ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Monday 13/08/2012 Issue 14564 14564 الأثنين 25 رمضان 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الأخيــرة

      

ذلك الأب الذي نقلته الطفرة من حي شعبي هامشي إلى حي تتوفر فيه أفضل الخدمات الممكنة في المدينة العاصمة، لم يستطع التكيف مع الهواء الجديد فأصيب بالصداع والأرق. ذلك الكهل كان يختزن في ذاكرته عشرات السنين من الموروث القديم التي كونت الجزء الأكبر من ثقافته ومفاهيمه وقناعاته. منها كان ينطلق في المقارنة بين الجديد والقديم. كان يدرك أن الجديد أفضل معيشياً وصحياً ويقدم تعليماً مدرسياً أجود لأبنائه وأحفاده. رغم هذا الإدراك لمنطق الأشياء والأحوال، إلا أن الرجل كان يحمل في داخله انجذاباً قوياً لماضيه البسيط، وفي نفس الوقت كان يستوحش من الجديد الذي قد يواجهه بتحديات يفتقر إلى الخبرات اللازمة للتعامل معها. تردد الرجل هو تأرجح بين الرغبة في ميزات الجديد وبين الخوف من الفشل في الاستجابات لمتطلباته. الصداع والأرق وافتقاد الهواء القديم كانت مجرد إسقاطات للخوف من الفشل المستقبلي. في النهاية تتنصر المصلحة الشاملة للأسرة بما فيها الأب بمخادعة النفس والاستعاضة عن ذكريات الحي القديم بصفيحة طين تحمل روائح الماضي فيختفي الصداع ويحصل التأقلم مع الجديد. أما بالنسبة لبقية أفراد الأسرة فقد كانت القضية محسومة منذ البداية، فذاكرتهم تعيش في الحاضر أكثر من الماضي ويسهل عليهم التأقلم مع الجديد.

إذا كانت هذه الافتراضات منسجمة مع جدلية الرفض والقبول ومآلاتها النهائية، نستطيع أن نتوسع في الموضوع بالتساؤلات التالية:

ما هي الأسباب التي تجعل الفقهاء في كل الأديان يرفضون دائماً وبشكل قاطع قبول الجديد في بداياته، ويفتون بتبديعه وشذوذه وربما بتحريمه، ثم ما هي إلا فترات قصيرة من الزمن ثم يراهم أتباعهم قد أصبحوا من أكثر المقبلين على هذا الجديد ومن أشدهم تعلقاً باستخداماته واستغلال فوائده.

لنلق نظرة استرجاعية على ما حصل محلياً لكروية الأرض وللسيارة والراديو والتلفزيون والهاتف الجوال والشبكة العنكبوتية وتعليم البنات وكيف كانت درجات التحريض ضدها، ثم أين صارت لاحقاً مكانتها المادية والمعنوية والوجاهية لأولئك الممانعين.

يتضح دائماً متأخراً، أن الممانعات الابتدائية لم تكن تستند على نصوص لا تقبل النقض بقدر ما قامت على مخاوف مما قد يحدثه الجديد من تحولات لا قبل للعقل المقيد المتوجس بالتعامل معها.

على سبيل الاستدلال بالأمثلة يجدر التساؤل عن الأسباب التي تجعل أستاذاً (بروفيسوراً) كبيراً في علوم الصيدلانيات الحديثة يتحول إلى أكبر ظاهرة محلية للترويج للعلاج الشعبي، الذي هو بالفعل كذلك حتى لو سموه الطب البديل؟

مدهش جداً تصدي بروفيسور صيدلاني جامعي له أبحاث معيارية علمية سابقة لكل دواء وعلة وتشخيص بعلاج شعبي، وهو يعرف أنه كمتخصص أكاديمي في علوم الصيدلة ليس طبيباً وليس مسموحاً له حسب القوانين الصحية الحديثة أن يمارس التشخيص والعلاج، وأن مجاله يقع في الميدان الصيدلاني وليس في مجال الممارسات الطبية التطبيقية التشخيصية والعلاجية. لماذا تحصل أمثال هذه الازدواجية، ولماذا يتقبلها المجتمع بالإعجاب والترحاب؟ ربما لأن الحنين إلى الماضي له جاذبية أقوى من العلوم الحديثة، كما أن الوسط الاجتماعي بتركيبته الانتقالية يهيئ من فرص النجاح المادي والتقبل الاجتماعي لهذا النوع من الممارسات العلاجية أكثر مما يقدمه للتخصصات العلمية.

قد لا يعلم المجتمع (ولكن السلطات الصحية تعلم ذلك بالتأكيد) أن قسماًكبيراً من مداخيل الأطباء والمؤسسات الصحية المصرحة عندنا يأتي من معالجة الأمراض والمضاعفات التي تسببها الممارسات العلاجية الشعبية. مهما يتم التحايل على مسمياتها، وبصرف النظر عن اللقب الذي يحمله الممارس والمروج لها، فهي مجرد اجتهادات تقليدية لا تخضع للمقاييس العلمية المعيارية، وتفوق أخطاؤها فوائدها بكثير.

حالات خداع النفس ومماطلات المستقبل في التأرجح بين الماضي والحاضر تحت تأثير الظروف الاجتماعية وما تختزنه الذاكرة القديمة،كثيرة وتستعصي على الاستحضار الذهني. يظل من أهمها وأغربها مثال الطبيب الناجح في تخصص نادر ومطلوب، حين يقتطع جزءا كبيراً من وقته لممارسة الوعظ الديني، بينما المجتمع في أمس الحاجة إلى مهاراته الطبية ويستطيع الاستغناء عن مساهماته الوعظية بالمتوفر الكافي من المتخصصين في العلوم الشرعية الذين يؤدون المهمة بطرق أفضل من الطبيب.

ليس هناك خط فاصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، وكلها تسير في اتجاه واحد. على المجتمعات واجب مشترك تجاه المستقبل هو أن تنقل معها دائماً في رحلتها الحضارية مجموعة التشريعات والتعليمات المحددة بنصوص متفق عليها بإجماع المذاهب والتخلي عن استثارة المخاوف والمحاذير ضد المستجدات العلمية لفترة من الزمن يليها التملص من مسؤولية التعطيل دون اعتذار أو توضيح للمجتمع.

 

إلى الأمام
مماطلة المستقبل بسبب الخوف منه
د. جاسر عبدالله الحربش

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة