ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Monday 03/09/2012 Issue 14585 14585 الأثنين 16 شوال 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قبل أكثر من عام كتبت مقالة عن الهَبَّات التي قامت في عدد من الأقطار العربية؛ وهي هَبَّات سُمِّيت بالربيع العربي تفاؤلاً من قِبَل من أطلقوا التسمية. ولقد اتَّضح ما اتَّضح من نتائج لهذه الهَبَّات، التي يرجو المخلصون لأُمَّتهم أن تُجنَى ثمارها.

ومن هذه الهَبَّات الهَبَّة التي قامت بها أغلبية الشعب السوري. وكنت قد أدركت أن الوضع في سوريا وضع مستحكم العُقَد؛ داخلياً وخارجياً. وأشرت في تلك المقالة إلى شيء من تلك العُقَد المستحكمة. وما جرى منذ كتابة تلك المقالة يُرجِّح صحة ما ورد فيها، أو صحة كثير منه.

لقد أوضح الكاتب نيقولاس فان دام، الهولندي الجنسية، في كتابه عن الصراع على السلطة في سوريا كيف وصل حكام تلك البلاد الحاليُّون إلى حكمها، وكيف تبلور هذا الحكم إلى حكم أسري منطلق حقيقة من منطلق طائفي لا من مبدأ الحزب الذي يُدَّعي انتماءه إليه وتَبنِّيه له. وحكم هذا شأنه من الصعب جداً أن يَتخلَّى قادته عنه مهما كانت النتائج. وكان مؤسس هذا الحكم، الداهية حافظ الأسد، قد اقتنع بحتمية ارتباطه بالحكم في إيران؛ لا سيما بعد أن أفتى قائد الثورة الإيرانية، آية الله خميني، بأن الطائفة التي ينتمي إليها الأسد طائفة مسلمة؛ وذلك على نقيض ما كان علماء الجعفري الشيعي يفتون به. وكان ذلك ـ إضافة إلى ما كان من عداوة شخصية بين حافظ الأسد وصَدَّام حسين ـ من أهم الأسباب التي جعلت الزعامة السورية تقف مع زعامة إيران الخمينية في الحرب التي أشتعلت بينها وبين العراق.

عندما بدأت الهَبَّة، التي قامت بها أكثرية الشعب السوري قبل عام وثمانية أشهر تقريباً، كان الرئيس السوري، بشار الأسد، وزبانيته يدركون استحكام عُقَد الوضع في بلادهم. ويبدو أن هذا هو ما دفع أكثر من واحد منهم بأن يقول: إن الوضع لديهم مختلف عن الأوضاع في الأقطار التي قامت بها هَبَّات أطاحت بزعماء تلك الأقطار. وكانوا يبدون ـ وهم يقولون ما قالوا ـ أوضح ما يكونون غطرسة واعتداداً بالنفس. بل إن منهم من بلغت به الغطرسة الحمقاء إلى حَدِّ أن قال: لقد مسحنا اسم أوروبا من الخريطة. وشَرُّ البليَّة أن من قال ذلك القول المتغطرس الأحمق يعلم ـ قبل غيره ـ أن زعامته لم تُحرِّك ساكناً تجاه ما قام به الكيان الصهيوني من هجوم على مختبر من مختبراته وتدميره. وإذا قورن ذلك الموقف الذي جبن عن الرد على ذلك العدوان بما يرتكبه النظام السوري من بطش بالمنادين بالحُرِّية والعدالة من شعبه أمكن أن يقال عن ذلك:

أَسَـدُ عليَّ وفي الحدود نعامـة

في الرَّمل تخفي رأسها المتذلِّلا

وإظهار النظام السوري اعتداده بنفسه بكل غطرسة حمقاء ما زال هـو الأسلوب المنتهج كما رآه من اطَّلعوا على المقابلة التي أجرتها إحدى وسائل الإعلام قبل أيام مع رئيس ذلك النظام.

يبدو لكاتب هذه السطور أن زعامة النظام السوري قد بنت أساس الظهور بمظهر المُعتدِّ بنفسه على أمور مُتعدِّدة. أول هذه الأمور أن الطائفة التي ينتمي إليها رئيس ذلك النظام أصبح لدى كثير من أفرادها ـ مع الأسف الشديد ـ اقتناع بأن مصير طائفتهم مرتبط بمصير النظام، فإن زال فإن ذلك يعني زوالاً لطائفتهم. ومن ثَمَّ فإن النظام واثق من وقوف هذه الطائفة معه دون حدود. وثاني تلك الأمور أن النظام الإيراني واقف بكل إمكانياته؛ سياسياً وعسكرياً ومالياً، واقف بكل جِدَّية مع النظام السوري، وأن وقوف النظام الإيراني مع النظام السوري يعني وقوف الزعامة في العراق، القطر العربي الذي سَلَّمه المحتل الأمريكي على طبق من ذهب للنظام الإيراني، فأصبح يأتمر بأمره. ولذلك فإنه يمكن القول: إنه لم تعد هناك حدود تفصل إيران؛ جغرافياً وميدانياً، عن سوريا. وكاتب هذه السطور لا يستطيع أن يخفي إدراكه لدهاء زعماء إيران ومقدرتهم الواضحة على الإمساك بكثير من خيوط الأوضاع في المنطقة.

أما ثالث تلك الأمور، التي أوحت للنظام السوري أن يظهر بمظهر المُعتدِّ بنفسه بكل غطرسة واستكبار فهو اعتقاده ـ وهو محق في هذا الاعتقاد ـ أن أمريكا زعيمة القوى الغربية غير راغبة في اتِّخاذ أَيِّ موقف جاد ضد النظام السوري وإن ارتكب جرائم فظيعة. ذلك أن اتِّخاذ موقف جاد قد يُؤدِّي إلى زواله. ومن المعلوم أن ما يَهمُّ أمريكا هو مصلحة الصهاينة المُحتلِّين لفلسطين المُهوِّدين بسرعة لها؛ أرضاً وتراثاً، والمحتلِّين لمرتفعات الجولان السورية منذ عام 1967م دون أن تُطلَق عليهم رصاصة منذ خمسة وأربعين عاماً عبر الحدود، التي لا تبعد كثيراً عن دمشق العاصمة.

وأما رابع تلك الأمور الموحية للنظام السوري بإظهار الاعتداد بالنفس بغطرسة واستكبار، وأخذ راحته بالبطش وارتكاب المجازر وتهديم المساكن على سكانها، فهو ـ فيما يبدو ـ اطمئنانهم إلى قِلَّة حيلة وحول من يتعاطف مع الهَبَّة في سوريا من زعماء العرب، واعتقاد زعامة ذلك النظام أن كل ما يملكه أولئك هو أن يَمدُّوا أيديهم ـ كالعادة ـ إلى مجلس الأمن؛ مُتسوِّلين تَسوُّل البؤساء، ليقف معهم. ولقد ضمنت تلك الزعامة موقف كُلٍّ من روسيا والصين معها ضد أَيِّ قرار لا يخدم مصلحتها. وكما عجز مجلس الأمن مراراً وتكراراً عن اتِّخاذ موقف عادل تجاه القضية الفلسطينية بسبب موقف الإدارات الأمريكية المتصهينة المتعاقبة فإن ذلك المجلس عاجز عن أن يَّتخذ موقفاً عادلاً تجاه ما يرتكبه النظام السوري من جرائم بسبب الموقفين الروسي والصيني. ولقد أدرك هذا النظام ـ وهو محق في إدراكه ـ أن اللجوء إلى مجلس الأمن لا يغني من الحق شيئاً. وكنت قد أشرت إلى تَسوُّل زعماء العرب أمام ذلك المجلس بالقول:

السادرون من الحكام ما برحوا

يرجون من نهب الأوطان واستلبا

لمجلس الأمن قد مَدُّوا أَكفَّهمُ

ساء المُؤمِّل والمأمول منقلبا

لقد تَسوَّل زعماء العرب المتعاطفون مع الهَبَّة الشعبية في سوريا؛ مُمثَّلين بجامعة دولهم فاقدة الوزن والجِدِّية، أمام مجلس الأمن. فلم تكن النتيجة إلا أن ازدادت المجازر، التي يرتكبها النظام السوري فظاعة واتِّساعاً وتعداداً. وكما باء كوفي عنان مع ما سُمِّي بخطَّته بالفشل الذريع فإنه ليس هناك ما يوحي بأن مَهمَّة خليفته في تلك الخُطَّة الفاشلة ستكون مختلفة النتيجة عن مَهمَّته. لن يكون هناك موقف حازم جاد لأيِّ قوة مُؤثِّرة قبل أن يقتنع قادة الكيان الصهيوني بأن تدمير سوريا قد اكتمل. ذلك أن اقتناعهم هو ما يُحدِّد موقف أمريكا ـ ومن ورائها الدول الغربية عموماً ـ مما يُرتكَب في سوريا. وكنت قد كتبت مقالة قبل ثلاثة أسابيع وعنوانها: “لا تَوقُّف للمجازر حتى يَكتملَ التدمير”. وقد أكون مُخطئاً فيما أقول: ذلك أن الله ـ جلَّت قدرته ـ يُصرِّف الأمور كما يشاء.

قد ينبت الصخر دَوحاً يانعاً ثَمَراً

وبعد عَجِّ الليالي ينزل المَطَرُ

على أن من الواضح لي أن زعماء النظام في سوريا لا يَهمُّهم إلا البقاء مُتسلِّطين على الشعب السوري مهما تَعرَّض وطنهم للدمار، وتَكبَّد شعبهم من مجازر شنيعة ومصائب فظيعة.

كشف الله الغُمَّة عن هذه الأُمَّة.

 

المُهمُّ لدى الظلمة أن يبقوا مُتحكِّمين
د.عبد الله الصالح العثيمين

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة