ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Friday 03/08/2012 Issue 14554 14554 الجمعة 15 رمضان 1433 العدد 

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

      

سليم ولد بعد وفاة والده الفلاح بثلاثة أشهر، تعهدته والدته وحيداً، ووحيدة، صابرة على الوحدة، ناذرة نفسها لسليم، متحدية ظروف الترمل واليتم، نجح سليم في الثانوية بعد عقدين من ولادته، وقبل في معهد المعلمين، تخرج بعد سنتين، عين معلماً في مدرسة القرية، أمه الأرملة فرحت به.., رأت فيه ثمرة سنين ترملها وشقائها، ومكابدتها السنين وحيدة مع وحيدها.. لكن أم سليم لم تكتمل فرحتها إلا بزواج سليم، فبدأت مشوار البحث عن الزوجة الجميلة، والمناسبة، واللائقة للاقتران بولدها وفلذة كبدها، المتعلم، والمعلم في مدرسة القرية، وقع اختيار أم سليم على سمية بنت النجار، جميلة مؤدبة، وبنت بلد أصيلة، وافق المعلم سليم على اختيار أمه لشريكة حياته، شريطة أن تصبح سمية مدنية..، لأنه لا يليق به وبمقامه كمتعلم ومعلم، أن يقترن بفلاحة قروية..! دهشت أم سليم، وعجبت من اشتراط سليم مثل هذا الشرط، صدمت.. صمتت، وبعد برهة نطقت: (يمة سمية بنت النجار فلاحة قروية مثلنا، كيف بدها تصير مدنية؟! وإن قبلت وصارت مدنية.. مين يمة بدو يشرف على رزقياتكم..؟! بدك تسلمهن للغير..؟! يمة أنا ربيتك وكبرتك وعلمتك من هالرزقيات..!! يا خوفي بعد ما أموت تضيعه..؟!) دهشة وتعجب، أم سليم، لم تثن سليم عن اشتراطه، استسلمت له أم سليم وقالت: (أمرنا لله يا سليم راح أعرض شرطك على سمية بنت النجار، إن قبلت هيا صارت مدنية، وصارت زوجة إلك يمه..!!).

بعد تردد وافقت سمية بنت النجار على شرط سليم، وتم زواج سليم وسمية، وأكملت أم سليم فرحتها.. ومشوارها وحيدة بزواج سليم..!

سمية بنت النجار الفلاحة القروية، أصبحت حضرية، مدنية في بيت الزوجية، لا تغادره إلا نادراً.. لا تذهب إلى الفرن، لا تسرح إلى الحقول والمزارع مثل نساء القرية، غيرت طقوسها، وملابسها الشعبية القروية، المطرزة بخيوط الحرير، واستبدلتها بالفساتين الملونة داخل البيت، وإذا أتيح لها الخروج من البيت لزيارة أهلها أو لقضاء بعض الحاجات الضرورية، لبست (الطاقية) الكاب الأسود والكفوف السوداء وغطاء الرأس الأسود وكذلك الوجه من ينظر إليها لا يرى منها شيئاً, لا يستطيع أن يعرف إن كانت هذه إنسانة أم شبحاً، مثلها مثل المدنيات في مدن الشام، حلب، القدس، نابلس..!!

سمية المدنية، لم يعد يراها أحد، لا يرى جمال وجهها سوى المعلم سليم زوجها.. حتى الشمس لم تعد تراها..!!

باتت سمية، حديث النسوة في القرية، بين حاسدة لها على مدنيتها، وبين ساخرة منها، ومن هذه المدنية..!! متسائلات، إن كانت المدنية هي خطوة إلى الأمام، أم خطوة إلى الوراء..؟!! لم يمض وقت طويل، حتى ضاقت سمية ذرعاً بنمط الحياة الجديدة، التي فرضها عليها زواجها بالمعلم سليم، هذا النمط غير المألوف لها ولا لناس القرية التي ولدت وتربت وترعرعت فيها، حنت سمية إلى ثوبها القديم، الأبيض المطرز بخيوط الحرير، وإلى شال الحري يلف وسطها، وأشعة الشمس تلفح وجدانها، وتظهر بريق عينيها الواسعتين، وإلى الحقول، وطيورها الغناء، وتشدو بلابلها على أغصان الأشجار، وإلى قطف ثمار الفاكهة، وحبات الزيتون بيدها.. وإلى ماضيها الجميل مع بنات القرية، يتسابقن على ملء جرارهن من العين، وحنت إلى جمال الحياة الطبيعة التي حرمها إياها (الطاقية) الكاب الأسود والغطاء بالكفوف بالجوارب السوداء.. إنها المدنية المغلوبة، والمعكوسة، مدنية الحرمان، مدنية فقد الحرية الطبيعية.. تلك مدنية غريبة عن القرية وأهلها، دخيلة عليها، لا تتوافق ومتطلبات الحياة فيها..!!

لم يمض وقت طويل، حتى عاد سليم إلى البيت، بعد يوم عمل شاق مع التلاميذ في مدرسة القرية، ليجد سمية قد انتهت لتوها من تمزيق (الطاقية) الكاب الأسود وغطاء الرأس والوجه والكفوف والجوارب السوداء وكل ما يمت إلى هذه المدنية المستوردة، والغريبة، ولبست ملابسها القديمة التي كانت تحتفظ بها، قبل تمدنها المزعوم والمفروض، من أجل الزواج من سليم..!

فوجئ سليم.. ودهش مما شاهده من تغير سمية وانقلابها وإصرارها على موقفها..!!

صرخ سليم بأعلى صوته في وجهها..

ما هذا يا سمية..؟!

- هذا ما تراه عيناك يا سليم..!!

هل جننت؟!

- كلا.. بل عقلت يا سليم..!!

إن ما تفعلينه أمر عظيم..!!

ماذا سيقول عني أهل القرية..!!

ماذا يقول زملائي في المدرسة؟؟

- يقولوا.. إللي يقولوا..!!

- أنا لا أمي مدنية..

- ولا جدتي عثمانية..

- أنا فلاحة عربية..

- من أصول بدوية..

هاوية للعمل والحرية..

بضرب بالفأس والطورية..

مش غاوية قعدة البيت مثل حرمة بدون صنعة وهوية..

أنا امرأة فلاحة هويتها عربية..

لا شرقية، لا غربية، ولا عثمانية..

ولا هذه.. (هي المدنية)...!!

- سليم هز رأسه، هدأت ثورته، صمت قليلاً ثم نطق..

- نعم يا سمية.. نعم ياسمية..

- صحيتيني.. صحيتيني..!!

- أعدت لي وعيي.. أعدت لي وعيي..

- أنا أيضاً مثلك مش غاوي العثمانية..

- ولا هي هيك المدنية..!!

- إيدي بإيدك..

- نمشي بين أهلنا القروية..

- نسرح على أرضنا بعد العصرية..

- نتنفس هواها بكل حرية..

- نقطف من ثمارها الندية..

- ونعيش عيشة هنية..

- تسلم لي يا سليم..!!

- تسلمي لي يا سمية..!!

E-mail:pcommety@hotmail.com
 

مدنية
عبدالرحيم محمود جاموس

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة