ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Sunday 26/08/2012 Issue 14577 14577 الأحد 08 شوال 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

من حيث المبدأ لا يُحرِّم الإسلام الفنون أو يحاربها، فالأصل في الأشياء الإباحة، إنما يضبط إيقاعها على أرض الواقع بما يخدم الدعوة الإسلامية، ويهذب وجدان الأمة، ويعكس حضارة الإنسان الملتزمة بمنهج الله بما يعزز كل مجالات النفع الحياتي في

مسارات عمارة الأرض، لذلك يتحدد موقف الإسلام من أي فن إنساني حتى لو كان مقتبساً من الآخرين - المختلف عقدياً - وفقاً لطبيعة المادة الفنية المعروضة وطريقة تقديمها للناس.

واليوم تُعد الدراما بكل أنواعها من أبرز الأعمال الفنية المؤثرة في العقلية الجماهيرية، كونها تعتمد اللغة الواضحة بطريقة الصورة المباشرة، لذا هي من أفضل الوسائل الفاعلة في تسويق الأفكار والأنماط الحياتية والمفاهيم والمبادئ الحضارية، كما تُسهم في حماية النشء من الأفكار المنحرفة والتيارات الفاسدة، بدلالة أن الدراما الأمريكية نجحت في تكريس فكرة (التفوق الأمريكي الحضاري) عبر الأفلام والمسلسلات، التي غزت العالم فصارت هوليود داخل كل بيت، كما نجحت الدراما التاريخية للسينما الأمريكية والأوروبية في إبراز التجربة التاريخية الثرية للحضارية الغربية، غير أن هذا النجاح لم يكن بسبب السرد التاريخي، أو الحبكة الروائية، أو الإبداع في الإخراج فحسب، إنما بسبب أسلوب عرض فكرة العمل السينمائي مع سيناريو متقن وحوارات مفعمة بالثقافة والمعرفة الإنسانية، التي لا تعكس أحداثاً تاريخية وحروباً بقدر ما تعبر عن قيم إنسانية ومبادئ حضارية وإنجازات بشرية كقيمة الحرية، وفكرة الديمقراطية، وفضيلة العلم، وأهمية العمل، ودور العدالة في نهضة المجتمعات وغير ذلك.

في المقابل نجد أن الدراما التاريخية في السينما والأعمال العربية لا تخرج عن نمط واحد يتمثل في سرد أحداث تاريخية ومعارك عسكرية بعضها لا تختلف في تصويرها عن اشتباك بالأيدي في إحدى الحارات القديمة، ناهيك عن الشخصيات التاريخية، التي تظهر بغير حقيقتها البشرية بل هي أقرب للملائكية والمبالغة في الإيجابية. وهنا تبدو معضلة الدراما التاريخية العربية حتى مع النقلة النوعية في إنتاج مسلسلات تاريخية ضخمة، من حيث الإمكانات والتجهيزات والتكاليف، فضلاً عن فريق العمل المميز من ممثلين ومخرجين وكتاب سيناريو، وأقصد بذلك مسلسل (عمر)، الذي نال حظاً من الدعاية الكبيرة بسبب الجدل واللغط اللذين وقعا حوله، وُعرض على أكثر من قناة فضائية خلال شهر رمضان المبارك للعام 1433هـ.

مسلسل عمر لم يخرج عن أسلوب (السرد التاريخي) وكأنك تقرأ من كتاب تاريخ كما يصفه أحد الزملاء الإعلاميين، مع محاولة التركيز على جانب الإيمان والبطولة في شخصية المسلسل خلال أحداث ذلك السرد، بينما غاب تماماً الفكر الإبداعي والعبقرية الحضارية والإنتاج الإيجابي في شخصية الفاروق رضي الله عنه، حتى أنها لم تكن شخصية محورية في المسلسل إنما حاضرة في أغلب المشاهد، بدلالة أن فترة خلافة عمر، التي تحكي عبقريته الحضارية لم يكن نصيبها إلا (سبع حلقات) من أصل (30 حلقة)، رغم أنها تستحق على أقل تقدير 15 حلقة، فهي الفترة التي يمكن أن نقدمها للمشاهد العربي والمسلم وغير مسلم، كون أغلبها لازال مجهولاً في بطون الكتب والمصادر التاريخية! تلك العبقرية الحضارية المتمثلة في تكريس القيم الإنسانية عبر التعاليم والأحكام العمرية، وبناء المدن الإستراتيجية وكيفية إنشائها، وتأسيس الوزارات والدواوين، ونظام الجيوش وإنشاء الحاميات العسكرية، وتعبيد الطرقات بين مدن ومراكز الدولة الإسلامية وربطها بعاصمة الخلافة، وإقامة دور الضيافة والاستراحات على تلك الطرق، والتنظيمات الإدارية والإجراءات المالية، وغير ذلك.

بسبب غياب عرض تلك العبقرية ظهر مسلسل عمر أقرب ما يكون إلى تاريخ السيرة النبوية وخلافة الصديق رضي الله عنه مع الإطالة لأحداث البعثة والدعوة في مكة. بل حتى سيرة عمر رضي الله عنه في مكة قبل الإسلام وبعده ثم هجرته إلى المدينة لم تظهر بالمسلسل بالقدر، الذي يجعلك تستشعر المقولة العظيمة (إسلام عمر كان فتحاً وهجرته نصراً وخلافته رحمة)، إنما مشاهد تحكي مواقف مشهورة في سيرة عمر كقصة اليهودي، والمرأة التي كانت تتشوق لزوجها، وصراخ الرضيع، والقبطي وابن عمرو بن العاص إلى غير ذلك، ناهيك عن أن شخصية الممثل لا تتطابق مع الهيئة الجسمانية لعمر الحاضرة في الذهنية العربية.

لا ننكر أن المسلسل قدم صورة مقاربة جداً لمكة والمدينة وبلاد الروم وفارس وحياة الناس مع إخراج جيد للمعارك الحربية، كما لا ننكر أن المسلسل عرض بعض المشاهد المميزة، التي تعكس جانباً من حياة وشخصية عمر قبل إسلامه كرعي الإبل وسفارة قريش وصواب رأيه، إلا أنه في مشاهد أخرى ظهر هادئاً مسالماً ليناً، يشارك سادة قريش في حواراتهم ومناقشاتهم بدار الندوة وكأنه يدافع عن وجهة نظر المسلمين أو يُبرر إسلامهم، بينما التاريخ يشير إلى جبروته بين الناس وقوة شخصيته وسطوته على المسلمين حتى أنه كان يشارك في تعذيبهم. تلك القوة العمرية أشار لها الصديق في حواره مع الفاروق رضي الله عنهما حول حرب المرتدين عندما قال له: (أجبَّار في الجاهلية خوار في الإسلام؟). ما يعني أن قوة عمر كانت علامة فارقة في الجاهلية، لهذا كان لإسلامه تأثير عظيم في الدعوة الإسلامية مع إسلام حمزة بن عبد المطلب.

أخلص إلى أن الدراما التاريخية في الأعمال العربية ينبغي أن تخرج من نمطها القديم المحصور في استعراض (الجانب الإيماني) للشخصيات التاريخية والرموز الدينية أو تقديم (جانبها البطولي)، من خلال المعارك والمبارزات، بينما يغيب تماماً (الجانب الحضاري)، ما يعني غياب اللغة التي يجب أن نخاطب بها أجيالنا والعالم أجمع، بأننا أصحاب حضارة إنسانية عريقة، وهؤلاء هم صناعها الحقيقيون، الذين أرسوا حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، والحرية والمساواة بين الناس. هل يعلم العالم المتقدم أن العبارة الموجودة في ميثاق حقوق الإنسان العالمي عن أن الناس ولدوا أحراراً، هي مأخوذة من عبارة الفاروق رضي الله عنه الشهيرة التي قال فيها: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).

kanaan999@hotmail.com
تويتر @moh_alkanaan
 

الدراما التاريخية.. كيف نعرض بضاعتنا؟
محمد بن عيسى الكنعان

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة