Friday  07/10/2011/2011 Issue 14253

الجمعة 09 ذو القعدة 1432  العدد  14253

  
   

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

متابعة

 

العلامة ابن عقيل وقرن في التعليم

رجوع

 

إن أثر رحيل النفوس يتفاوت بتفاوت المصاب، فرحيل العالم يتعدى مصابه أهله وأهل بلده لما أودعه الله في جنباته من إرث النبوة.

إذا مات ذو علم وتقوى

فقد ثلمت من الإسلام ثلمة

وموت الصالح المرضي نقص

ففي مرآه للإسلام نسمة

وقال أيوب السجستاني (إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد أحد أعضائي)، فهذا شأنه بالرجل العادي فكيف بفقد العالم.

وهذا ما رزأ أهل الإسلام يوم الثلاثاء 8-10-1432هـ برحيل العالم الفذ الزاهد الورع، والنور الساطع، والقاضي البارع، الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل.

صاحب اليد الطولى في المذهب الحنبلي، واليراع السائل في تدوين الإجازات العلمية. المولود في عنيزة القصيم عام 1335هـ، وجاء رحيله بعد قرن من العطاء والبذل العلمي.

بمصابه انهدم بنيان سامق، وتزلزل جبل شامخ، بعد أن استهدى بعلمه كل طالب، وارتاده كل عالم، وقصده كل سائل ومناظر، فرحمه الله رحمة واسعة.

بفقده انصرف الأصحاب، وتفرق الأحباب، وتوقف مداد يراعه بعد أن دون المؤلفات وقرظ المصنفات.

وما كان قيس موته موت واحد

ولكنه بنيان قوم تهدم

وعزاؤنا ينجبر بآثاره الوافرة، ومكارمه الهائلة، إنها تحيي ذكره، وترفع قدره، وتعظم أجره، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}.

مات قوم وما ماتت مكارمهم

وعاش قوم وهم في الناس أموات

أمضى قرناً من التعلم والتعليم، ناقلاً علم الأولين للآخرين، إنه موسوعة علمية فقهية أدبية، فقدناه أحوج ما نكون إليه فقدناه في خضم اضطراب المعلومات، والجرأة على الفتوى في المعضلات، والتصدر قبل الأوان، قال أهل العلم لما قتل سعيد بن جبير: ذهب سعيد والناس أحوج ما تكون إلى علمه حيث نهل من حبر الأمة وترجمانها عبد الله بن عباس رضي الله عنه.

وإصابة الأمة في علمائها إصابة لعلمها، ففي الحديث (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور الرجال ولكن بقبض العلماء).

وبالنظر في سيرته لا يستغرب المرء بزوغ نجمه بين أقرانه وتبوئه عالي المنزلة لأنه ابن أسرة ذات فضل وعلم وصلاح.

قيل (صلاح الآباء يدرك الأبناء).

وقال ابن المنكدر: (إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر).

صبره وتحمله سبيل العلم

كان العلم غايته -رحمه الله- صابراً مثابراً في سبيله في حله وترحاله، دام سبعين عاماً يبذل العلم.

طلابه بين صادر ووارد من شتى البقاع يتلقون العلم بين يديه. بدايات تدريسه عام 1354هـ فاستمر صابراً محتسباً.

يقضي جميع ساعات وقته علماً وتعليماً في المسجد والبيت والسيارة وربما في خطواته للزيارة.

إنه ينقل صورة عمن تلقى عنهم من مشايخه الأفذاذ كالسعدي ومحمد بن إبراهيم والقرعاوي وغيرهم -رحمهم الله- إن له في سلفه سنة ماضية، قيل للإمام أحمد وفي يده محبرة وقلم إلى متى هذا فقال مقولته المشهورة (من المحبرة إلى المقبرة).

وقيل للشعبي كيف نلت هذا العلم فقال: (بترك الاعتماد وسير في البلاد وبكور كبكور الغراب وصبر كصبر الجماد).

ومن جميل صنيعه وكرمه أن هيأ في بيته مجلساً علمياً يستقبل فيه أهل العلم والمعرفة كل ليلة خميس فيجتمع فيه رواده وكبار ضيوفه، إنه محفل علمي تحفة الملائكة وتغشاه الرحمة لما يدور فيه من مسائل علمية ومناقشات فقهية ودعوة إلهية.

فكم ازدان مجلسه بخلانه، وانتظم عقده في صيفه وشتائه.

وكان لي شرف رؤية هذا المجلس وصفته أن تصدر فناء بيته، أحاطته المقاعد من جهاته الثلاث، وغطت أرضه الفرش الناصعة، وعلت صدره اللاقطة مما يوحي كثرة رواده ومداخلات أفراده. فأنعم به من مجلس طويت صفحاته بعد أن ذاع صيته، وملأ الآفاق بأحاديثه.

ويصحب مجلسه -رحمه الله- وليمة العشاء التي يختم بها الاجتماع، قال الشيخ محمد العبودي (الشيخ كريم يكرم الضيوف).

شيخ الحنابلة

عُمّر الشيخ ما يقارب مائة عام مدركاً ما لم يدركه الآخرون من الفقه الحنبلي مما يجعله يتبوأ منزلة عالية، لقبه البعض (شيخ الحنابلة) لسعة إدراكه وفرط فطنته وذكائه، أحاط بكبار مسائل المذهب كما أحاط بصغارها حتى أن البعض أطلق عليه لقب (المدخل إلى مذهب الإمام أحمد).

إنها درجة علمية لا يصلها إلا من جمع كثير الإجازات من أهلها والشيخ نال الكثير الكثير من إجازات مشايخه، ومع أنه بارع بمذهبه لم يغفل المذاهب الأخرى بل نال منها النصيب الأوفى.

الاهتمام بالسند

قال ابن المبارك (الإسناد من الدين) سند الحديث يعرف به الصحيح من الضعيف وهو من خصائص أمة الإسلام به حفظت موروثها. والشيخ يدرك أهمية السند لذا حاز على هذه الفضيلة حيث قرأ الأمهات كصحيح البخاري ومسلم وغيرهما على أهلها ممن يروونها بالسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل رحل في طلب الإسناد.

وللشيخ محفوظات بالسند المتصل لأحاديث متعددة منها حديث مسلسل المحبة الذي يرويه معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أحبك فقل اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). فكل راوٍ يقول لمن يحدثه (اللهم أعني على ذكرك)..

التحري في الفتوى

كان -رحمه الله- قاضياً ومفتياً يجيب على أسئلة السائلين سواء عرضت عليه مباشرة أو عبر الهاتف، وكان هاتفه حذو مقعد جلوسه يتناوله متى سمع رنينه، ثم يعود إلى التحدث مع جليسه أو من جلس إلى تدريسه، وهذا ما رأيته عندما زرته للفوز بتقريظه.

مع تضلعه بالعلم واستحضاره للجواب إلا أنه ربما توقف عن الفتوى كتوقفه بمسألة الطلاق بالثلاث تورعاً وخشية.

إنها سنة السلف خوفاً من تبعات الفتوى، فمالك -رحمه الله- سأله سائل أربعين مسألة أجاب عن أربع وتوقف في ست وثلاثين مسألة، وسفيان بن عيينة كان لا يفتي في الطلاق. إنها سنة درج عليها الشيخ مهتدياً بمن سلفه. فهلا اهتدى صغار الطلبة بسيرة من اندرس.

تقريظ الكتب

مكانة الشيخ العلمية والمرجعية جعلته ضوءاً يقصده أهل التأليف والتحقيق ليزينوا مؤلفاتهم بتقريظه وتقديمه.

ففوز المؤلف بتقديم الشيخ تزكية لمؤلفه، فكم من مؤلف تزين بأسطر تقديمه، وخط يمينه.

وكان لي الشرف بزيارته في منزله العامر في الرياض مبدياً له الرغبة بتقريظ كتابنا (العين والسحر) فأبدى من ضعف صحته وانشغاله ولكن حبه للخير جعلني أفوز بتقريظه.

وحينما رأيت الشيخ تذكرت أبو الطيب الشافعي (ت 450هـ) وقد عمر مائة عام وقواه على أكمل حال فقيل له متعت بجوارحك يا شيخ!! قال ولم؟ وما عصيت الله بواحدة منها. فما أشبه أهل الخير بعضهم ببعض سمتاً وهدياً.

ومن لطفه أن أتبع السؤال عن ذرية جدنا الشيخ سليمان الخزيم قاضي نجران -رحمه الله- وأخبرني أن بينهما صداقة وأخوة ومكاتبات، ففرحت بذلك وطلبت منه صوراً منها فوافق بانشراح صدر فأمر أمين مكتبته الشيخ عبدالإله بمنحي إياها فكان لي ما أردت.

ومن جميل صنيعه أن أهداني نسخة من الكتاب القيم (فتح الجليل في ترجمة ثبت شيخ الحنابلة عبدالله بن عقيل) لأحد طلابه، فمن خلاله تغوص في غور أعماله وحليته وآثاره.

سألناه الجميل فما تأبى

وأعطى فوق منيتنا وزادا

مراراً ما تعود إليه إلا

تبسم ضاحكاً وثنى الوسادا

شاعريته

من صفات الشيخ الحميدة أن ميزه الله بموهبة شعرية نافذة يقرظ الشعر ويتذوقه ولكنها شاعرية ملكها ولم تملكه كبقية علماء عصره، بل جعلها وسيلة لا غاية، مع أنه يقول الشعر من غير عناء أو تكلف. في شعره أبيات جامعة، وقصائد هادفة، منها ما يزيد في محبة الإخوان، ومنها ما يصف الأحوال، ومنها الدعاء والابتهال.

من شعره:

بأسمائك الحسنى وأوصافك العلى

وأنعمك اللاتي بها أتمتع

أنلني الرضا والفوز والعفو والرضا

مما في القضاء إني إليك سأرجع

وأصلح لأحوالي وبالي ونيتي

وذريتي يا من إليه التضرع

لك الحمد إذ وفقتني وحبوتني

وهيأت لي ما لم أكن أتوقع

ومنه أيضاً قوله:

يا منتهى كل شكوى إنني وجلٌ

من سوء فعلي وتفريطي وإهمالي

فاغفر ذنوبي وفرج كربي وقني

شرور نفسي وسيئات أعمالي

ومن شعره في الفتن والتعوذ منها:

نعوذ بالله من هَمّ وحزن

ومن بلاء ومن شر ومن محن

ومن شرور أنفسنا طرّا ومن فتن

وسوء أعمالنا يا صاحب المنن

تواضعه

التواضع صفة عزيزة لا يقدر قدرها إلا من عرف فضلها، لذا كان الشيخ ذا تواضع للصغير والكبير، يتفقد أصحابه ويسأل عن شأن طلابه، يعود المريض ويزور القريب والبعيد.

سهل الخليقة لا تخشى بوادره

يزينه اثنان حسن الخلق والكرم

حاجات الناس لديه مقضية مع بعد عن الأذى والمنة، وربما بادر صاحب الحاجة قبل أن يسأله:

إنها صفات ترفع الشأن وتطيل الأعمار.

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر

على طبقات الماء وهو رفيع

وتكن كالدخان يرفع نفسه

إلى طبقات الجو وهو وضيع

اجتهاده بالعبادة

جمع -رحمه الله- صفات العالم الرباني، ففي كل ميادين الخير له أيادي، فقد جعل لنفسه حظاً من العبادة في سرّه وجهره، يقوم الليل ويديم صلاة الضحى، يتصدق سراً وعلانية، يسابق إلى أعمال البر بجهده وماله، وقيام الليل دأب الصالحين فكيف بالعلماء الربانيين، إنه يشار إليه بالبنان إذ بهم يُقتدى وعلى دربهم يُهتدى، قال ابن مسعود رضي الله عنه (الفقهاء قادة والعلماء سادة ومجالستهم زيادة). وقيام الليل لا يقواه إلا من شرفت نفسه، قال ثابت البناني (جاهدت نفسي في قيام الليل عشرين سنة وتلذذت به عشرين سنة). كان يصوم أيام البيض من كل شهر منذ عهد بعيد يصومها في مكة المحروسة رجاء مضاعفة الأجر والمثوبة. وذكر معالي الشيخ محمد الخزيم نائب رئيس شؤون المسجد الحرام من رفيع أخلاقه وصدق أعماله الكثير حيث كان يزوره عند تردده على المسجد الحرام، إنها عزائم الرجال وهمم الأفذاذ.

هكذا ينبغي على العلماء إذ هم دعاة بأفعالهم قبل أقوالهم {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.

محبته والثناء عليه

حظي -رحمه الله- بالقبول عند كبير الناس وصغيرهم ورئيسهم ومرؤوسهم، محبة زرعها الله له في قلوبهم، إنه توفيق رباني، قال زيد بن أسلم: (كان يقال من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا).

وهي عاجل بشرى المؤمن.

وقد تعددت الشهادات من مشايخه في الثناء عليه منها:

قال الشيخ عبدالرحمن السعدي المتوفى 1376هـ (ذي الأخلاق الجميلة والآداب الحسنة والشمائل المستحسنة عبدالله العبدالعزيز العقيل).

وقال محمد بن عبدالعزيز بن مانع: (المتوفى 1394هـ (العلامة الأوحد الفهامة الأمجد الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العقيل قاضي عنيزة).

وقال محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي عام المملكة آنذاك المتوفى 1389هـ (الشيخ عبدالله العقيل من المشايخ الذين لهم حق الإكرام والتقدير) وغيرهم كثير.

ومن شهد جنازته علم بكثرة محبيه إذ شهد الصلاة عليه أعداد لا تحد ولا تعد أتوا باكرين من كل فج عميق، بل ما زال الناس يتوافدون على قبره أفواجاً أفواجاً يصلون عليه ويدعون له.

حتى الزائر لبيته ولأبنائه يدرك مكانة الشيخ في النفوس لما يراه من كثرة المعزين تغدو وتروح، ولا مبالغة أن يقال عنه إنه (أُمّة في رجل). ففي الحديث (أنتم شهود الله في أرضه) رواه البخاري ومسلم. وأخيراً هلا رأينا صرحاً علمياً يتزين باسمه يبث ثروته العلمية ويحفظ رفيع منزلته ويدرك السابق واللاحق ثواب زرعه ويتفيأ كل طالب في ظله (وإن غداً لناظره قريب).

فالله أسأله أن يغفر له ويسكنه جنته ويجزيه عن الإسلام والمسلمين خيراً.

محمد بن صالح بن سليمان الخزيم

مدير المعهد العلمي في محافظة البكيرية

 

رجوع

طباعةحفظ 

 
 
 
للاتصال بناجريدتيالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة