Tuesday 29/11/2011/2011 Issue 14306

 14306 الثلاثاء 04 محرم 1433 العدد

  
   

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

هذه استراحة عاجلة قبل خَتْمي (فواصل في مآزق الربيع العربي) بالحلقة العاشرة، وقبل استئنافي شيئاً من التطريب واللذعات مع ديوان معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة.

قال أبوعبدالرحمن: كتب عبدالله فراج الشريف في الإنترنت مقالة مليئة بالتجني، والتطفل على ما لا يعلمه من دقائق العلم؛ فجاء سوء فهمه مضحكاً، والبيان وإزالة اللبس سهل عليَّ إن شاء الله في كتبي، وقمعه بالإحسان والحكمة ووخزات القلم أسهل؛ ليتأدب، وليتعلم قبل أن يتكلم:

لم تُعْط مع أذنيك نطقاً واحداً

إلا لتسمع ضعف ما تتكلم

وفي كلمته المتجنِّية أدخل عُصَّه فيما لا يَخصُّه إلا بدافع من بعض التعصبات كالتعصب لدروشة التصوُّف التي تجعل عين الحقيقة عيناً وعين الشريعة عيناً.. وعين الحقيقة وحي جديد لذوي الكشف والتجلِّي من مجنون ومتجاذب ودجَّال أضرُّوا بالعامة، وصرفوهم عن (عين الشريعة) بالحكايات والمنامات والأحاديث الموضوعة، واحتالوا على الشرع بالتأويلات، والتعبد لله بألحان الأشعار حتى كاد يُقفِر المحراب في غير الفرائض، وأسرفوا بدعوى الولاية لمجذوبين ومتجاذبين لم تؤثر لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وصار الأولياء عندهم هؤلاء الدجالين لا العشرة المبشرين بالجنة، ولا سفيان وشعبة وأحمد والشافعي... إلخ رحمهم الله تعالى.. ومما جاء في كلمته أن في مقالاتي لمزاً لصاحبي المعالي الدكتور محمد عبده وعبدالعزيز خوجة رحمنا الله جميعاً؛ مما نشرته في جريدة الجزيرة.

قال أبوعبدالرحمن: تجرَّع يا ابن فراج من صديدك بالنتن المرير، فالدكتور محمد عبده وخوجة جلدة بين العين والأنف، وخلافي مع محمد عبده في بعض مسائل التصوف كان في حياته، وكان بحديث وُدِّي، وكلما نفى شيئاً مما يُدَّعى من الممارسة صدَّقته وسكتُّ، وقد بيَّنتُ ذلك في مرثيتي له بهذه الجريدة.. والغمز واللمز يا هذا يكون خُفْية كالهرَّة تستتر بما يخرج منها، وليس هذا طبعي، وإنما لي لذعات عَلَنيَّة ولَحْنٌ بالقول أنشرها مواجهة لا مُداجياً ولا معادياً.. وقد أخذت العهد مع والدي الدكتور خوجة أن أكتب رؤيتي بلا مجاملة عن ديوانه فرحَّب؛ لهذا سأثني عليه بما يستحقه كريم طبعه ورطيب أدبه، وسألذعه لذعات علاجية إن بَعُد عن الجمال الأدبي، وإنه إن شاء الله لمن الصابرين، وإنه عليَّ لمن الراضين.. ثم مالك يا هذا ومرابع أبي عبدالرحمن الزاهرة الواعدة ؟.. أمالك عبرة بقول جرير:

وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قرن

لم يستطع صولة البُزْل القناعيسِ

أو قوله:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكمْ

إني أخاف عليكمُ أن أغضبا ؟

لقد حلمتُ عليك فيما نشرتَه في الصحافة من ثرثرة ومهاترة وجهل، فهل أحلم عليك في الثانية ؟!.. على أن ما كتبتَه أنت ليس له قبول عند خلق الله ولله الحمد والمنة إلا عند مثل: (دع طرق الغي الحي يفنى والباقي حي)، فهذه لذعة علنية فاحفظها، وليست همزاً ولمزاً كما تزعم.. ثم يا هذا إنني من عشاق الحقيقة، ومن مبغضي التقليد الأعمى.. هكذا فطرني الله، وهكذا تعلمتُ من الإمام ابن حزم وأذكياء العلماء رضي الله عنهم، وهكذا درَّبت مواهبي بقراءة العلوم الصعبة؛ وإنني لأعجب وأطرب، وأهش وأبش للحقيقة ولو بقلمِ أغلفٍ لا يذكر الله قليلاً أو كثيراً كما قال طيب الذكر حافظ إبراهيم في فقيده تولستوي:

ولستُ أُبالي حين أبكيك للورى

حوْتك جنان أم حواكَ سعيرُ

فإني أُحِبُّ النابغين لعلمهمْ

وأعشق روض الفكر وهو نضيرُ

ودافعي إلى هذه الاستراحة مشاعر مؤذية مما أعانيه من هذا الفيض الهائل من الكتب باللغة العربية في عالمنا الإسلامي والعربي، وهذه المشاعر من جهة أخرى تؤلمني من جراء ما أجده في قلبي من رحمة لمؤلفي هذا الكتب والشفقة عليهم؛ لأنهم غيَّبوا الإيمان بالواقع المغيَّب (وهم أهل علم وذكاء)؛ لتخلُّف الصدق مع النفس في التفكير؛ اتباعاً لأهواء مدائح المعاصرة والشعبية والطلائعية والنخبية؛ فآثروا العاجل على الآجل، والفاني على الباقي، ولم يَعْبَأُوا بالمعادلة بين الربح والخسران، وهذا مجازفة لا يرضاها لِعقْباه من يدَّعي أصالة الفكر والوعي بعصره وأدواته العلمية.. والواقع المغيَّب حقائقُ جَلِيَّة البراهين، والبراهين لا يدفعها براهين أخرى؛ وإنما هي شبهات منطفئة؛ ولقد وجدتُ الحيرة - التي قد تعتري الصادق مع نفسه في التفكير - تأتي من جهتين: أولاهما الحيرة في تفسير بداية الكون، وأخراهما الوساوس حول القَدَرِ والجبْر إثباتاً أو نفياً.. ولا ريب أن الإيمان بالقدر خيره وشره ثابت بضرورات الشرع؛ لأن وحدانية الله بالكمال المطلق في القدرة والخلق والعلم وأنه ليس بظلام للعبيد كل ذلك ثابت بالنصوص القطعية؛ فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره لزمه الاعتقادُ بعجز الله جل جلاله الذي هو على كل شيئ قدير، ولزمه أن الإنسان يفعل بمشيئته (والنص قطعي على أنه لا مشيئة للخلق إلا بمشيئة الله)، ولزمه أن العبد يخلق أفعاله بقدرته وحده، وهذا كفر بوحدانية الله في الخلق.. والقَدَرُ الجبري مشهود في قضاء الله الكوني كحتميات الله في الغنى والفقر والصحة والمرض؛ فجاحد القدر جاحدٌ المحسوسَ، والمؤمن يشهد رحمة الله وعدله في قضائه الشرعي.. ومن قال: (إن الإنسان مجبورٌ مُسَيَّرٌ غير مُخيَّر بإطلاق) لزمه الاعتقاد بأن الله يظلم خلقه مع أن النص قطعي على رحمة الله وفضله وإحسانه وعدله وأنه ليس بظلام للعبيد.. وكل ما قام الدليل القطعي على وجوب الإيمان به فإن الكافر به كافر وإن آمن بمسائل أخرى من الشرع؛ لأن الله أوجب الإيمان بما فصَّله الشرع ببرهان قطعي الثبوت والدلالة عن وحدانية الله فيما فَصَّلَه من كمال، وأن له الكمال المطلق والتنزيه المطلق عن النقائص؛ لأن له الحمد بالنص الصريح، والحمد يقتضي مدحه لوحدانيته في الكمال.. وهكذا النص على أنه الواحد الأحد، وهو القدوس المسبَّح المنزَّه بقطعيات النصوص؛ فالإيمان بكل ذلك واجب، وجحد بعض ذلك والكفر ببعضه كفر كمقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}، (150- 151) سورة النساء؛ فهذا نص صريح على أن الإيمان لا يقبل التجزئة، وهكذا الإيمان بغيب الله وبكتبِ الله ورسله وعصمة شرعه، والإيمانُ بأن أخباره على الصدق وأحكامه على العدل؛ وإنما ينتفي التلازم بين الكفر والتكفير في نصوص شرعية تلقَّاها المُجتهد بنية صادقة يريد بها اتباع مراد الله فالتبس عليه الأمر؛ لاحتمالٍ في الدلالة أو الثبوت، أو اعتراهُ شبهة عقلية حول ما هو ثابت قطعاً بالاستنباط مثل مسألة القدر هذه؛ فإن النصوص صحيحة صريحة في أن الله على كل شيئ قدير، وبكل شيئ عليم، وأنه الخالق وحده، وأن لا مشيئة إلا بمشيئته، وأنه ليس بظلام للعبيد.. ولكن الذي لم يُحسن الجمع بين النصوص، وإجراءَ التلازم بين معانيها حصل له اللبس؛ فحاد إلى بعضها وأهْمل بعضها يريد تنزيه الله وتقديسه كأن يقول بقدرة العبد ومشيئته وحده في فعل الشر؛ لينزِّه ربه عن الظلم؛ فهذا يُبَيَّن له ما سأذكره من اللوازم والتلازم.. وأما من قال: (الإنسان مجبور مُحاسب على ما لا يقدر عليه) فذلك لا وجه له في ابتغاء تنزيه الله، بل ذلك كفر محض؛ لأنه اعتقد الظلم في حق ربه، ونسب إليه الجور والتكليف بما لا يطاق؛ فهذا كفر ظاهر صريح يلزم المجاهِرَ به ومن اعتقده التكفيرُ بعد إقامة الحجة عليه بالبراهين الدالة على أنه لن يُحاسب العبد إلا على ما يقدر عليه، وأنه لا مشيئة له إلا بإذن الله، ولكن الله لن يحجب عنه المشيئة بوعد قاطع، وذلك بفعل أسباب معيَّنة؛ لعصمته في دينه كما يفعل الأسباب في دنياه، وأجلُّ ذلك الدعاء، وقد أفضت عن ذلك في بعض بحوثي.. وأما ما ذكرته من اللوازم والتلازم فأبدأ باللزوم، وهو أن من أثبتَ القدرَ والجبرَ معاً بإطلاق لزمه الكفر باعتقاده جَوْرَ ربِّه، وأنه ظلمه؛ إذ كلَّفه ما لا يطيق، والنص القطعي ينفي ذلك؛ فإذا لم يرجع عن قوله لزمه التكفير؛ لأنه لا وُسْعَ له في شبهته.. ومَن نفى القدر؛ ليقدِّس ربه عن الظلم يبيَّن له اللازم من ذلك، وهو مشاركةُ اللهفي الخلق والمشيئة؛ فإن التزم ما يلزمه كفر، وهو الذي كفَّر نفسه باختياره ما يلزمه.. وإلغاءُ التكفير إلغاءٌ لما هو ثابت في لغة العرب من ذلك اللفظ ومعناه، وإلغاء لأحكام الشرع القطعية؛ وإنما المحذور الافتراء بغير علم؛ فالتكفير من حق الله لا نُسْقطه، ولا نفتري ما نهى عنه.. وأما التلازم فهو بين معاني النصوص؛ فلا نأخذ بعضها ونترك بعضها، وهذا التلازم هو الذي يرفع حَيْرة من أثبت القدر والجبر معاً أو نفى القدر، وهذا التلازم هو البرهان الاستنباطي القطعي الذي قد يغفل عنه المكلَّف؛ فَيُبيَّن له البرهان بوضوحٍ، ولا يُكفَّر حتى يلتزم ما يلزمه؛ فهو بالتزامه رضي ما يلزمه من التكفير مُعْتَقَداً.. وطَرْدُ هذا التلازمِ يسبقه أن هنالك ثلاثة أحوال هي: إثبات القدر؛ فهذا محض الإيمان.. وإثبات القدر والجبر معاً بإطلاق والغفلة عن الأسباب، وهذا غير صحيح؛ فإنه لا جبر إلا في قضاء الله الكوني من ناحية الصحة والمرض والغنى والفقر.. والمصائب التي تقع على المكلَّف في دنياه؛ فهذه لا تكليف فيها؛ لأنها ليست أحكاماً شرعية؛ وإنما التكليف بالمحاسبة على تلقِّيها بالرضى والحمد أو السخط والتجوير.. ولها أسباب منها أن تكون جزاء مُعجَّلاً على معاصي يُطهِّر بها ربنا العبد في دنياه، ومنها امتحان لإيمان العبد؛ فإذا صبر ورضي واستغفر وشكر نال درجة المحسنين وتحوَّلت مصيبته إلى نعمة وبُشرى؛ ولهذا جمع الله بين نسبة المصيبة إليه سبحانه وتعالى ونسبتها إلى العبد؛ فقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا} (سورة النساء- 78-79)؛ فالمكلَّف لم يخلق المصيبة، ولكنه اقترف نتائج المعاصي التي فعلها بحريته واختياره.. وأما التكليف الذي يترتب عليه الثواب والعقاب فلم يجعله ربنا جل جلاله - بعد أن رحمنا بهداية الشرع، وهداية الحِسِّ، وهداية العقل المميِّز - إلا فيما منحنا ربنا القدرة على فعله أو تركه، ومنحنا حرية الاختيار، وبَيَّلنا أعداءنا من الشياطين والأهواء والشهوات والشبهات التي هي غفلة عن تدبُّر شرع الله والتفكُّر في آياته الكونية في الآفاق والأنفس، والغفلة عما يقتضيه وعد الله ووعيده بربحِ المؤمن وخُسران الكافر، وأنه لا موازنة بين ربحٍ أبديٍّ أو خسران أبديٍّ في الآخرة، وبين ربح مؤقت في الدنيا، ولا خسران على المؤمن في دنياه ألبتة؛ لأن الله ضامن له حياة طيبة، وأطيب الطيِّب الرضى واليقين بحسنِ العُقْبى؛ فذلك هو طمأنينة النفس وفرح القلب وهناءة الرضى.. ومن الغفلات الغفلة عن الأسباب التي شرعها الله لنا لننجوَ، وهي الدعاء بآدابه وشروطه، ولا عذر لنا في تركها؛ لأننا نعمل بجدٍّ لإنجاح أمور دنيانا، والله سبحانه وتعالى (ووعده الحق) ضامن لنا الهداية وإجابة الدعاء بآيتين كريمتين قطعيتين هما قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (186) سورة البقرة، وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر؛ فلا مشيئة لنا إلا بإذن الله، وقد فتح الله لنا أبواب حصول مشيئته بما ينفعنا من الأسباب التي شرعها، وبما أسلفته من الهدايتين (الشرعية والكونية) وفي الأولى الوعد والوعيد والتحذير من المُضِلَّات، وبيان الأسباب.. وأما أن العبد لن يخرج عن قَدَرِ الله من ناحية الطاعة أو المعصية فذلك حق، وليس بمقتضى دعوى أن الله جبر عبده، بل بمقتضى علمه سبحانه وتعالى السابق بما سينتهي إليه مصير المكلف وَفْق ما منحه الله من القدرة وحرية الاختيار.. والقسم الثالث نفي القدر بإطلاق، وهذا كفر محض كما أسلفتُ.

قال أبوعبدالرحمن: مَرَّ عليَّ في قراآتي (1) أن بعض العلماء الربانيين قال: (كلما أحدث الناس شبهة - ومثل ذلك سوء الفهم - احتاج العلماء لإزالتها أضعاف أضعافها).. يعني من الصفحات مع أن الحقيقة القطعية لا يحتاج تقريرها وبرهانها إلى ذلك، ومن هذا النموذج هذه الكلمة لابن فراج أنقلها بلا زيادة حرف أو نقص إلا بتقويم بعض الكلمات التي أخلَّ بها في نقله عني.. قال أصلحه الله: « وقد عشنا زماننا كله والشيخ أبوعبدالرحمن ابن عقيل (2) عندنا من رموز ثقافتنا المحلية، وكنا نَرْبَأُ به ألَّا يرى في الحرية إلا ما عبر عنه في مواجهته هذه - يعني مقابلات معي في إحدى الصحف - حيث (3) حصرها في حرية كونية لا توجد؛ لأن الإنسان في نظره مُسَيَّر لا مخير: في مولده، وموته، وحظه في الحياة من فقر وغنى، وشقاء وسعادة، ومرض وصحة؛ فهي أمور كلها قدرية كما يقول.. وحرية سلوكية لا يراها قيمة فكرية وإن كانت موجودة، فلم يَرَ فيها للإنسان اختياراً إلَّا للأسوأ (4).. والحرية التي يعترف بها هي ما سمَّاه الحرية الفكرية والتي (5) يترتب عليها السلوك، وهي موجودة في نظره بقدْرٍ وتحت قيود تحدُّها فقال: (لابد أن يكون الإنسان حراً في فكره، لا يضغط عليه فكر مضلِّل سوى مسلمات بنى عليها سابقاً؛ إذْ يكون للإنسان رأي بيقين أو رجحان تنتهي عنده الحرية، ثم يأتي باب الالتزام.. وهو بهذا يلغي وصول حرية الفكر باستقلال عند الإنسان، ويضع لها من القيود ما يلغيها، وهذا اللون من التفكير هو ما أضرَّ بنا في عهودنا المتأخرة المتحررة من كل (6) ألوان الحرية، والمنضبطة بكل ألوان القيود اللاغية لها (7)، والتي سادها الجمود الفكري حتى آل أمرنا إلى ما نحن عليه اليوم.. بل إن الشيخ عفا الله عنه يرى (أن الديمقراطية في اللغة والممارسة تعني حرية الشهوات والشبهات)، والعلَّة في ذلك عنده أنها مبنية على القانون الطبيعي الذي ينكره؛ فلا يرى من الإسلام إلَّا ما يظن أنه يلغي الحريات التي لم تعد مجال أخذ ورد في عالمنا اليوم، ولا يرى في التصويت الذي هو آلية من آليات الديمقراطية حقاً إلَّا لفئة مخصوصة هم ذوو الحل من المؤمنين، ومصطلح أهل الحل والعقد حتى يومنا هذا لم يُحَرَّر بعد، ولا يزال الناس حول دلالته مختلفين، ومن هم المقصودون به.. أما عامة المواطنين فهم في عُرْفِه غوغائية لا حق لهم في هذا التصويت «.

قال أبوعبدالرحمن: يا رعاك الله يا ابن فراج قرأتُ ما أردتَ إيصاله إليَّ، ولكنك لم تُبيِّن البديل، وافتريتَ عليَّ أشياء لم أقلها؛ لهذا أقف معك هذه الوقفات:

الوقفة الأولى: أيها الحبيب المحب لأخيه في غير عزائم الأمور: لن أكون رمزاً وأنا بالصفة التي ذكرْتَها، وأسأل الله أن يسلخ من قلبي حب الرمزية والشهرة؛ فإن هذا أمر أنهكتني معاناته وأنا أريد صدق القول والعمل وخلوص النية، وأنا أيضاً في حرب شعواء مع الشيطان والنفس.. ومن شر أدغالها حبُّ بُعْدِ الصِّيت الذي يغطش صدق القول والنية، فأسأل الله جلَّت قدرته أن يختم لي ولك بخير.

والوقفة الثانية: حقَّاً حقَّاً حقَّاً يا أخي لقد قلت: (ولا أزال أقول وأعتقد): إن الإنسان مُسَيَّر لا مخيَّر في قضاء الله الكوني لا قضائه الشرعي مثل أمد مولده ووفاته ووضعية حياته كالمرض والصحة؛ وإنما منحه ربه تعاطي الأسباب ولم يضمن له نجاحها كما ضمن له نجاح الأسباب الشرعية باللجوء إلى الله بالدعاء والبراءة من الحول إلا بالله ولا سيما في مسألة الإيمان والطاعة، ولم يضمن له إجابة الدعاء في الشفاء من المرض مثلاً؛ لأن الله قد لا يشفيه ويهب له الصبر والرضى، ويدَّخر له الأجر، ويدفع عنه سوأً أكبر؛ فهذه إجابة من الله بوجوه أفضل، وأما اللاجئ إلى ربه بالثبات على الدين والإعانة على الطاعة فالله ضامن له الإجابة بشروط الدعاء وآدابه، وليس للإجابة بديل غير الهداية والإعانة.. وأما الشفاء من المرض فقد بيَّنتُ بديله إذا شاء الله غير الشفاء، ولكن الدعاء واجب وضروري يترتب عليه طمأنينة النفس والرضى ومضاعفة الأجر إن تخلف الشفاء.

والوقفة الثالثة: أفدني أفدني أفادك الله ما البديل الصحيح عندك؛ لأنك ربأت بي عن هذا ؟!.. أترى حفظك الله عكس ما أقول؛ فتقول أنتَ: (الإنسان مخيَّر لا مسير في الصحة، والسلامة من المرض، وأن المرض ليس من قضاء الله الكوني الذي لا مردَّ له إلا بمشيئته بقضاء كوني آخر منه جل جلاله).. كن شمعة ضياء وأرحني بالبراهين لعلي أجد الحق عندك فأتبعه.. أما أن تنقل كلامي، وتناقشه بهذه الكلمات: (أَرْبأ) و (كما يقول)، و(في نظره) فليس سبيل العلماء ولا سبيل المجتهدين.. أليس الواجب أن تناقش أدلتي، وأن تدحضها إن قدرت، وأن تنيرنا ببراهين حقِّ محجوبة عني ؟.. إن هذا المنهج الذي انتهجته لغو وعبث وعناد ودعاوى عارية.. ألم تَعِ قول ربك: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (111) سورة البقرة، ثم إن الجبرية الكونية ليست فيما أقول كما زعمتَ، بل هي أخبارُ الشرع القطعية، والمشاهَدَةُ الحسية.. ألا يكفيك مثلاً ولو دليل واحد كقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (22) سورة الحديد، وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا } (83) سورة الإسراء، وقوله تعالى:{لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ }، (سورة فصلت - 49-51)، وقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (11) سورة التغابن، وقوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيأَهَانَنِ}، (سورة الفجر - 15-16)، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (36) سورة سبأ.. وما رأْيُ ابن فراج في إبراهيم الخليل أفضل خلق الله بعد عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليهما وعلى جميع أنبياء الله ورسله وسلم تسليماً كثيراً: هل كان مُخَيَّراً لا تناله حتميات الله الكونية أو كان مبتهلاً متضرعاً فيما قصه الله عن إيمانه بقوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}، (سورة الشعراء -75-81)، وقال تعالى: {أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ}، (سورة الواقعة -58-62).. هذا قول الله جل جلاله لا قولي، فاتَّقِ الله يا ابن فراج ولا تُكذِّب ربك.. وأما المشاهدة فهذا أكثر خلق الله يكدح فلا يكون غنياً، وربما اغتنى ثم أفلس، وكل راغب في الحياة الدنيا لا يدفع ساعة واحدة إذا جاء أجله، وكم من مريض غني أنفق الأموال في العلاج فما شُفي.. وربما وُجِد من يولد وفي فمه ملعقة ذهب ويعيش كل حياته غنياً ولا يستطيع دفع الهمِّ عن نفسه، ويا ويله إن أنفق المال في الحرام، ويا ويله إن حبس حقوق الله في المال، ويا ويله إن قال كما قال قارون - أي ادعى أنه مختار لا مُسيَّر فيما قصه الله عنه -: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}، (سورة القصص -78).

والوقفة الرابعة: عبَّر عن المقابلة معي في إحدى الصحف بقوله عنها: « حيث حصرها في حرية كونية لا توجد «؛ فهل تريد يا أخي ابن فراج أن تكون مُنظِّراً وأنت بهذه اللكنة وبهذا العِيُّ الفكري الهزيل؟!.. إنني لم أحصر المواجهة في حرية أو جبرية، بل هي آفاق من المعارف، ثم قل لي كيف أثبتَّ بالحصر (حرية كونية لا توجد)، وأين وجدت هذا من كلامي؟:

ونُصَّ الحديث إلى أهله

فإن الأمانة في نَصَّه

إن الله أعطى كل شيئ خلقه ثم هدى، ومنحهم ربهم بقضائه الكوني حرياتٍ

لا تُحصى من الحركة والسكون والقُدُرات والعقل والحس؛ وإنما حديثي (أصلح الله فكرك من الكسل والبلادة) عن (حتميات الله الكونية) لا عن عموم قضاء الله الكوني؛ فلا تُقَوِّلْني ما لم أقل؛ فإن وجدتَ لي كلاماً ينفي كل حرية في قضاء الله الكوني فاصفق به وجهي ولا تتوانَى؛ لتبرأ عند الله ثم عند الناس من الكذب على أخيك.

والوقفة الخامسة: أن أخي ابن فراج (متعني الله وإياه بنعمة العقل) قال عن القضاء الكوني فيما ساقه زاعماً أنه كلامي: « فهي أمور كلها قدرية كما يقول، وحرية سلوكية لا يراها قيمة فكرية وإن كانت موجودة «.. وهو هداه الله بهذه الغُتْمة والخلط سيتعبني في تفهيمه، وسأتحمل ذلك محتسباً الأجر؛ لعلي أكون سبباً في تفهيمه لمعاناة القلم في المستقبل؛ فأول ما أقوله: (أقدار الله الكونية فيها حتميات لا مفرَّ منها كالمرض والصحة)؛ فكيف وصف ابن فراج الحتمية القدرية بحرية سلوكية ؟!.. إن هذا مثل: (ما ألذَّ الماءَ الباردَ الشديدَ الغليان !!!)، ثم هل ابن فراج يملك أن يكون صحيحاً معافى مدى عمره؛ فتكون صحته حرية سلوكية ملكها مختاراً لا مُجبراً ؟.. وبعد هذا انقل لي تنصيصاً بارك الله فيك محيلاً بالصفحة والتاريخ ما نسبتَه إليَّ من أن الحتمية حرية سلوكية، أو تب إلى الله ولا تكذب عليَّ.. وثالث ما أقوله له: (إن قلَّة الحياء سلوك حر مشاهد في الوجود، فهل يكون قيمة فكرية أو شرعية لمجرد وجوده ؟).. وأنت يا ابن فراج قلتَ منكراً عليَّ « حرية سلوكية لا يراها قيمة فكرية وإن كانت موجودة «.. اللهم اشهد يا رب أن قتل الطغاةِ اليوم المستضعفين الأبرياءَ العُزَّل سلوكٌ طغياني حر موجود الآن لا أنكر وجوده، واشهد اللهم أن عقيدتي في هذا السلوك أنه ليس قيمة فكرية ولا شرعية، بل هو شر وقبح وظلم ومُحادَّة لله وشرعه.

والوقفة السادسة: أنه حرَّف الكَلِمَ عن مواضعه فجعل كلامي عن حتميات الله الكونية لا اختيارَ فيها إلا إلى الأسوإ «.

قال أبوعبدالرحمن: سبحانك اللهم ربي هذا بهتان عظيم، بل مذهبي فيما قلته موجود في محكم التنزيل: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}، (سورة الجمعة - 8)؛ فهذه حتمية قدرية، وما وصفتُ قط - لا بكلام مكتوب، ولا بحديث مسموع، ولا بنية في قلبي - حتميات الكون بالأسوإ، بل السوء في السخط والجزع والتعرض لغضب الله وعقابه.

والوقفة السابعة: من تحريفه الكلم عن مواضعه: (ولعل ذلك عن سوء فهم، وليس قصداً للإساءة) أنه قوَّلني ما يلي: (والحرية التي يعترف بها هي ما سماه الحرية الفكرية التي يترتب عليها السلوك).. إلى آخر كلامه الذي سقته قبل صفحات.

قال أبوعبدالرحمن: في المواجهة التي ذكرها - وهي موجودة منشورة بلا تحريف - ذكرتُ بعض حريات كونية منحها الله عباده؛ ولهذا لا يحاسبنا في الشرع إلا على ما مَلَّكنا القدرةَ عليه وحرية اختياره؛ فلماذا الظلم بالافتراء عليَّ أنني لم أذكر إلا حرية الفكر ؟!.. وترتُّب السلوك على ضرورة الفكر كما يجب أن يكون لا كما هو كائن في الأكثر، وليس السلوك مترتِّباً على حرية الفكر، ولكن السلوك المعادي للعقل والشرع مترتِّب على حرية الشهوات والشبهات.

والوقفة الثامنة: أن ابن فراج نسب إليَّ (وصدق في ذلك) أنني قلت: « لا بد أن يكون الإنسان حُراً في فكره لا يضغط عليه فكر مُضَلِّل «.. نعم هكذا قلت، وأرجو الله أن يُثبِّتني على ذلك؛ لأن الله أمر بالصدق، ونهى عن الكذب، ومدح الصدق، ومدح مَن جاء بالصدق، ومدح من صدَّق بالصدق.. ومن لم يُعطِ الفكر حريتَه بتجردٍ، وهكذا إذا أُعْطِيَ الفكر حريته بإطلاق فسيصُدُّه تأمله عن ابتغاء اليقين أو الرجحان، وسينسب إلى العقل رأياً لم يره العقل نفسه، وهذا كذب، وهو أيضاً حَيْدة عن طلب الحق.. والعين لها رأي هو الإبصار بعد مَدِّ النظر، وقد جاء الرأي للعين في قوله تعالى: {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}، (سورة الأنفال - 13)، وقد قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: «ولا يُرى بالعين رأياً «(8)، وهذا ليس بصحيح، فالرأي مصدر رؤية العين والعقل، ولكن جُعلتْ الرؤية للعين بدل (الرأي) نيابة عن المصدر، وليست هي المصدر؛ للتفرقة بين رؤية العين والعقل، ومصدر كل فعل مصدر واحد لا غير، والأصل فيه أن يكون المصدر بعدد حروف الفعل، وفرق ما بين المصدر والاسم وإن عمل عمله: أن الاسم لما وقع من الحدث، والمصدر لكل حدث وقع أو هو واقع أو سيقع؛ وهذا معنى تجرُّد المصدر من الحدث.. وأما ما يذكره النحاة واللغويون من تعدُّد المصادر فذلك نيابة عن المصدر؛ لأنه يعمل عمله كقولك: (رؤيتي زيداً تسرني)؛ فنصبت زيداً بالرؤية.. وفي حالات يُمات المصدر ويُجعلُ المصدرُ نائبَه؛ فلا تقل: (قعدت قَعْداً)؛ لأن الحدث لا يتم إلا بحركاتٍ وإكمالِ هيئة تُسمَّى قعوداً.. والعقل ويقينه في الفؤاد يرى رأياً كما قال تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (11) سورة النجم، ولكنَّ رؤية العقل عِلْمٌ فوق معرفة العين الحسية؛ ولهذا تتعدى رؤية العين إلى مفعول واحد؛ فتقول: (رأيت سهيلاً)، وتتعدى رؤية العقل إلى مفعولين، فتقول: (رأيت زيداً تقياً)؛ لأن ذلك معرفة بشخص زيد بالحسِّ المباشر، وعلم بتقواه بالحس المكرَّر (التجربة) وبالاستنباط؛ فالجملة تساوي قولك: (علمت تقوى زيد).. ولك أن تعبر بالرؤيا والرؤية في المنام، فالرؤيا لأنك أُرِيتها، والرؤية لأنك رأيتها لما أُريتها؛ فتقول: (رأيت في النوم، وأُرِيت في النوم).. ومن شهد على عينه أو على عقله برؤية غير حاصلة فقد كذب وافترى، وهذا ما سيقع فيه من لم يُعْطِ عقلَه حريته.. وإلى لقاء إن شاء الله، والله المستعان.

***

( 1) قال أبوعبدالرحمن: جرت العادة على رسمها هكذا (قراءاتي)، واخترت (قراآتي)؛ لأن الألف تحتاج إلى همزتها، وتسقط بعلامة المد (~).

(2) قال أبوعبدالرحمن: يظن كثير أن وضعي ألف الوصل قبل (بن) خطأ، ولا يدرون أنها تكتب لزوماً إذا كان ما بعدها أبا غير مباشر، كما قرر ذلك الحريري في دُرَّة الغوَّاص، وهو الحق.. وتكتب عند الشك هل الأب مباشر أو غير مباشر لتلفت نظر القارئ؛ فيبحث.. ولا معنى ألبتة لما جرى عليه الناس من كتابة ألف الوصل أول السطر إذا كان ما بعدها أباً مباشر، وترتيب تجارب الطبع تتغير؛ فربما وقعت ألف الوصل وسط السطر لا أوله.

(3) قال أبوعبدالرحمن: في مثل هذا يقال (من حيث).. و(حيث) للمكان، ودلالتها على المكان هنا ضعيفة؛ لأن المكان غير مقصود؛ وإنما المراد التعليل، والتعليل بها جائز في أصول لغة العرب، واستعملها فحول العلماء لذلك بدون (من) لما صاغوا (الحيثيات)، و(الماجريات) من (ما جرى) بمعنى تعداد ما في الكلام من وقائع ومُسوِّغات يُعلَّل بها الشيء ويُفسَّر.

(4) قال أبوعبدالرحمن: هذا من لغة الزُّط، فكيف تكون (حرية سلوكية)، وتكون في الوقت نفسه (لا اختيار فيها؟!).. اللهم لك الحمد !!.

(5) قال أبوعبدالرحمن: بارك الله في ابن فراج ما أفصحه !!.. يعطف الصفة (التي) على الموصوف، ولو قال: (وهي التي) لجاء بكلام مستأنف، ولم يُوْهِم بموصُوفَين اثنين والموصوف واحد.

(6) قال أبوعبدالرحمن: يا عباد الله: كيف يكون التفكير في عهودنا المتأخرة: متحرراً من كل ألوان الحرية منضبطاً بكل القيود ؟.. فلعله حرر هذا الكلام المتناقض من أضغاث أحلام غير منضبطة.

(7) قال أبوعبدالرحمن: اللاغي اسم فاعل من لغا اللازم بمعنى اللغو ولا يتعدى.. والصواب الملغية اسم فاعل من الفعل المتعدي (ألغت) بمعنى أسقطت؛ فسبحان من وهبه الفقه في اللغة والأسر اللذيذ من البيان !!.

(8) إعلام الموقعين 1-103 - مكتبة ابن تيمية بالقاهرة.

 

لا مناصَ مِن التفكير بصدقٍ (1-2)
ابو عبد الرحمن بن عقيل الظاهرى

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة