ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Monday 06/08/2012 Issue 14557 14557 الأثنين 18 رمضان 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

شديدة هي الآلام التي تعانيها أُمَّتنا الآن نتيجة المصائب الحالَّة بها في أمكنة مُتعدِّدة. ولو لم يكن من هذه المصائب إلا مصيبة ما ارُتِكب - وما زال يُرتَكَب - من جرائم فظيعة في سوريا المُبتلاة لكفت إيلاماً للمهتمين بأمور أُمَّتهم. غير أن في العودة.....

..... بالذاكرة إلى شيء من عبق الماضي المجيد من تاريخ أُمَّتنا ما يخفِّف من الشعور بألم الحاضر الثقيل الوطأة.

بالأمس حَلَّت الذكرى العطرة لمعركة بدر، التي وصف الله - سبحانه - يومها بأنه يوم الفرقان حيث التقى الجمعان؛ جمع الإيمان والحق، وجمع الكفر والباطل. كان المؤمنون المسلمون قد عانوا من ظلم المشركين من قريش ما عانوا من ظلم عظيم؛ تعذيباً ومصادرة أموال، وصداً عن سبيل الله. فكان من عدل الله - جَلَّ وعلا-؛ وهو أعدل الحاكمين، أن أذن للمظلومين بالرَّد على الظالمين بكل الوسائل المتاحة للانتصاف من ظالميهم، ووعدهم بالنصر على أولئك الظالمين. وتمشياً مع التوجيه الإلهي الكريم، وحفاظاً على حقه وحق عباده المظلومين، بدأ قائد الغُرِّ الميامين نَبيِّنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم- العمل للانتصاف من الظَلمَة ببعث سرايا تترصَّد قوافل قريش التجارية المتجهة إلى بلاد الشام أو العائدة منها. وكان في ذلك ما فيه من إنهاك اقتصادي للظالمين السابقين بالاعتداء، وتدريب للمظلومين على مواجهة أعدائهم.

وفي يوم من أيام السنة الثانية للهجرة النبوية وصل إلى المدينة خبر مسير قافلة تجارية كبيرة لقريش، بقيادة أبي سفيان، متجهة من الشام إلى مكة. فندب الرسول، صلَّى الله عليه وسلَّم، المسلمين قائلاً لهم: “هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعلَّ الله ينفلكموها”. وانطلق - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- من المدينة بمن أمكنه الخروج معه منهم. وكان عددهم لا يتجاوز ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً. ولم يكن معهم إلا فرسان وسبعون بعيراً يعتقبونها. وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم. وعند ما جاء دوره في المشي قالا له: نحن نمشي عنك. فقال لهما: “ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما”. وهكذا تتجلَّى عظمة القيادة، وتَتَّضح روعة التضحية والمساواة. وأناس يَتحلَّون بهذه الروعة وتلك العظمة أنَّى للضعف أن يَتسلَّل إلى نفوسهم؟ وأَنَّى لليأس أن يخامر قلوبهم؟

كان هدف النبي، صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن معه من أصحابه الغُرِّ الميامين حين انطلقوا بسرعة من المدينة اعتراض تلك القافلة التجارية التابعة لقريش، التي كان يقودها الداهية أبو سفيان. ولم يدر بخلد واحد منهم حينذاك غير ذلك الهدف. ولو كانوا قد علموا أنهم سيصبحون في مواجهة حربية مع كفار قريش لاتَّخذوا أهبتهم كاملة، ولأعدُّوا للأمر عُدَّته، ولما كان لمسلم قادر على القتال إلا أن يسارع في الخروج معهم. ومضوا في سبيلهم إلى اعتراض القافلة القرشية. لكن أبا سفيان علم بتوجُّههم إليه، فأرسل إلى مكة من يستنفر أهلها لينقذوا أموالهم من الخطر المحدق بها. ولم يكتف بذلك - وهو النابه المُجرِّب-؛ بل غَيَّر وجهة القافلة نحو ساحل البحر تفادياً لوقوعها لقمة سائغة في أيدي النبي، صلَّى الله عليه وسلَّم، وأصحابه. ولقي استنفار أبي سفيان لقريش صداه. فخرجت من مكة بقَضِّها وقَضيضها بطرة مختالة بجيش يزيد على تسعمئة رجل، ومعهم سبعمئة بعير ومئة من الخيل. وكان أولئك البطرون المختالون يريدون القضاء على من عزموا على اعتراض قافلتهم إفناء جسدياً أو تحطيماً معنوياً لوجودهم على الأقل. ولما اطمأن أبو سفيان إلى سلامة القافلة، التي كان يقودها بمهارة فائقة من خطر اعتراضها، أرسل إلى قادة قريش يخبرهم بتلك السلامة، وينصحهم بالرجوع إلى مكة. فرجع عدد قليل من حكمائهم إليها. وهَمَّ من هَمَّ منهم أن يقتدي بهم فيعود. لكن عنجهية البطر والكبرياء دفعت أبا جهل، العدو الأَلدَّ للإسلام والمسلمين، إلى أن يقول:

“والله لا نرجع حتى نقدم بدراً، فنقيم بها، نطعم من حضرنا، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا تزال تهابنا أبداً وتخافنا”. فأخذت الكثيرين من أولئك القادة العتاة العِزَّة بالإثم، وركنوا إلى صوت البطر والكبرياء”.

كان جمع المؤمنين، بقيادة أفضل الخلق - صلَّى الله عليه وسلَّم- يسير في طريقه إلى بدر. وكان جمع المشركين، بزعامة صناديد قريش وعتاتها، يمشي في سبيله إليها بطراً مختالاً. وكان من جمع المؤمنين من كره المسير؛ لا خوفاً من لقاء العدو، فما وجد الخوف إلى قلب مؤمن سبيلاً، وإنما خشية من خوض معركة رأوا أنهم لم يُعدُّوا لها عُدَّتها، وقد أمرهم خالقهم وناصرهم أن يُعدُّوا لأعدائهم ما استطاعوا من قوة.

وفي ظِلِّ تلك الظروف اقتضت حكمة قائد الغُرِّ الميامين أن يستشير أصحابه. وما كانت الاستشارة إلا سمة من سمات من سدَّد الله خطاه، وألهمه الصواب. وما كان أحكم تلك الاستشارة؛ وبخاصة أن أولئك الصحابة، رضوان الله عليهم، لم يكونوا - كما ذُكِر- قد أعدُّوا للمواجهة الحربية عُدَّتها حين خروجهم من المدينة، وأن غالبيتهم من الأنصار، الذين كانت مبايعتهم للرسول، صلَّى الله عليه وسلَّم، أن يحموه ما دام في بلدتهم. فقال أبو بكر، وأحسن. وقال عمر بن الخطاب، وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو وقال:

“يا رسول الله. امض بنا لما أراك الله. فنحن معك.. والله لا نقول ما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه”. فقال له الرسول، صلَّى الله عليه وسلَّم، خيراً، و دعا له. ثم قال: “أشيروا عليَّ أيها الناس”. فعلمت الأنصار أنه يعنيهم - وجاء صوت الإيمان العميق مُتدفِّقاً على لسان سعد بن معاذ، رضي الله عنه:

“كأنك تُعرِّض بنا يا رسول الله: وكأنك تخشى أن تكون الأنصار ترى عليهم ألاَّ ينصروك إلا في ديارهم، وإني لأقول عن الأنصار، وأجيب عنهم، فامض حيث شئت. وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت. وما أخذت كان أَحبَّ إلينا مما تركت. فو الله لئن سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرنه معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك”. وعند ذاك أشرق وجه النبي، صلَّى الله عليه وسلَّم، بما سمع، وقال: “سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين. وإني قد رأيت مصارع القوم”.

ولما نزل النبي، صلَّى الله عليه وسلَّم، بأصحابه في المنزل الذي أشار به عليه الحباب بن المنذر، وتراءى الجمعان؛ جمع قريش المشركة بكل ما كان يَتَّصف به من عنجهية وبطر وكبرياء، وجمع المؤمنين بكل ما كان يَتَّسم به من تَضرُّع وتَذلُّل لله وثقة به. وإذا بالنبي، صلَّى الله عليه وسلَّم، يمد يديه إلى ربه مستنصراً قائلاً: “الَّلهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها.. جاءت تحادُّك، وتكذِّب رسولك. الَّلهم فنصرك الذي وعدتني. الَّلهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض”. وبالغ - عليه أفضل الصلاة والسلام - في التضرُّع، ورفع يديه حتى سقط رداؤه. واستنصر المسلمون الله واستغاثوه.

وفي صباح يوم الجمعة السابع عشر من رمضان نظم رسول الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، صفوف المسلمين. ثم انصرف وغفا عفوة وأبو بكر الصدِّيق معه يحرسه، وعنده سعد بن معاذ وجماعة من الأنصار على باب العريش، الذي عمله أصحابه له، ثم خرج يثب في الدرع ويتلو قول الله تعالى: (سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُولُّونَ الدُّبُر).

وتَقدَّم صفوف المشركين عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، والوليد بن عتبة، يطلبون المبارزة. فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار. فقالوا: أكفاء كرام. ما لنا بكم من حاجة، إنما نريد من بني عَمَّنا. فبرز إليهم عبيدة بن الحارث، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي ابن أبي طالب، رضي الله عنهم. فقتل علي الوليد، وقتل حمزة شيبة. واختلف عبيدة وعتبة ضربتين. فَكرَّ علي وحمزة على عتبة، وقتلاه، واحتملا عبيدة؛ وقد قطعت رجله. فأفرشه الرسول، صلَّى الله عليه وسلَّم، قدمه، فوضع خده عليها، وقال: يا رسول الله، لو رآني أبو طالب لعلم أني أحق منه بقوله:

ونسلمه حتى نُصرَّع دونه

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

ثم أسلم روحه لخالقه.

ثم حمي وطيس المعركة بين جمع الإيمان وجمع الكفر والطغيان، وأَمدَّ الله رسوله والفئة القليلة المؤمنة بنصر من عنده، فقتلوا من الفئة الكثيرة المشركة سبعين رجلاً، وأسروا سبعين، وفَرَّ الباقون ذليلين إلى مكة. أما المسلمون فلم يقتل منهم إلا أربعة عشر شهيداً.

وهكذا كانت معركة بدر الكبرى.. الفرقان بين الحق والباطل. وما أطيب على نفس المؤمن من تَذكُّرها واستلهام العِبَر منها. ولقد وعد الله - جَلَّ وعلا-؛ ووعده حق، أن جنده هم الغالبون، وأنهم المنصورون.

الَّلهم: يا كاشف الضر، ومغيث المظلومين، اكشف الضُّر عن أُمَّتنا، وأغث بنصرك العظيم المظلومين منها في كل مكان.

 

ذكرى انتصار الحق على الباطل
د.عبد الله الصالح العثيمين

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة