ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Thursday 02/08/2012 Issue 14553 14553 الخميس 14 رمضان 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قال أبو عبدالرحمن: لن أقول ههنا كلمةً رخيصة، بل كل ما أقوله دين في ذِمَّة كبار المثقفين والعلماء الذين لهم تخصصات في العلوم الفكرية والعلوم المستجدَّة؛ وذلك القول عن كُبْرى اليقينيَّات، وهي وجود الله بصفات الكمال المطلق الذي لا يقبل إضافة، والتنزُّه المطلق الذي لا يقبل

سلباً، والإيمان بهذا يقين أعظم من اليقين بالظواهر التي يدركها الحسُّ البشري، وما دام الأمر كذلك فَلِمَ حصل هذا الفيض العَفِنُ من التشكيك كتباً ومقالات؟!.. وآخر ما قرأته في هذا كتاب (الله والإنسان / على امتداد أربعة آلاف سنة من إبراهيم الخليل [عليه السلام] حتى العصر الحديث).. كتَبَتْهُ الراهبة الإنكليزية سابقاً كارين آر مسترونغ [1944م]، وتطوع بترجمته محمد الجورا ترجمة تسويقية خائنة رسالة التحقيق الفكري والعلمي؛ لأن ترجمته خالية من تحشيات بقلمه تلاحق كل ما طَرَحَتْهُ الكاتِبة.. وليس مشروطاً عليه أن يكون معارضاً لها، بل المشروط عليه أن يُظهر بوضوحٍ الاستدلال لِشَبَهِ قناعته، أو أن يظهر أنوار البراهين على تفنيد الشُّبه عن علم وفكر.. وتطوعت دار الحصاد للنشر والتوزيع في دمشق [وَأقْبِحْ بها من دار] بترويجه، وستجد العجب من مسرد إصداراتها آخر الكتاب، وكان تقديم المترجم القصير تسليم مطلق بكل ما طَرَحَتْهُ الكاتِبة عن أحكام جاهزة ادِّعائية بلا برهنة، وغرَّهم كتابها عن عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وعنها وعن هذا الكتاب حديث يأتي إن شاء الله في بعض المناسبات بعد ترويحٍ أدبي.. والكاتِبة تذكر قصة إيمانها منذ الطفولة إلى أن انتهى بها المطاف إلى ضلال (أن الإيمان بالله ليس له معنى)؛ فما أعظمها من دعوى مُتَعَمِّدةٍ الكذب في تغييب كل معنى في الوجود لا صحة له إلا بالإيمان بخالق الكائنات سبحانه وتعالى.. وكانت تزعم أن الكتاب تأريخ للإيمان والإلحاد، والأمر في ذلك سهل؛ لأنه عرض تاريخي؛ ولكنها جعلت الكتاب شيئاً آخر غير العرض التاريخي، وهو التسليم بالإلحاد بعد تغييب براهين الإيمان، والتضليل بِشُبه الإلحاد من غير عناء فكري علمي.

ومن حق القارئ أن يسأل: لماذا تغييب اليقين؟.. أليس الباحثُ الجادُّ مُؤْتمنٌ على فِكرِه وصِدقِه مع نفسه؟.

قال أبو عبدالرحمن: معنى (الجادِّ المُؤتمن) أن يَظهر صدقُه مِن العقل الإنساني المشترك حسب فطرته فيما يعرف ويعلم، وفيما لا يعرفه وما لا يعلمه، وفيما هو على الاحتمال؛ فلا يُسقط من العقل ما فيه من الأحكام البرهانية، ولا يَدَّعِ عليه ما لا سبيل إليه، ولا مجال للإدراك معرفةً أو علماً إلا بحضور العقل حسب نظامه الرياضي وَفْق ما أظهره العقل الإنساني المشترك بحضور علمي عن نظرية المعرفة؛ فمن حاول أن يقنعني بأن 2+2=5 فليس جاداً مؤتمناً، بل هو عابث مضلِّل .

وأما لماذا (تغييب اليقين) فيحتاج إلى مقدمة قصيرة، وهو أن جمهور أهل الأديان المنسوبة إلى الله جل جلاله من المسلمين والنصارى واليهود مجمعون على الإيمان بالله إيمان الربوبية بمعنى أنه خالق الكون ومُدبِّره بإرادته وحده.. ولهم اعتراف كثير بكمال الله المطلق وتنزيهه المطلق، وأن له شريعة يُعْبد بها.. ولكن حصل عند شُذَّاذ الأديان الثلاثة -وما أكثرُ الناسِ ولو حرصتَ بمؤمنين- خلل في توحيد الربوبية من تعجيزٍ لله في بعض الأمور، ومشاركة المخلوقات له في بعض الأمور؛ فأخلَّ كل ذلك بالإيمان بكمال الله المطلق وتنزُّهه المطلق، وحدث خلل في خلوص العبادة لله وحده؛ فأما المنتسبون إلى الإسلام فهم بدعواهم الإسلام مردودون إلى كتاب الله وما أحال إليه من المصادر كالإيمان بأن ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيٌ غير متلو، وأن الحس والعقل مسؤولان، وأنَّ مادَّة علمهما الآفاق والأنفس ولا ثالث لذينك.. وهم مردودون إلى علوم الآلة لتحقيق ثبوت النص، وثبوت دلالته.. وأما اليهود والنصارى (وعندهما عناصر حق وخير مشترك على الرغم من كل ما طرأ على أديانهم) فهم مردودون أوَّلاً إلى مسؤولية الحس والعقل من الآفاق والأنفس؛ وبذينك قام علمهم المادي، وهذه المسؤولية تنفي كل ما طرأ على كتابيهما من خلل في الإيمان بالله على الكمال المطلق ربوبية ووصفاً وعبادة مشروعة خالصة لله وحده.. وينتج عن ذلك عصمة الشرع والرسل صلى الله عليهم وسلم في الأحكام والأخبار.. وهم مردودون إلى علوم التوثيق في فحص كتبهم من نسخها الخطية الأولى، وفي استخراج ما هو مكتوم من النسخ عند يهود.. وهم مردودون إلى علم الدلالة باللغات التي نزلت بها كتبهم، وهم مردودون إلى ما يُقِرُّ به دينهم الحاضر مِن أنَّ تعاقب الرسالات، ونَسْخ الشرائع، وثبوت الأخبار والأخلاق بلا نسخ: هو سنة الله الكونية في تنزيله شرائعه.. وهذه الحقوق الفكرية العلمية، والحديث عنها هو جواب (لماذا تغييب اليقين؟)، وهي حقوق اعتدت عليها يهود بوسيلتين إحداهما عملية، والأخرى فكرية؛ والسر في ذلك أن ما ورثوه من تبديلٍ أشرب عقولهم بأنهم صفوة الخلق، وأن الناس لن يتهوَّدوا؛ لأن الله في زعمهم قضى بأن الخلائق (جوييم) وثنيين غنيمة لهم، وأن عقباهم لن تكون إلا بعد فساد العالم بالإلحاد والإباحية والعدمية.

قال أبو عبدالرحمن: لا نزاع في أن الله فضَّل بني إسرائيل تفضيلَ عِرْقٍ بنعم دنيوية، وجمهور يهود اليوم ليسوا هم بني إسرائيل.. ولا نزاع أن هذا التفضيل تفضيلٌ دنيويٌّ ابتلاءً لهم؛ فجعل منهم ملوكاً ورسلاً كثيرة من ذرية يعقوب من الأسباط ابتداءً بموسى عليهم الصلاة والسلام، وأظهر لهم آياتٍ بيِّناتٍ قاهراتٍ من المعجزات كعصى موسى ومعجزات عيسى وموت عزير وأصحاب السبت وأهل الكهف وأهل القرية في سورة البقرة.. إلى القُمَّل والضفادع والدم.. إلخ، فزادتهم هذه النعم كفراً وطغياناً وإفساداً في الأرض، بل قالت (جولدا مائير) في مذكراتها: (نحن اخترنا الله إلهاً قبل أن يجعلنا شعباً مختاراً)؛ وبهذا كان أكثرهم أَخَسَّ الناس ديناً وأخلاقاً.. وأما خيرية المسلمين من أي عِرْقٍ كانوا، وخيرية العرب الذين رسموا حدود البلاد العربية والإسلامية: فلهم فضل عرقي مشترك يخص العرب وبني إسرائيل؛ لكونهم كلهم ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهم فضل عرقي خاص تميزوا به عن ذرية الأسباط؛ إذْ من الأولين مُهْتدٍ وكثيرٌ منهم فاسقون، وهو ما جَبَلَ الله عليه جمهورَ العرب من الغيرة والإيثار والكرم والشجاعة وصفاء الفكر؛ فكان الإسلام لتهذيب مكارم أخلاقهم لا لتأسيسها.. ثم انفرد عموم المسلمين من أي عِرْقٍ كانوا بفضيلة أُخروية لا يدانيهم فيها أحد، وهي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر؛ فلم يُسوِّقوا إلحاداً ولا إباحية، وأنهم أقصر أعماراً وأعظم أجوراً، وأنهم أكثر أهل الجنة، وأن دينهم ناسخ مؤبَّد إلى أن تقوم الساعة على الرغم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد، ومُكْثه فيهم قليل، ولم يأتهم من المعجزات معشارُ معشارِ ما جاء بني إسرائيل، وكان إيمانهم في القرون الأولى الممدوحة وإيمان تابعيهم على التقديس للرب سبحانه بإطلاق، والإيمان بعصمة الشرائع قبل التبديل، والإيمان برسل الله عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته، وبلوغهم الغاية في طهارة القلب والجسد.

قال أبو عبدالرحمن: بعقدة (شعب الله المختار) ابتدعوا الوسيلتين (العملية والفكرية) المذكورتين آنفاً؛ فأما الوسيلة العملية فهي محاولة إخراج المسلمين والنصارى عن دينهم؛ حتى يظلوا -بزعمهم الكاذب- جوييماً وثنيِّين؛ وذلك بالتضليل في تحسين الإلحاد والإباحية وفرض دين وضعي لا يتجاوز علاقات البشر فيما بينهم، وذلك هو القانون الوضعي بدل الشرائع، ولا يهمهم أن تنال الإباحية والإلحاد يهودَ أنفسهم؛ لأن الوسيلة الخبيثة مشروعة عندهم من أجل تحقيق مقاصدهم؛ فنشأ عن ذلك صهاينة يهود مُضلِّلون (بصيغة اسم الفاعل) يقولون ما لا يعتقدون من أمثال كارل ماركس ودارون وفرويد وإسبينوزا، وهم على السنة التي بيَّنها ربنا بقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}البقرة76.. ووجد صهاينة مُضَلَّلين بصيغة اسم المفعول؛ فكانوا لخدمة يهود وليسوا يهوداً؛ وجاء ضلالهم من العمل الصهيوني الظلامي، ومن أشياء باطلة وجدوها في المأثور من التبديل .

وأما الوسيلة الفكرية التي ابتدعوها فهي تغييب البراهين المعروفة في الآفاق والأنفس، وما تنتجه هذه المعرفة من علم عن الواقع المغيَّب؛ فاصطنعوا مذاهبَ فلسفيةً لا تُحصى كثرةً للتشكيك في ضرورات العقل المشترك، وما يُنتجه العلمُ الحديث من معارف وبراهين؛ وذلك هو اصطناع (الحِسْبانية) كذباً مع عُمْق إيمانهم بأن نتائج كل علمٍ مادِّيٍّ هي البناءُ والأساس لفتحٍ علميٍّ مادِّيٍّ آخر، وأنَّ ضرورات العقل الرياضي هي المصاحِبةُ العلمَ الماديَّ منذ الافتراض إلى الملاحظة إلى النتيجة.. كما أن العقل هو السبيل الوحيد الذي يحتجُّ به المُحِقَّ ويُحاجُّ به المُبْطِل؛ لأنَّ العقل يُنسَب إليه فكرٌ عقليٌّ حقيقيٌّ ناتجٌ عن رؤية العقل نفسه (البصيرة)، ويُنسب إليه فكرٌ تأمُّليٌّ يحكمه ملكة العقل الخياليَّة، والقُدْرة على التضليل بصيغ المغالطات (السفسطة) التي يدحضها العقل الإنساني المشترك بفطرته الطبيعية، وربما عنَّت مناسبة لزيادة هذا الأمر إيضاحاً، والله المستعان.

 

أهو غِيابُ (اليقينِ)، أو تَغْيِيبه؟!
ابو عبد الرحمن بن عقيل الظاهرى

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة