ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Monday 13/08/2012 Issue 14564 14564 الأثنين 25 رمضان 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

على المستوى الخارجي أكثر من الداخلي، يتردد أن مجتمعاتنا المحلية في السعودية تتشدد في المحافظة نتيجة وجود الحرمين الشريفين. ويتم تبرير مواجهة التحديث بهذه الحجة، بينما خصوصية وجود الحرمين الشريفين في بلادنا هي خصوصية انفتاح لا انغلاق، خصوصية مرونة في التطور وليس في الجمود..

على مدى القرون والحرمان الشريفان محجَّتان يأتي إليهما المسلمون من كل أصقاع الأرض حاملين معارفهم وأنماطهم الاجتماعية المتفاوتة. وبيئة الحرمين الشريفين هي بيئة إيمانية رحبة للشعوب الإسلامية كافة، كما أنها بيئة اقتصادية متفتحة على الجميع، تفاعلت فيها ثقافات متنوعة على مدى حقب طويلة، على خلاف مجتمعاتنا في المناطق الداخلية التي لم تختلط إلا قليلاً. نتيجة لذلك نجد أن المجتمعات المحيطة بالحرمين الشريفين هي من أكثر المجتمعات العربية انفتاحاً واعتدالاً منذ خمسة عشر قرناً. فكيف يتم بهذه الخصوصية الانفتاحية للحرمين الشريفين تبرير الانغلاق على الذات والتشدد في المحافظة والمغالاة بالتمسك بالعادات والتقاليد خصوصاً في المسائل الاجتماعية من حقوق المرأة والحريات العامة؟

في كل مكان في العالم، نجد أن الذين يضخمون خصوصيات بلدانهم يستندون على خصائص موجودة فعلاً، لكنهم يحمِّلونها نتائج هي ليست من طبيعتها، وأكثر ما يستندون على أوهام الماضي، من خلال خصائص تاريخية لم تعد موجودة، ويزعمون أن لها ميزة جوهرية تطبعهم بها. فعلى سبيل المثال، تجد في اليونان من يقول لك إننا ورثة أعظم فلسفة أنتجها البشر، ويجيرها كخصوصية ثقافية يونانية راهنة، رغم أن تلك الفلسفة انتشرت بعيداً عن أرضهم، ورغم تعرض بلادهم لاحتلالات متنوعة لم تبق من هذا الإرث شيئاً، إلى أن أعيد إحياؤه مؤخراً بشكل مختلف تماماً عمَّا هو عليه. ومثل من يزعم الخصوصية الفرعونية لمصر الحالية، فالتراث الفرعوني لم يعرف إلا مؤخراً.. ومثل من يقول في السعودية إن شعرنا النبطي هو امتداد مباشر للشعر الجاهلي بما فيه من خصائص رغم أنه لم يبق من هذه الخصائص إلا النزر اليسير الذي لا يجعل النبطي امتداداً للجاهلي.

من الطبيعي أن نجد المجتمعات والدول تفتخر وتدافع عن خصوصيتها لأنها تعبر عن خصائص معينة تراكمت تاريخياً وشكلت هويتها، فلكل حضارة ودولة ومجتمع ومنطقة وبلدة وقرية خصوصية. إنما عندما يتحول هذا الدفاع إلى هاجس في تضخيم الذات وادعاء التفوق على الآخرين، والمطالبة بتقديس هذه الخصوصية فسيفضي الأمر إلى تعصب يذكي حالات الخلاف مع الآخرين، وجمود يعرقل التطور والإصلاح.

فعن أية خصوصية نتحدث؟ العادات والتقاليد سلبيها وإيجابيها؟ البالي منها والحيوي؟ تراثنا المتنوع المليء بالأمجاد والخيبات؟ الموروث المنفتح على الثقافات أم المورث المنغلق على ذاته؟ المشاعر القبلية المحترمة أم العنصرية؟ ماذا ننتقي من هذه الخصوصية؟ وهل كل خصوصية هي ثابتة من الثوابت أم قابلة للتعديل والتطوير؟

نسمع كثيراً عن موانع اجتماعية بسبب الخصوصية ويزعم أنها بقرارات رسمية، رغم وجود ذلك، مثل طلب موافقة ولي الأمر للمرأة المشتكية عند الشرطة أو المحكمة. وقد يعتاد الناس على ذلك ويظنونه نظاماً، إلى أن يأتي من يقرع الجرس ويوضح إما أنه لا يوجد في النظام شيء من ذلك أو يصدر المسؤول قراراً لتصحيح الوضع، كما حصل في قرارات: السماح للعزاب بدخول الأسواق، وبيع النساء في محلات الملابس النسائية، وأخيراً الرياضة النسائية التي كادت تحرم المرأة السعودية من شرف تمثيل وطنها في المحافل الدولية.

لكن، ما هي العوامل التي تنشأ منها الخصوصية المفرطة؟ إذا تجاوزنا أوضح العوامل، وهو الموقع الجغرافي، بين مجتمعات ذات موقع متواصل مع الآخرين (سواحل بحرية، أنهر، ملتقى طرق)، وأخرى ذات موقع منعزل (المناطق المعزولة جبلياً أو صحراوياً أو الجزر النائية)؛ فإن أول ما يمكن ملاحظته أن التشدد في الخصوصية يظهر في أجواء الأزمة، وتكالب الكوارث في البلدان المحيطة، ونذر المخاطر التي تلوح في الأفق.. ففي زمن الاضطراب وعدم وضوح الرؤى الفكرية تلجأ كثير من الشعوب إلى الانكماش على ذاتها وما اعتادت عليه من تقاليد وأعراف للاستنجاد بها، ويتم خلال ذلك رفض التجديد سواء من الداخل أو من الخارج، والتهيئة لاستعداء الآخر..

ومما يساعد على الغلو بالخصوصية لدينا، نجد الهجرة المكثفة خلال فترة قصيرة (مرحلة الطفرة) من البلدات والأرياف والبوادي إلى المدن، حيث يتميز الريفيون بروح محافظة صارمة. كذلك يعمل ترييف المدن المفاجئ على زيادة الحراك الاجتماعي اضطراباً، نتيجة اغتراب القادمين وعدم اندماجهم بمجتمع المدينة، وشعورهم بالتيه، فيزداد هاجس البحث اليائس عن هوية مفقودة في زحام المدن، فينزع البعض إلى التقوقع حفاظاً على الهوية القديمة الخصوصية المأزومة.

ويعد تخبط كثير من خطط التنمية التحديثية وضعف مؤسسات المجتمع المدني من العوامل التي ساعدت التيارات التي تغالي في الخصوصية، حين تصبح المؤسسة الاجتماعية القديمة (القبيلة) خيراً من المؤسسة الاجتماعية الجديدة. لكن المؤسسة القديمة لم يعد لها وجود مادي، بل لها وجود فكري.. زال شكلها الظاهري وبقيت قيمها الروحية. لذلك تعد المهمة الأكثر صعوبة هي تمدين السلوكيات والقناعات عبر خطط تنمية تراعي خصوصية المجتمعات وتحترم عاداتها وتقدم بدائل حقيقية عن الأنماط القديمة.

في بعض المجتمعات العربية، حين تخطى الزمنُ القبيلةَ كتنظيم اجتماعي غير متناغم مع التحديث، عملت أنظمة عربية عصرية على إقصاء القبيلة بالكامل وليس بالتدريج، واصطنعت بدلاً منها تنظيمات حديثة من ورق، كالجمعيات والاتحادات والنقابات، ومؤسسات متعالية على الواقع. فتحولت تنظيمات حديثة إلى مسوخات محزنة وبيروقراطية رثَّة، وصار البديل المستحدث مسخاً مشوهاً أسوأ من سابقه، مما أدى إلى ارتفاع صوت المطالبين بالرجوع إلى الخلف باعتبار أن النظم الاجتماعية الحديثة أثبتت فشلها.. وأفضى بكثير من الحركات الفكرية التحديثة إلى الخفوت.. وعلا صوت دعاة الخصوصية المفْرِطة في كثير من البلدان العربية وليس في السعودية فحسب.

غاية القول، أن المبالغة في الركون إلى الخصوصية، يسوغ لدعاته المحافظة على أنماط متأزمة مع الواقع ودعم أحد عوامل التخلف في مجتمعاتنا خاصة على المستوى الاجتماعي، والتقوقع على الذات وعدم الانفتاح على الآخرين، وتقييد الحريات العامة والخاصة والحقوق المعترف بها رسمياً.. خاصة سلب حقوق المرأة باسم هذه الخصوصية..

alhebib@yahoo.com
 

خصوصيتنا المأزومة!
د.عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة