ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Monday 10/09/2012 Issue 14592 14592 الأثنين 23 شوال 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

صِلَتي ببلاد الشام - بمفهومها الجغرافي الواسع؛ وقلبها ما أصبح في العصر الحديث الدولة السورية - صلة عميقة الجذور؛ وجدانياً وتاريخيا. لقد أَحببتها بلاداً دعا لها نَبيُّنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم، بالبركة، فكانت - إلى وقت ليس ببعيد -

مقصداً لمن ثقلت عليه وطأة الحياة من سكان وسط الجزيرة العربية؛ لا سيما بلدان القصيم وما يليها شمالا. بل إن هناك رابطة رمزيةً بين مسقط رأسي، عنيزة، وعاصمة سوريا .. دمشق. فكما أن دمشق تُسمَّى الفيحاء فإن عنيزة تُسمَّى الفيحاء عندما يشار إلى بلدان القصيم بالذات.

وأَحببت بلاد الشام؛ ومركز ثقلها سوريا، قَلباً ينبض بالعروبة من أوضح سماته المقُدَّرة احترامه العظيم للغة أُمَّتنا العربية؛ لغةَ تدريس في جميع مراحل التعليم ولمختلف فروع المعرفة؛ وذلك في زمن أصبحت هذه اللغة تُضايق - إن لم يُقَل تُحارَب - في مهدها.

وأَحببت سوريا بلداً كان من أفذاذ رجاله في العصر الحديث عبدالرحمن الكواكبي مُولِّفاً للكتاب القَيِّم طبائع الاستبداد، ويوسف العَظْمة، قِمَّة مستشهداً في مَيْسلون، وعِزّ الدين القَّسَّام؛ مجاهداً فدائياً في فلسطين، وشكري القوتلي؛ مُتنازلاً عن كرسي الرئاسة، الذي وصل إليه بانتخابات حُرَّة نزيهة، من أجل أن تقوم وحدة عربية كان كثيرون يأملون أن تكون نواة لوحدة عربية كبرى.

كانت زيارتي الأولى لسوريا عام 1960م؛ أي قبل أكثر من نصف قرن. حينذاك كانت تُسمَّى الإقليم الشمالي بصفتها جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة، رحم الله زمن التفاؤل بالوحدة! وكنت يافعاً منتشياً بتَحقُّق بداية ما كان يأمله كُلُّ مخلص لأُمَّته. وقبل سنة من تلك الزيارة - والحديث ما زال عن أمر حدث قبل أكثر من نصف قرن - كتبت قصيدة بمناسبة مرور عام على قيام الوحدة بين مصر وسوريا؛ مطلعها:

أَشرقي يا صفحةَ الخُلْد ابتساما

قد رضيناك مَحلاًّ ومُقاما

ومنها:

أُمَّتي زَفَّـت إلى هامِ العُلاَ

وِحدةً رَفَّت على القطرين عاما

يَخفق النَّصر على سَاحاتِها

بَاسمَ الثَّغر طَروباً مُستهاما

نَفَحات النيل هَزَّت بَرَدَى

فَمضَى يُلقي على النيل الخزامى

وغدا الشعبان في قُطريهما

دولة تأبى مدى العمر انقساما

لكن - وما أَثقل كلمة الاستثناء هذه على النفس! - ما كان أسرع وأد الحلم! ذلك أنه لم يَمرَّ عام على زيارتي الأولى تلك لسوريا إلا وقد تمَّ الانفصال بين القطرين العربيين، اللذين لم يَتحقَّق لأُمَّتنا نصر على أعدائها من خارجها إلا باتِّحادهما أو بالتنسيق بينهما في أَقلِّ الأحوال؛ مَرَّة على الفرنجة، الذين سَمَّتهم مصادرهم الصليبيين، ومَرَّة على التتار، وأخرى - وإن شابها ما شابها - على الصهاينة عام 1973م.

ما أشرت إليه في بداية هذه المقالة من عمق صلتي بسوريا، وما نتج عنه من محبة لها، هو الذي حاولت أن أُعبِّر عنه في زيارة أُتِيحت لي ضمن وفد من جامعات وطننا العزيز قبل خمسة عشر عاما؛ قائلاً:

في مُهجتي ِلرُبوعِ الشامِ تَحنانُ

صَانتْ حُميَّـاه أَزمانٌ وأزمـانُ

وأَمطرتْه من التاريخِ غَاديةٌ

فَاشتدَّ أَصلاً ومَاستْ منه أَغصانُ

أتيتُ أحملُه حَرفاً تُسطِّـره

مَشاعرٌ وأَحاسيسٌ و وجِدانُ

إن لم يَرُقْ لهواة الشِّعـر قَافـيةً

أو نَـدَّ في سَبكـه لَحـنٌ وأوزانُ

فَلِلهَوى في نفوس العاشقين رُؤىً

هي البيـان إذا ما عَـزَّ تِببْيــانُ

وجئُتُ يَحمُلني عبر المَدَى قَبـسٌ

مُعَطَّـر بالشَّـذَا الفَـوَّاح فَتَّــانُ

على جَناحينِ مَيمونيـن حَفَّهمـا

من مَهبطِ الوَحْي والتنزيل إيمـانُ

ومن عَشيَّات نَجدٍ مُستطابُ صَباً

رَيَّـاه شِيـحٌ وقَيصـومٌ ورَيحـانُ

أَتيتُ من وَطَني شَوقاً إلى وَطَني

وأَرضُ يَعـربَ لي دُورٌ وأَوطـانُ

عَشِقتُ وِحدتها منذ الصِّبا ورَستْ

لهـا بِقلبـي أَساساتٌ وأَركــانُ

وعِشتُ والدَّربُ تاريخٌ صَحائفُـه

عِـزٌّ وأَسطـرُه للمجـدِ تيجـان

يَفوحُ من سيرةِ الهَادي وشِرعتِـه

عِطْراً نسائمُـه عَـدلٌ وإحسـان

أَقامَها دَولـةً عَـزَّت بدَعوتِهـا

أن لا يَـذلَّ لغير الله إِنســـان

والنَّاس في ظِلِّهـا الحاني سَوَاسية

لا شَيءَ إلا التُّقَى للفَضـلِ مِيزان

وسِرتُ جِيلاً فَجيلاً ما اختفى عَلَمٌ

إلا بدا من بـه الأَعلام تَـزدان

وانْشقَّ من كَبِدِ الصَّحراء فَارسها

يَحـدو فَتنقـادُ أَبطال وفُـرسان

ويَرفع الرَّايـة الخَضْرا مُوحِّـدًّة

فَتستجيبُ رُبـيِّ عَطْشى ووِديان

وتَنتشي طَـرباً نَجـدٌ معـانقـةً

للسَّاحلين وتُبدي الحُـبَّ نَجـران

مَرابِعٌ رَحَـبَاتُ المَسجدينِ لهـا

تَاج تَتيـه بـه فَخـراً وعُـنوان

دِمشُـق يا أَلَـقَ التاريخ هَا أنـذا

قِدَمـتُ إذ لَوَّحـت لـي منـك أَردانُ

قِدَمتُ أَلثم مجداً شَاده نُجُبٌ

بِهِـم تَشـرَّفَ مَــروانٌ وسُفيــان

وأَجتلي فَيلقـاً يَمضـي فَتتبعُــه

فَيَالـقٌ شاقهـا للنصــر ميــدان

أَنتِ الحضارة إشعاعـاً ومُنطَلَقـاً

وأَنـتِ منبــت أمجـادٍ وبستــان

قَـد قَـال فيك أَمير الشعرِ قَولَتَـه

وفي حِمـاكِ على ما قـال بُرهــان

“ لولا دِمشق لما كانـت طُلَيطـةٌ

ولا زَهـتْ ببنـي العَبَّــاس بغدان”

وأَنتِ يا قَلعـة الأَحـرار أُغـنية

في مَيسـلون لهـا وَقْـعٌ وألحــان

دَمُ الشهيد رواهـا نَخوةً وفِدىً

والتُرْبُ تَفديه أَرواح وأَبدان

ولما لدمشق في وجداني من منزلة سَمَّيت أكبر مجموعة شعرية صدرت لي دمشق وقصائد أخرى. ومدينة حلب الشهباء صنو لدمشق. وحينما دُعِيت إليها بمناسبة كونها عاصمة للثقافة الإسلامية أَلقيت فيها قصيدة؛ مُستلهما الجوَّ الذي عاشه المتنبي فوق ربوعها في عهد سيف الدولة الحمداني؛ قائلاً:

مُنْيةُ الرُّوحِ أن يَكونَ السَّـــبيلُ

لِـرُبوعٍ بِهـنَّ يُشفَـى العَليـلُ

ومَغَانـي الشَّـهباءِ دَوْحُ فَخـارٍظِـلُّه

مُتعـةُ النفـوسِ ظَـليـلُ

لَوحـةٌ مـن رَوائع الفَـنِّ فيهـاما

إِليه نَفْـسُ الأَريـبِ تَميـلُ

و بهـا سَـادةٌ يَفيضـون

نُبْــلاًفَضـلُهـم رَائعُ السِّمات أَصـيلُ

وصَبَـايا من جَنِّة الخُـلْد حُــورٌلِهَـوى

الرُّوح لُطفُهـا سَـلسبيلُ

يَرتـدين العَفافَ ثَـوْبـاً

قَشـيباًنَاسجاه القُــرآنُ والإِنْجـــيلُ

إِيـهِ يا رَوعـةَ الدِّيـارِ فُـؤادِي

في سُـويدائِه هَــواكِ نَـزيـلُ

هـا أنا ذا أَتيتُ مُضــرمَ وَجْـدٍ

حَاملي الـوُدُّ والغَـرامُ الدَّليـلُ

جِئـتُ أَهـفو لحاضـرٍ

مُجتَـلاهطَلْعـةٌ حُلـوةٌ وثَغــرٌ جَمـيلُ

و قـديمٍ كسـاه ثَـوبَ جَمــالٍ

من نسيج الإبـداع مَجـدٌ أَثيـلُ

فيـه تبـدو مَعـالمٌ نَاطقـــاتٌهُـنَّ

فـي هَامـةِ العُـلا إِكليـلُ

فَوقَ سـاحاتها مَليـكُ القــوافييُسِكر

الكـونَ من قوافـيه قِيـلُ

و مَعينُ البيـانِ مِـلكُ يَـديــه

كيفما شـاءه يَســيل يَســيلُ

فـإذا صَـاغَه فَلفـظٌ جَمـــيلٌ

في عباراتِـه ومَعـنىً جَليــلُ

و إذا الـدَّهـر مُنشــدٌ وصَـدَاه

ما حَكَى الغير حين عَـزَّ البديـلُ

مَنْ كَمثلِ الكِنْديِّ إن زَفَّ خُوداً

في دُنَى الشِّـعر ما لهـن مَـثيلُ؟

نَـال إِعجـبه سَليلُ بني حَمْدان

فَذًّا ونِعمَ ذاك السَّــليلُ

فهو في السِّــلمِ حَاكمٌ لا يُضاهَى

وهو في الحَرْب سَيفُ نَصرٍ صَقيلُ

كُلُّ مـا قِيـل فـي الثَّنـاءِ عليه

من بَديـع الكلامِ فهـو قَـليـلُ

جَمَع المَكْرماتِ فَالأَصــلُ سَـامٍحين

يُعتــدُّ بالأُصـول نَبيــلُ

و إذا ما تَحدَّثـوا عـن سَــخَاءٍ

فَالعَطـاء الذي يُنيـل جَـزيـلُ

إِيهِ يا رَوعـةَ الدِّيـارِ ومَهــداً

وَصْفُ آيـاتِ حُسْـنه مُسـتحيلُ

بَهجَـتي في حِمِاك عُظْـمى وقَلبي

وَاجفٌ إذ بـدا لعيـني الرَّحيـلُ

بلاد تلك مشاعري نحوها جعلتني غير قادر على أن أكتم تلك المشاعر. فهل لي قدرة على التعبير عن شِدَّة وطأة الألم بما أراه يُرتكَب فوق ربوعها من جرائم تدميرها؟ أما إيراد ما أطلت في إيراده من شعر بالذات في هذه المقالة بالذات فربما كان هناك إيحاء في اللا شعور - كما يقال - كون نشرها عَشيَّة منح جائزة عكاظ، التي وُفِّقت لجنة الاختيار غاية التوفيق بمنحها للشاعرة المبدعة المتألِّقة روضة الحاج، والتي سعدت بالاشتراك معها في أمسية شعرية بالسودان، وكتبت عن إبداعها وتألُّقها في مقالة من ثلاث حلقات نُشِرت في صحيفة الجزيرة الغَرَّاء قبل سبع سنوات.

 

ما أَشدَّ وطأة ما أراه!
د.عبد الله الصالح العثيمين

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة