقبِّلون جبيني كأنهم يقبلون الحجر الأسود وأفرح بذلك، وهم يستلذون لدروسي، وأنا أعلم من أعماق قلبي من سبقوني بالعلم والورع مدى أعمارهم، وأنهم أولى بتقبيل الجبين؛ لأنني لو أخذت من عمري منذ الآن عقداً واحداً على الصفاء، وأسقطت سِنيَّ ما قبل بلوغ الحلم لبقي من عمري نصف قرن متأرجحاً بين تديُّن جادٍّ، وتدين مقتصد، وتجاوز وتقصير.. إنَّ هذا لو عقلتُ خليق بأن يولِّد لي حزناً أعظم من وجد العشاق الصادقين..

ثم إن نصف قرن ضاعت من عمري كانت هي قِمَّة النشاط؛ إذ كان يكفيني خمس ساعات لا غير للنوم، وأسهر الليالي حتى تحترَّ الشمس؛ فكيف أوَّلاً أُعوِّض ما فات من فضلة عمرٍ قلَّ فيه الجهد والنشاط، وكان نومي أكثر من يقظتي، وكنت أستوعب في ساعة من الفهم والحفظ ما أستوعبه في عشر دقائق سابقاً.. ثم ماذا خلَّفتُ من العلم؟..

إنه إما علم دنيوي بين الإباحة واللمم، وإما علم ديني نافع ولكنه مدخول النية بما أتقاضاه من أجر من وسائل الإعلام وقيمة الكتب، وبما لا أكرهه من السمعة وحسن الثناء، ولو صرفت ذلك الجهد خلال نصف قرن في علم نافع خالص النية لكنتُ إماماً ينتفع به المسلمون؛ فوا أسفاه على سهر الليالي خلال نصف قرن في بحوث عن الأنساب والتواريخ والفن وجماليات الأدب؟!..

وكانت النتيجة أكثر من أربعمئة إضبارة كبيرة مليئة بأوراق مختلطة عجز أحبائي عن ترتيبها ولمِّ شملها، وسأحرق إن شاء الله هُلاميَّها، وأصطفي الزبدة وإن كانت في علم مباح كجماليات الأدب.. إن هذه المشاعر للأسف لم تَخِز قلبي وَخْزَ الإبر؛ فأعوذ بالله من موت القلب..

*؛ فهذا ترجية من الرب جل جلاله - وترجيتة وعد حقٌّ -، واشتراط من الله جل جلاله باغتنام الفرصة بالإنابة..

ثم حصحصتُ تأرجحات عمري فلم يصفِ لي منها إلا إيمان مكين مدى حياتي لم يتزعزع (وأرجو الله الثبات) بالله وملائكته وكتبه ورسله والغيب والقدر خيره وشره، والبغض الشديد لأعداء الله، وحبي للعوام الصلحاء أهل الفطرة، وحبي لمشايخ أفنوا أعمارهم في طاعة الله كسماحة الشيخ ابن باز، وسماحة الشيخ عبدالله ابن حميد، وسماحة الشيخ عبدالرزاق عفيفي رحمهم الله تعالى، وأستاذي ووالدي عبدالعزيز الداوود وسماحة المفتي ومعالي الشيخ الفوزان أمد الله في حياتهم على طاعته - وإن كنت ذا انفعال مؤلم مع بعضهم في مسائل غاظني أخْذهم بها تقليداً والحق في سواها -، وبهذا أتوسل بهذه العقيدة إلى ربي في دعائي.. ووجدت في تأرجحات عمري تديُّناً متيناً عدداً من السنوات، ثم يضعف بالتقصير أو التجاوز.. وأكبر ما يؤذيني أنني لا أصلي جماعة إلا لماماً إذا كنت مقيماً إشفاقاً مما عابني به أخي الدكتور العشماوي: أن تُشَمَّ مني رائحة، أو يحصل مني إيذاء لملائكة الرحمن عليهم السلام، أو يغيب الإمام فيأمروني بالصلاة بهم جماعة، فلا أقوى على إظهار عيبي وأُقدم على الإمامة متعللاً بأنني لعلي أفقه من الجماعة، وأنني أحفظ عدداً من السور، وآيات كثيرة من عدد من السور..

وكنت أوشكت على حفظ القرآن سوى سور أقل من ثمن المصحف، فعوقبت بإنسائي إياها، ولا أزال أعاني عسراً شديداً في استرجاعها، وربما خرجتُ من سورة إلى سورة ثم لا أعي إلا بعد استرسال طويل، وإذا حضرتُ الصلاة جماعة أجهدتُ نفسي بالاستحمام والفرشة، والمعجون، والمضمضة، وغسل اليدين بالديتول، وفي شهر رمضان لا أحضر الصلوات جماعة مع أنها شرط لصحة الصلاة إلا في النهار؛ لأنني متوقف عن الريحة القبيحة؛ فإذا جنَّ الليل جعلت صلاتي وتهجدي في بيتي، وعوضت بصلاة بعض أهلي معي..

وإن كنت في سفر، وغاب الإمام، وألزمني ولي الأمر صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز حفظه الله الصلاة وهو لا يعلم عن وضعي صليتُ بهم مضطراً.. وصلاتي جماعة صحيحة، والأفضل أن يصلي من هو أعلم وأورع مني إن وُجِد.. ووجدتْ لي في تأرجحات العمر بُشْريات خير؛ فكنت إذا تجاوزت أبيت مغموماً حياءً من ربي، وينكسر خاطري أمام ربي.. ثم جاءتني المبشرات من ربي بالله سبحانه ثم بحرصي على الدعاء وكنت مستكثراً من صحيحه، والحرص على الورد المقيد والمطلق..

وابتلاني الله ببعض المصائب ليلجئني إلى طاعته؛ فحبب الله إليَّ القرآن بالدعاء الكريم الذي هو نور الصدر، وتصحيح الألباني له هو الحق، وتضعيف العلماء الأئمة الفضلاء من محققي المسند في خمسين مجلداً هو الخطأ المحض، وهو حديث فيه نور الصدر، وله الشواهد الكثيرة، ورواه الجهني الثقة وله كنيتان، وذلك معتاد في تراجم العلماء؛ وذلك هو ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل في قضاؤك.. أسألك بكل اسم هو لك: سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي))؛ فانتفعت بهذا الحديث على طول المدى؛ فصار كلام الله متعتي أختمه في الأسبوعين مرة لا ختم هذرمة، بل ختم تأمل وتسجيل وريقات في المصحف أراجع بها كتب التفاسير والتحقيق؛ ليكون كتاباً بعنوان (براهين القرآن، وقوانين الاستنباط) سأجعله إن شاء الله مصاحباً لتدريسي مقاييس اللغة للإمام ابن فارس في المسجد ابتداء من أول سبت من نصف شوال بعد الإجازة، وهو في غاية الاستيعاب والتحقيق.. ومنَّ الله عليَّ بالبشرى وهداية الإعانة؛ فأراني نقصاً في الموارد، وحرجاً في الصدر، وعجزاً عن جمع شمل كل رعيتي الكثيرة على التقوى؛ فعلمت بالتجريب أن هذا رحمة لا عقوبة؛ ليردني إليه رداً جميلاً، وأنْ أحصِّل الدعاء للأهل والذرية بإصلاح نياتنا وذرياتنا وأهلنا وجميع أمرنا، وأن يصلح فاسدنا وفاسقنا، ويهدي ضالنا، ويشفيَ مريضنا، ويرحم ضعيفنا، ويغني فقيرنا، وأن يقضي الدين عن مديننا، ويُزوِّج عازبنا وعازبتنا ويرزقهم الأزواج الصالحين والزوجات الصالحات والذرية الصالحة.. ورأيت أثر ذلك بالتدريج، وبدأت تزول الضائقة المالية..

ومَنّ الله عليَّ بالإلجاء إلى طاعته بحياء من ربي استنجد عند كل طمعٍ أو تقصير أو تجاوز في الاعتذار للنفس بالكذب، فكنت أشعر بالحياء المُمِضِّ من ربي في يقظتي وصلاتي مع شدة الانكسار؛ فحصل المطلوب بالتدريج.. وأخطر من ذلك أن أعتذر لنفسي بكذيبات تُزكِّي سلوكي؛ فحال ربي بيني وبينها.. وعوضني ربي خيراً بما بليت به من ضعف الموارد وكثرة الأعباء إنذاراً من الله سبحانه وتعالى؛ فسخر الله لي صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز جزاهم الله عني خيراً، يتحملون أعبائي منهم حسب المناسبة، ومنهم حسب الديمومة..

وقام فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز الدغيثر بتهذيب بعض كتبي الخطية، وبدأ حفظه الله بتفريغ كتابي (تفسير التفاسير) البالغ 1131 حلقة من عشر دقائق مع بعض زملائه، ثم التوثيق والملاحظات، ثم إكمال ذلك من قبلي بالمراجعة، وبمراجعة ما استجد لي من مصادر مطبوعة وخطية كتفسير مكي بن أبي طالب الهداية، وهو كتاب نفيس جداً، وهكذا ما لم يطبع من كتب التفسير وحواشي الزمخشري والبيضاوي، وسأخلص النية في ذلك بلا تعصب إن شاء الله، وسأتيح بيع تلك الكتب وطلب طبعها من بعض أهل الخير؛ لأني لا أقدُّ من سير عريض، وهكذا بعض الأحباب عهدت إليهم بإنجاز أعمال بإشرافي.. ولا أريد من ذلك تجارة؛ وإنما أريد تسديد أجور الطبع والنساخ والفاحصين والمحققين، وارتزاق العاملين لدي، وما وُجد من ريع على قلته يصرف لطبع أعمال أخرى.. وصرفت معظم وقتي للعمل في كتابي (براهين القرآن وقوانين الاستنباط)، وحديث الشهر أعمل فيه على مهل، و(الاستكثار في شرح المحلى بالآثار) أحقق المتن بالشرح والمحاكمة، وأترك لإخواني أهل موقع الظاهر استكمال المسيرة بتخريج الأحاديث والأقوال، وكل ذلك تحت إشرافي؛ فإذا قطعت في ذلك شوطاً واخترمني الأجل كان منهجاً لمن يكمل مسيرتي، وقد أخذت على نفسي صواب الاجتهاد النزيه، وتحرِّي إصابة مراد الله ذي الأجرين بالتقصي وحضور الفكر في الاستنباط؛ لتحرير قواعد المعرفة الشرعية والبشرية، والتخلص من التعصُّب، والرجوع إلى أهل كل فنٍّ في اختصاصهم، وصلاة الاستخارة في عُضل المسائل فيما أشكل عليَّ قبل البتِّ، وعدم المساومة في حق الله سبحانه وتعالى على الكمال المطلق في التقديس ثم التحميد، وسأروض نفسي إن شاء الله عن حدَّة القول..

وفي تأرجحات عمري أعمال صالحة، فإذا أسقط الله ذنوبي وتقصيري وأقالني منها فسيحفظ لي صالح أعمالي في تأرجحات العمر وسيضاعفها؛ فإذا حققتُ مدلول: (قل آمنت بالله ثم استقم) تحاتَّت ذنوبي، وما عدا ذلك عدم حسن الظن بالرب جل جلاله وذلك محرم، ووسَّع خاطري أن دموع العصاة قربات الأبرار، وأن رحمة الله وعفوه ورأفته أكثر سياقاً من شدة العقاب إلا للكفار والمصرِّين على الكبائر، فاخسأ عدوَّ الله؛ فإن بشريات ربي تترى عليَّ، وعمري غير مجرَّد من الخير، ومكاثرة السيئات بالحسنات، وكم قد وجدت الطمأنينة والبشرى في قلبي، ثم اخسأ عدو الله ثانية فلن تجد للقنوط عليَّ سبيلاً بحول الله وقوته، وما تقربت لربي بطاعة إلا فتح الله عليَّ بطاعات سوى دعابات ومزاح في بعض مجالسي الخاصة ولغو؛ فهذه يزيلها: ((اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها))..

والله المستعان. إلى لقاء إن شاء الله.

وكتبه لكم:

أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

- عفا الله عنه -





 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد