Friday  30/09/2011/2011 Issue 14246

الجمعة 02 ذو القعدة 1432  العدد  14246

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

متابعة

 

رَحِمَ اللهُ العَلاَّمَةَ ابنَ عقيلٍ

رجوع

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... أما بعد:

فقد رفع الله قدر أهل العلم، وأعلى منزلتهم، لأنَّهم وُرَّاثُ الأنبياء والرسل، وحُرَّاسُ الدِّين، وحماة الشريعة، قال الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أتوا العلم درجات}[المجادلة:11]، وقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}[الزمر:9]. الجواب: لا يستوون قطعاً، ولهذا كان ذهاب العلم ثُلْمَةً جَسيمةً، ومصيبةً عظيمةً تحل بأهل الإسلام، جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)). لقد منيت أمة الإسلام في هذا العقد المنصرم بفقد كثير من علمائها الربانيين الكبار، منارات الهدى، ومشاعل النور في الدُّجَى، وبقية السَّلف من أهل التُّقَى، وملاذ أهل الإسلام من الزيغ والهوى، والمؤلم المؤثر توالي فقدهم، وتسلسل رحيلهم، كالعقد المنفرط خرزه واحداً تلو الآخر تباعاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (41) سورة الرعد. قيل: إنَّ نقص أطراف الأرض، خرابها ونقصان أهلها بهلاك الأنفس والثمرات، قال ابن عباس: خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير فيها، وكذا قال مجاهد أيضاً هو موت العلماء.

الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها

متى يمت عالم منها يمت طرف

كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلَّ بها

وإن أبى عاد في أكنافها التلف

اللهم اخلف على أمة الإسلام خيراً، وبارك لنا في البقية الباقية من أهل العلم الكبار يا مجيب الدعاء، لقد نعى أهل العلم وطلبته قبل أيام شيخنا العلامة المحدث الفقيه العالم الرباني شيخ الحنابلة/ عبد الله بن عبد العزيز العقيل -رحمه الله تعالى وأسكنه الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين- إثر مرضه الأخير... وفقيدنا من القلة الباقية من أهل العلم الكبار، الذين بارك الله في عمرهم وعلمهم وعملهم، فنفع الله به خلائق من طلبة العلم من مختلف البلدان والأمصار، خلال مسيرته المشرقة، وعمره المديد الحافل بالعلم والدعوة والطاعة، لقد قضى فقيدنا حياته العلمية منذ نشأته في كنف كبار العلماء في زمانه بدءاً بوالده رحمه الله، وأمضى أكثر من نصف قرن في حياته الوظيفية في سلك القضاء، إلى أن وصل إلى رئاسة الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى، وتنقل خلال ذلك في عدد من مناطق بلادنا الغالية، ولست هنا بصدد عرضٍ لترجمة شيخنا الفقيد، فهذا ما لا تحتمله مثل هذه المقالة العابرة، إنما مذكرٌ وملمحٌ لبعض مآثر شيخنا الراحل، ومناقبه التي عايشتها وشاهدتها، ليفيد منها من شاء الله من عباده، وهذا اعترافاً بفضله، وتوثيقاً لعطائه، ووفاءً لبذله، وأداء لبعض حقه. لقد شرفني الله تعالى وغيري كثير من الطلبة الأخذ عن هذا العلم الرباني وملازمة دروسه في مكة المكرمة حين قدومه إليها الأيام البيض من كل شهر، إلى أن حال دون قدومه مرضه الأخير، والحق أني أفدت من فضيلته كثيراً لا في العلم والفقه فحسب! بل أفدت من سيرته العبقة، وسمو أخلاقه، ونبل تواضعه، وحسن سمته، وكبير زهده، وسعة حلمه، وجزالة كرمه، ورحابة صدره، ورباطة جأشه، وصبره وجلده في العلم والعبادة، وتمسكه بالسنة، وحبه وتقديره للعلم وطلابه... ما لا أحصي من الفوائد، وما وجدت أثره في حياتي ولله الحمد. لقد كان شيخنا الراحل عالماً فقيهاً ومربياً خِرِّيتاً... كان حقاً مدرسة شامخة، وقامة عالية -قل نظيره- في: العلم، والأدب والأخلاق، والسلوك، والتربية، حباه الله العلم والعمل، وزينه بصفات عباد الرحمن، جمع بين الفقه في الدين، وفقه العمل والسلوك، عُرِفَ عن الشيخ حبه للعلم والعلماء والطلبة، فكان يحرص في تنقلاته ورحلاته الداخلية والخارجية للدول العربية والإسلامية، وفي كل مكان يحط فيه على الاتصال بأهل العلم. إن الحديث عن شيخنا الراحل بذكر مناقبه، وتوثيق مآثره، يطول جداً بيد أنني سألمح في هه المقالة عن خلتين اتصف بهما شيخنا الراحل -رحمه الله-، وهما: صبره وجلده، وتواضعه.

أما صبره وجلده فعجيب متعدد الجوانب رغم كبر سنه وما قد يعتريه من عوارض صحية، فالشيخ ناسك عابدٌ زاهدٌ لديه صبر وجلد على العبادة والطاعة والمحافظة على النوافل، والعمل بالسنة في شأنه كله، فظل سنون -إلى أن منعه مرضه الأخير- يحافظ على مجاورة المسجد الحرام في الأيام البيض من كل شهر، مع صيامه لها، وغالباً ما يأتي مكة معتمراً رغم ما يلاقيه من جهد، ويواجهه من مشقة وتعب كبيرين، وله جلد وصبر عجيب على تدريس العلوم الشرعية في دروسه الخاصة والعامة بعد أدائه لفرائض الصلاة بالمسجد الحرام (الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب)، في مختلف العلوم الشرعية، وإن كان يغلب على الطلبة قراءة كتب الفقه الحنبلي ومختصراته، لعناية الشيخ واهتمامه بالفقه لا سيما فقه الحنابلة، وله صبر وجلد على الطلبة المنهمرين على دروسه من كل حدب وصوب، صغاراً وكباراً، مقيمين ووافدين، وزائرين عابرين، فيولي الجميع اهتمامه، ويلبي رغباتهم في القراءة والشرح، ويقوم بتوجيههم وإرشادهم برفق وحلم وأناة، مع ما يلاقيه من مشقة وإصرار وإلحاح وتزاحم على الدروس، ومن جلده وصبره: أنه لا يرد أحداً من الطلبة يستأذنه في القراءة عليه خصوصاً الآفاقيين الذين يقصدون الشيخ من أماكن بعيدة، وكثير من الطلبة لهم مواقف في هذا الأمر، منها: أنني طلبت من شيخنا مع الزميل الدكتور أحمد بازمول أن يخصنا بوقت لقراءة ثلاثيات المسند عليه، فمنحنا وقتا خاصاً لذلك في الضحى بمسكنه بالشامية إذ ذاك، رغم أن الشيخ صائمٌ ومجهد وعلى سفر، وقد لمسنا آثار ذلك على الشيخ رحمة الله عليه. لقد كانت دروس شيخنا العامة ومجالسه عامرة بحضور كبار الطلبة من مختلف المناطق والأمصار، ومنهم: أعلامٌ وأساتذةٌ في الجامعات، وقضاةٌ، وأئمة مساجد، وطلاب بالمعاهد والدور الشرعية، فقد تحول المجلس الحديثي الشهري الذي كان يعقده الفقيد بمنزل الشيخ الوجيه أبي عبد العزيز عبد الله بن أحمد بن بخيت، إلى ملتقى علميٍّ شَهْرِيٍّ كبير للعلماء والدعاة، يجتمعون فيه بالشيخ على الدرس كخلية النحل من كل حدب وصوب؛ فجزى الله أبا عبد العزيز على رحابة صدره، وكرمه وبذله السخي خيراً، ومن شابه شيخه فما ظلم، وممن حضر بعض هذه المجالس العلمية المباركة، مفتي باكستان المحدث الفقيه محمد تقي العثماني، وفضيلة الشيخ أحمد المزروع رئيس محاكم التمييز بالغربية، وفضيلة الشيخ عصام الراجحي رئيس المحكمة الجزئية، والشيخ الدكتور ربيع بن هادي الدخلي، والشيخ الدكتور وصي الله بن محمد عباس المدرس بالمسجد الحرام، والدكتور شامي الدعياني، والدكتور محمد الحربي، والدكتور وليد المنيف، ومحدث البحرين نظام بن محمد يعقوبي العباسي، ومحدث الكويت محمد بن ناصر العجمي، والشيخ يوسف العطير، والشيخ يوسف المزيني، وغيرهم، أما تواضعه فظاهر وملموس لكل من عرفه واتصل به وهو من مناقبه الجليلة، فمن ذلك: تقديره لأهل العلم في مجالسه العلمية، فقد كان يفسح المجال للمداخلة والتعليق، ويستمع لمن هم أقل علماً وفقهاً وقدراً منه، وربما يحيل طلب الإيضاح والإفادة في بعض المسائل إلى بعض الحاضرين، ومن تواضعه: إجابته لدعوة من يدعوه رغم كثرة انشغاله وارتباطه العلمي بتدريس الطلبة، ومنه: تقديره لكبار الطلبة خصوصاً طلبة الدراسات العليا، وإيلاؤهم مزيداً من الاهتمام، ومنه: استجابته لتلبية رغبات الطلبة في اختيار الكتب التي يقرؤونها عليه ويشرحها، وأذكر أننا لما انتهينا من قراءة مسموعات الشيخ المجموعة في كتاب: ((النجم البادي)) مرتين بقراءتي غالباً، استأذنته في أن نبدأ الدرس في الشهر القادم بالقراءة من ((صحيح البخاري))، فأشار شيخنا الدكتور وصي الله عباس على الفقيد أن نقرأ من ((مختصر صحيح البخاري)) للعلامة الألباني -رحمه الله-، وحينها أثنى الفقيد على كتاب مختصر الألباني للبخاري ثناء عطراً، وأخذ يقارن بينه وبين مختصر الزبيدي مفضلا مختصر الألباني للبخاري على غيره من مختصري البخاري، ومعدداً بعض ميز مختصر الألباني وفوائده على غيره، ثم نظر الشيخ إلى الطلبة وشاورهم جميعاً في ذلك، ولما استحسنوا المقترح وافق الشيخ عليه، وبدأنا في القراءة على الشيخ من ((مختصر صحيح البخاري)) للألباني، إلى أن حال دون حضور شيخنا لمكة مرضه الأخير ثم توفي -رحمه الله- وكان آخر درس للشيخ من هذا الكتاب بتاريخ 14-8-1431هـ ووقفنا عند باب: ما ينهى من الحلق عند المصيبة، ومن تواضع الشيخ: استقباله لجموع الناس ومحبيه صغاراً وكباراً، علماء ودهماء، أغنياء وفقراء، بالحفاوة والترحاب والتكريم، ويسأل عن أحوالهم وأمورهم، كما كان يتفقد بالسؤال عن المشايخ والعلماء، ويسأل عن الطلبة الذين لم يرهم حاضرين. لقد كان شيخنا جليل القدر، وقوراً وقدوةً عملية للجميع، مربياً وموجهاً فاضلاً، يضفي على طلبته صفة الأبوة؛ فيتعاهدهم بالنصائح والتوجيهات التربوية فيما يحتاجونه أو ما قد يلاحظه عليهم، بأخصر عبارة وألطف إشارة، وله اكثير من المواقف الأبوية والتربوية في توجيه الطلبة أثناء الدروس والمجالس... وهذا جانب مهم من سيرة الفقيد وشخصيته. اللهم اغفر لشيخنا العلامة شيخ الحنابلة عبد الله بن عقيل وارحمه رحمة واسعة، وبارك في عقبه، وفي بقية علمائنا الكبار، وأخلف علينا خيراً. والله ولي التوفيق.

كتبه أحد تلامذته: د. سامي بن أحمد بن عبد العزيز الخياط - المرشد الديني بهيئة الأمر بالمعروف بمكة المكرمة

sssssss-87@hotmail.com
 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة