ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Tuesday 24/07/2012 Issue 14544 14544 الثلاثاء 05 رمضان 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

والتلبس بالمظاهرات, والخنوع للعقل الجمْعي, يحولان دون التصرُّف السليم, والإسراع في الانتقال من سُلطة الشارع إلى سُلطة الدولة المؤسّساتية. وحريٌّ بمن أنجزوا هذه الثورات, وأسقطوا تلك الأنظمة, أن يعيدوا قراءة الأحداث وتداعياتها, وأن يرتِّبوا أمورهم لحسم الفوضى ونقل سُلطة الشارع إلى سُلطة المشرِّع.

ولن تكون التنبؤات وتصوُّر التحوُّلات دقيقةً في ظل تلك الفوضى العارمة. ولاسيما أنّ الأنظمة الجائرة حين سقطت، أحسّت الطائفيات والأطياف والعرقيّات والأحزاب بالحرية غير المنضبطة، وغير المسؤولة، وجاء استغلالها لهذه المعطيات غير سوي وغير متّزن.

ولو أصاخ المراقب لفيض الخطابات، لوجدها تمعن في تكريس الذات الاعتبارية، وإقصاء المخالف. فالمشاهد تفيض بلعبة التفاضل، وتزكية المذاهب والتيارات والأفكار. ولم يفرغ الرأي العام للبحث عن الروابط والقواسم المشتركة، وجمع الكلمة، وتوحيد الصف والهدف، والتسامي فوق الخلافات الجانبية. لقد أوغلت الطائفيات في احتكار الحقيقة، وأسرف المتحرّرون في تهميش المتأدلجين، وكلٌّ يدّعي وصلاً بالحرية، والحرية براء من الأثرةِ، واحتكار السُّلطة. و(الليبراليون) الذين يتغنّون بالحرية يستخلصونها لأنفسهم، ويظنّون أنهم يحققون مبادئها، وهم في ممارساتهم من أبعد الناس عنها.

وبعد أن كان الناس يختلفون حول شرعية السُّلطة الغالبة، ويركنون إلى السُّلطة المختارة، تعدّدت من بعد الربيع العربي التساؤلات والاختلافات. فالطائفيات تنتهب الخطى، لتكون البديل الأمثل، والأحزاب تستبق المنابر، لتكون الآمر الناهي، والمستقلُّون يطرحون البدائل وفق خلفيّاتهم الثقافية وأنساقهم المعرفية، وفي كل يوم تضيق المساحات المشتركة، وتنداح بؤر التوتُّر، وتتعدّد البدائل، بحيث لا يمكن التنبؤ بوصول الفرقاء إلى قاسم مشترك، يركن إليه المصطرعون، لتتكافأ الفرص، وتُتَداول السُّلطة، ويتساوى الفرقاء تحت القوانين والأنظمة والشرائع.

ولقد يكون من أخطر التحوُّلات، تعدُّد المرجعيّات، وتنوُّع المفاهيم، وشطح التأويلات، وتباين المناطات، وقراءة التراث الشرعي بعيون معاصرة، لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان. والراصد يقطع بأنّ التاريخ يعيد نفسه. واستبانة ذلك بقراءة التاريخ الحضاري للأمّة الإسلامية، فالذين رصدوا التاريخ من خلال سير أعلام النبلاء، وتاريخ الملل والنحل، كـ(ابن حزم) و(الذهبي) في القديم، و(أحمد أمين) في الحديث، يروعهم افتراق الأمّة الذي أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلم، وحذّر منه. وفي التاريخ الإسلامي نجد التاريخ السياسي، قد هيمن على التاريخ الحضاري، ووجّهه لصالحه، حتى أن كثيراً من الملل والنحل، نسلت من عباءة السياسة فـ(المعتزلة) منتج فارسي، عندما كانت السُّلطة لـ(البرامكة) في ظل (المأمون) وهو من أولاد (أمّهات الخلفاء). يوم أن كنَّ يجلبن الأعراق، ويجذبن الأولاد، و(العرقُ دسَّاس) - كما في الأثر -.

وقد اُستُغلّ هذا التناقضُ لإرساء دعائم السُّلطة، لأنه يملأ الفراغ، ويوغر الصدور. والتاريخ الأموي والعباسي مليء بمحاولات تشتيت الرأي العام، وما ظاهرة (النقائض) الشعرية وشَخْصَنَة (القبليّات) إلاّ واحدة من تلك الاستثمارات غير السوية، وتحقيق للملك العضوض الذي أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلم.

أما بعد الربيع العربي، فإنّ الأمر من بعده مختلف جداً، ومن المتوقّع أن ينخنس التاريخ السياسي بسُلطته المطلقة، ليحلّ محلّه التاريخ الحضاري، ذلك أنّ القائد الذي حملته الانتخابات إلى السُّلطة، ليس بحاجة إلى أن يستدرّ الشعبُ عطفه بالمدائح. والدليل على ذلك تفكيك المؤسسات الدينية تبعاً لتفكيك المؤسسات السياسية، لإعادة صياغتها على ضوء تطلُّعات الشعوب.

وإذا كانت الحاكمية دُوْلةً بين السُّلطات الثلاث:- السياسية والدينية والمجتمعية، فإنّ الربيع العربي صيّرها إلى المجتمعية، ومنطلقها: الشارع، والرأي العام، بوصفه سُّلطة مجتمعية، مهمّته تفكيك السُّلطتين: الدينية والسياسية، وإتاحة الفرصة لنهوض سلطات أخرى. قد تعيد ترتيب السُّلطتين السالفتين، ولما لم يكن الرأي العام راشداً بالقدر الكافي، ولا متماسكاً، فإنّ الفرصة متاحة لتفعيل جماعات الضغط والأقلِّيات، وذلك من مؤشرات التحوُّلات الفكرية.

ومن أخطر التحوُّلات الفكرية، تحوُّل الخطاب الإسلامي، لقد كان من قبل الربيع العربي دعوياً حجاجياً، يراقب وينتقد ويقوّم، ولكنه اليوم يتحوّل من مهمّته الدعوية إلى مهمّات عملية، إذ ينازع على السُّلطة، وهو وإن كان محقاً في تقحُّمه، إلاّ أنّ عليه أن يعيد النظر في خطابه السالف. لقد كان بالأمس مهمّشاً، ومراقبته على استحياء. وهو اليوم مسؤولٌ ومشرعٌ، وشريك في صناعة القرار. والفرق بين المراقبة والممارسة يستدعي استبدال خطاب النقد والإقصاء والتصنيف بخطاب الاحتواء، وتساوي الأبعاد بينه وبين مختلف الخطابات. بحيث يقف موقفاً وسطاً، تكون المسافات بينه وبين الآخرين متساوية، إذ لا مجال للإقصاء، ولا للأثرة، ولا لاحتكار الحقيقة، وحين يستأثر أيُّ خطاب بالسُّلطة، فإنّ مسؤوليته تختلف عن خطاب المراقبة والمعارضة، نقول هذا ونحن نؤمن بأنّ الحكم لله.

ولأنّ العالم العربي يتشكّل من أطياف وطوائف وأحزاب فكرية ودينية وطائفية، ولكلِّ حزب (أيديولوجية) مغايرة، فإنّ من يختاره الشارع لتسنُّم المسؤولية، مُطالَبٌ باستيعاب كلّ الأطياف، والوقوف منها موقفاً متساوياً مع موقفه من ذاته ومن الآخر.

ومعتصر المختصر أنّ التحوُّلات الفكرية سوف لا تتخذ سبيل المصالحة وتقاسم المواقع، ولكنها ستصبح حجاجية إقصائية، وسيكون الرأي العام ألعوبة للمتنفّذين، يحركونهم كلّما أحسّوا بفوات الفرص.

وإذا كان الفكر العربي من قبل استسلامياً توافقياً، فإنه اليوم سيكون حجاجياً تصادمياً، ومن المستبعد أن تلتقي الأطياف حول كلمة سواء. إنّ هناك العلمانيين و(الليبراليين) والطائفيين والقبليين والإقليميين، وكلُّ حزب يودُّ أن يستأثر بالحكم، ولن يرضيه أخذ نصيبه، وتمكين الآخرين من أخذ أنصبتهم. وعلى ضوء هذا التنازع سيكون هناك خياران:

خيار التصالح وتقاسم الحقائب.

وخيار الأثرة واحتكار السُّلطة.

ولكلِّ خيار سلبياته وإيجابياته. وما نودّه للمشهد الفكري العربي وعيَ الواقع، وإدراك المباح الممكن وغير الممكن، واستيعاب المخالف، وتغليب المصلحة العامة، والتفاني في تثبيت محقّقات الحضارة.

فالعالم العربي تقوم حضارته على ركنين أساسيّين:

- الدِّين

و

- اللغة.

وهذه الثنائية واكبت التاريخ الحضاري، ولم يتحقق العز والتمكن إلاّ بمثولهما بكل محقّقاتهما، فلا لغة بدون عقيدة، ولا قوة بدون لغة: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}.

فالدِّين واضحٌ، ومحجّته بيضاء، ومرجعيّته: الكتابُ وصحيحُ السنّة. ولا يحمله إلاّ العلماء العدول الذين ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين.

واللغة واضحة بضوابطها ومقاييسها ومعاجمها ونحوها وصرفها وبلاغتها.

وما لم نلذْ بهما، فإننا سنظل مكشوفين للأعداء، الذين يلتفُّون من حولنا، كما حبل الفجيعة الملتف حول العنق، ومن ذا الذي يعاتب مشنوقاً إذا اضطربا.

 

تحوُّل الخطاب الفكري بعد الربيع العربي..! (3-3)
د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة