ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Friday 21/09/2012 Issue 14603 14603 الجمعة 05 ذو القعدة 1433 العدد 

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

أفاق اسلامية

 

مع قرب موسم الحج.. دعاة وأكاديميون شرعيون لـ»الجزيرة»:
الحج لمن استطاع إليه سبيلا.. وتكراره ليست نازلة

رجوع

 

الجزيرة - خاص:

يحرص كثيرٌ من المسلمين على أداء فريضة الحجِّ بصفة مستمرة، بل إن البعض منهم يؤدِّي هذه العبادة كل عام مستندًا إلى قوله تعالى: {الحجّ أشهر مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحجّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أولي الأَلْبَابِ}، في ظلِّ هذه الآية الكريمة، وفي ظلِّ أن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يحج إلا مرة واحدة، وبعد أن يقضي المسلم فريضته: هل من الأفضل له أن يكررَ الحجّ كل ما تيسَّر له ذلك، أو يحجج غيره ممن لم يحجوا وليس لديهم الاستطاعة المادِّية؟ كانت تلك المحاور التي طرحناها على عددٍ من أصحاب الفضيلة.. فماذا قالوا؟

مشاعر محدودة

الدكتور عبد الرّحيم بن محمد المغذّوي الأستاذ بالجامعة الإسلاميَّة بالمدينة المنورة يقول: إن الحجّ شعيرة إسلاميَّة عظيمة وركن من أركان الإسلام المشيدة به يكمل إسلام المرء وتتحقق به سعادة الدنيا والآخرة إذا ما عمل حسب شريعة الإسلام السّمحة.

والحجُّ في الإسلام مأمورٌ به المسلم وهو في حقيقته رحلة إلى الله تبارك وتعالى وتجردٌ من حطام الدّنيا والتلبس بلباس الآخرة، وللحجِّ في الإسلام أركانه وواجباته وسننه وأخلاقه وآدابه والمسلم حينما يحجّ فإنّما يقوم بتنفيذ عدَّة عبادات: عقدية، ومالية، ونسك، وغيرها من العبادات الظاهرة والباطنة ممتثلاً قول المولى جلّ وعلا: {قُلْ إن صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمرَّت وَأَنَاْ أول الْمُسْلِمِينَ} وقد فرض الإسلام الحجَّ على المسلم في العمر مرّة واحدة حسب القدرة والاستطاعة، قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبراهيم وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ استطَاعَ إليه سبيلاً وَمَن كَفَرَ فإن الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، وقد حجّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خلال عمره الشّريف حجّة واحدة وهي التي تعرف بحجة الوداع، ومنذ عهده صلَّى الله عليه وسلَّم وإلى الوقت الحاضر والمسلمون يحجّون إلى بيت الله الحرام زرافات ووحدانًا امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِ الحجّ يَأْتُوكَ رجالاً وَعلى كلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، ولكن ومع تيسَّر سبل الحجّ في العصر الحاضر وما وفرته حكومة المملكة العربيَّة السعوديَّة من سبل ومرافق وطرق وأمن وأمان ومشروعات عملاقة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة، قد ضاعف من أعداد الحجيج أضعافًا كثيرة حتَّى عدّوا بالملايين في مشاعر محدودة وأزمنة محدودة ممّا ضاعف من الجهد والمتاعب ونظرًا لكل ذلك ولما شرعه الإسلام من التيسير ورفع الحرج وما قرره علماء الإسلام من تحصيل المصالح وتقليل المفاسد فإنه يحسن بالحاجّ قبل أن يقرّر الذّهاب إلى الحجّ أن يستحضر كل تلك المعاني في ذهنه وعقله وقلبه، فإذا كان قد أنعم الله عليه بالحجّ إلى بيته الحرام، وقام بأداء النّسك الذي افترضه الله عليه أن يتيح المجال لإخوانه المسلمين الذين لم يحجوا وبإمكانه أن يتصرّف بماله الذي رصده للحجِّ في أوجه البرِّ المختلفة كأن يقوم بالإنفاق على من لم يحج من الفقراء والمساكين ليقوموا بتأدية فريضة الحج، وأيضًا بإمكانه أن يقوم بالإنفاق على حجاج بيت الله الحرام من خلال الإطعام وتقديم الخدمات المتنوّعة والمساهمة مع إخوانه المسلمين في ذلك عن طريق البرامالمتخصصة والمنافذ المعنية مثل: الجهات الخيرية، والمستودعات الخيرية، وجمعيات البر، وغيرها.

وخلاصة القول، فإن الحجَّ شعيرة إسلاميَّة عظيمة لكن بشروطها وآدابها، ولكن التّحايل على تكرار هذه الشعيرة والتماس الطرق الملتوية مع ما يصحبها أحيانًا من الإنفاق المالي الكبير، كلّ ذلك محلّ نظر وتوَّقف ودعوة للمسلم إلى تقوى الله عزَّ وجلَّ والتمسُّك بسنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وطاعة أولي الأمر واتباع توجيهاتهم والترفق بالحجاج وعدم مزاحمتهم ومعاندتهم وترك المجال والفرص للذين لم يحجوا لتأدية نسكهم والقيام بفريضتهم، قال تعالى: {الحجُّ أشهر مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحجّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أولي الأَلْبَابِ}.

الضرر والاستطاعة

أما الدكتور إبراهيم بن ناصر الحمود الأستاذ المشارك في المعهد العالي للقضاء فيوضح: إن تكرار الحجِّ من حيث المبدأ مرغبٌ فيه شرعًا كما جاء في قول النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (تابعوا بين الحجِّ والعمرة؛ فإنهما ينقيان الذنوب كما ينقي الكير خبث الحديد) ولكن القواعد الشرعيَّة المعروفة المتعلقة بدرء المفاسد وجلب المصالح لها دورٌ كبيرٌ في بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة. ولا شكَّ أن الإكثار من العبادة مع النيّة الصالحة يزيد في أجر المؤمن. ولهذا يمكن القول بأن الترغيب في متابعة الحجّ وتكراره ليس على إطلاقه وإنما منوط بالمصالح ودرء المفاسد المترتبة على ذلك وجودًا وعدمًا.

وفي العصر الحاضر حين كثر الحجاج من كافة أقطار العالم الإسلامي، واشتد الزحام وكثر المتضررون من ذلك فلا بد من التدابير الواقية من هذا الضرر الذي لحق بعدد كبير من المسلمين.

ومن تلك التدابير الخطوة الرائدة التي نَظَّمتها الدَّولة، وهي: إن تصريح الحجّ لا يمنح إلا لِمَنْ مضى على حجته الأولى خمس سنوات، كل ذلك من باب الحدِّ من الأعداد الهائلة التي كانت سببًا في تزاحم وتدافع الحجاج مما نتج عنه أضرار ووفيات خاصة بالقرب من الجمرات.

ولا شكَّ أن في تكرار الحجّ زيادة أجر ولكن هذه المصلحة إذا قُوبِلت بما يترتَّب على ذلك من المفاسد فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. كما أن تكرار الحجّ مستحب وإيذاء المسلمين محرَّم بسبب الزحام، فكيف يسعى الحاج إلى تحصيل مستحب، ويقع في المحرّم بسببه. ومحمد صلَّى الله عليه وسلَّم ما خيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. ولا شكَّ أن عدم تكرار الحجّ مع ما فيه من مصلحة التوسعة على الحجاج أيسر وأعظم أجرًا، فمن ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه.. فنصيحتى لكل حاج قد أدى فريضة الحجّ أن يفسح المجال لغيره ممن لم يحجوا بعد، فإن هذا من باب التعاون على البّر والتقوى. وبناءً على ذلك: فإن من سبق له الحجّ مرة أو أكثر، فالأولى في هذا الزمان أن يقتصر على ما مضى، حيث قد أدى فرضه، ويدفع تكلفة الحجِّ لِمَنْ لم يحج من فقراء المسلمين، فإن ذلك فيه براءة ذمة مسلم من واجب شرعي، بل ركن من أركان الإسلام، وإعانة لأخيه المسلم، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه وأجره عند الله عظيم، لأنَّه لو حج بماله لنفسه فهو في حقه مستحب (تطوع) والوفاء بالواجب في حق غير المقدم عليه.

المتساهلون والمتشددون

ويؤكد الدكتور محمود بن محمد المختار الشنقيطي الداعية بمركز الدعوة والإرشاد بالمدينة المنورة عضو التوعية الإسلاميَّة بالحجِّ أن مسألة تكرار الحجِّ ليست نازلةً، وإنما تناولها فقهاؤنا -رحمهم الله- قديمًا ووردت في مسائل الأئمة مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.

فالقضية أفتى فيها جلّ علمائِنا بأن تكرار الحجِّ التطوع خلافُ الأولى، وربما كُره التكرارُ فيما لو ترتبتْ عليه مفاسدُ ومحاذيرُ شرعيَّة.

وأجزم بأن الناس أحوجُ إلى أسلوب الإقناع بمعرفة دوافعهم في التكرار، وأحوجُ إلى أهميَّة فقه الأولويات في العبادة منه إلى الفتوى، وقيامُ حملاتٍ دعوية منظّمةٍ عبر المنابر المتاحة ووسائل الإعلام على مستوى الأمة لتفقيه الناس في فقه الأولى في هذه المسألة «تكرار الحجِّ نافلة وتطوعًا» أنجعُ، وكذلك علاج دوافعهم مثل: اعتقادهم الأفضلية لهذه العبادة، فيوجَّهون للعبادات ذاتِ النَّفع المتعدي مثل: التبرع بنفقة الحجِّ لمساعدة الشباب على الزواج، ودافع بغية التطهير والتكفير، وطلب المغفرة بتوجيههم إلى غيرها من المكفرات والأعمال الصالحة ذات الأجور المضاعفة.. إلخ.

والمؤمن حقًا هو من يدور، حيث دار الحكم الشرعي، ولا يتشهّى في عباداته؛ لأنَّه يستشعر أن الله لا يُطاع من حيث يُعصى، وأن الحجَّ المبرور الذي ليس له جزاءٌ إلا الجنَّة هو الخالي من الإثم والمعاصي.

ومدارُ المسألة ينبغى بناؤُه على محددات الاستطاعة، فالأضرار والإيذاءُ والتكشُّفُ في حق المرأة ومماسَّة الجنسين بعضهم بعضًا، ينبغى بحثها في الاستطاعة خاصة في حق مكرر الحج. وإذا كان بين المتشددين في المنع من أثّم المتطوع بالحجّ المكرر للنسك، فإنه يقابله من عدّ التنظيم للحج كلّ خمسِ سنين وفتوى عدم جواز تكرار الحجِّ التطوع، عدّها صدًّا عن المسجد الحرام، وتزهيدًا في هذه الشعيرة، أو أنها فتوى مُسيّسة!! فضاع الصوابُ بين تشددين وطرفين.

وإذا كان هناك من السلف من منع من تكرار الحجِّ تطوعًا في زمانه، وهو الذي عليه جلّ مشايخ العصر اليوم، فإن أصحاب القول الثاني الذي نراه مرجوحًا استدلوا بعموم النصوص الشرعيَّة المرغّبة في الحجِّ والعمرة نحو قوله صلَّى الله عليه وسلَّم «الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، واستدلوا بنصوص فضل الصلاة والصدقة والصوم على استحباب الإكثار من هذه العبادات بما زاد على الفرض تنفلاً لله تعالى، ومثلها نصوص فضل الحجّ تدل على استحباب الإكثار منه بعد أداء حجة الإسلام تنفلاً لله تعالى، ولا يحق لأحد - كائنًا من كان - أن يحمل كل تلك النصوص برأيه على حج الفريضة. واستدلوا بحث النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم على المتابعة بين الحجّ والعمرة أي الإكثار منهما وعدم الفصل بين الحجة والأخرى بفاصل زمني طويل. وبأنّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عندما كان بمكة قبل الهجرة كرّر الحجّ كما ذكره بعض أهل السير، وإنما منعه بعد الهجرة القتالُ الذي بينه وبين قريشٍ من الحجِّ قبل الفتح، ، ثمَّ منَعتْه الأوثان والنسء من الحجّ في العام التاسع، ومنعته وفاته صلَّى الله عليه وسلَّم بعد حجة الوداع من تكرار الحج.

ومن أدلَّتهم: إقرار النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابه الذين حجوا في العام التاسع، ثمَّ في العام العاشر كأبي بكر الصدِّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ -. كذلك فقد حج الخلفاء الراشدون مرارًا وقد أمرنا صلَّى الله عليه وسلَّم أن نعَضّ على سنتهم بالنواجذ، وجوابهم على الاستدلال بأن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لما سُئل أفي كلِّ عام يا رسول الله؟ قال: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم» فجاوبوا عنه بأن غاية ما في الأمر أنه لم يوجبْه كل عام لئلا يشق على أمته، لكنَّه لم ينْه عن تكراره كل عام، بل ظاهره أن تكراره كل عام من المستحبات، مثل عدم أمره بالسواك عند كل صلاة لئلا يشق على أمته، ولم يفهم أحد من هذا كراهة السواك، ولم يزل العلماء سلفًا وخلفًا يذكرون في مناقب من يترجمون له أنه حج مرارًا، كما في ترجمة سفيان بن عيينة -رحمه الله- أنه حج ثمانين حجة.

الفتوى المشهورة

ويستشهد د.الشنقيطي بفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى حين سُئل عن هذه المسألة فكان رأيه المنظوم في بحر ورَوِيّ السائل: إنه يحج ولا يتصدق خلاف (الفتوى المشهورة) يقول له السائل:

ماذا يقول ثقاتُ العلمِ في رجلٍ

أتاه ذو العرشِ مالا حَجّ واعتمرا

فهزّهُ الشَّوق نحو المصطفى طربًا

الحجُّ أفضل أم إيثـارُه الفُقرا

والحجّ عن والديـه فيه برُّهما

ماذا ترون له يا سادتي ظهرا؟

فافْتوا محبًا لكمْ يهوى لقاءَكمُ

وذكرُكمْ دأْبُه إن غاب أو حضرا

فأجاب -رحمه الله-:

نقول فيه بأن الحجَّ أفضل مِنْ

فعلِ التصدقِ والإيُثارللفقرا

والحجُّ عن والديه فيه برُّهما

والأم أسبق بالبر الذي حضرا

لكنْ إذا الفردُ خصَّ الأبَّ كان إذًا

والمقدم فيما يمنع الضررا

كما إذا كان محتاجًا إلى صِلةٍ

وأمُّهُ قد كفاها من بَرى البشَرا

هذا جوابُك يا هذا موازنةً

وليس مُفتيك معدودًا من الشعرا

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في «الاختيارات الفقهية»: (وأما إن كان له أقارب محاويج فالصدقة عليهم أفضل، وكذلك إن كان هناك قومٌ مضطرون إلى نفقته، فأما إذا كان كلاهما تطوعًا فالحجّ أفضل؛ لأنَّه عبادة بدنية مالية، وكذلك الأضحية والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك، لكن هذا بشرط أن يقيم الواجب في الطريق، ويترك المحرّمات ويصلي الصلوات الخمس، ويصدق الحديث، ويؤدِّي الأمانة، ولا يتعدى على أحد) انتهى.

ومهما كانت قوة ووجاهة قول القائلين بجواز تكرار الحجِّ تطوعًا، فلعلّي أحاول المساهمة في تحرير المسألة وتحقيق مناطها بنقاطٍ مختصرةٍ شبيهة بخطوط عريضة، أو إضاءات تجلّي معالمَ فقه القول الثاني الذي أراه راجحًا وهو المنعُ في هذه المسألة:

أولاً: ـ التفريق بين تكرار النسك من المرأة ومن الرجل، ففي حق المرأة يقوى القول بالمنع؛ لأنّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمر نساءه بعدم تكرار الحجِّ بعد حجة الإسلام، وأمرهن بالقرار في البيوت، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: (هذه، ثمَّ ظهور الحُصُر)، رواه أحمد عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه بسند صحيح. وفي رواية: ((فكنّ كلّهن يحججْن إلا زينب وسودة بنت زمعة، وكانتا تقولان: والله لا تحركنا دابةٌ بعد أن سمعنا ذلك من النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم).

وهذا في حقِّ نساء النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وحق غيرهن، ولأنَّه في حج الفريضة قد تتعرَّض لبعض المحرّمات التي تقتضيها طبيعة النسك، كمماسَّة الرجال والتكشف والإعياء وطرؤ العذر الشرعي عليها فتحبِسُ مرافقَها، فإن كانت هذه في حجة الفريضة حالةً ضرورية لمكان حجّة الإسلام وركنه، فهي منتفيةٌ في حجِّ النافلة في حقها. وكذلك الرجل الذي يغلب على ظنه الوقوعُ في فتنة النساء يقوى القول بمنعه من الحجِّ؛ لأنَّه درءٌ لمفسدة مقدم.

ثانيًا: التكرار كل خمس سنوات على الأقل للمستطيع كحدٍ أدنى، فيه فضيلةٌ ومرغبٌ فيه، وصاحبه لا يتناوله الخلاف، وكذلك بعض الصُّور مثل: من حج حجًا فاسدًا عليه قضاؤه، أو تكون عليه حجة أخرى واجبةٌ منذورة، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تابعوا بين الحجِّ والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفى الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة». رواه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وثمة فوائدُ نفسيةٌ عظيمةٌ للحج والعمرة: إلا ترى أن زيارة المسلم لبيت الله الحرام ولمسجد الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ولمنازل الوحي، وأماكن البطولات الإسلاميَّة، تُمِدُّ المسلم بطاقة روحيةٍ عظيمةٍ تزيل عنه كروب الحياة وهمومها، وتغْمره بشعورٍ عظيم من الطمأنينة والسعادة؟

ثالثًا: المباهاة بعدد الحجات والكذب في سبيل الوصول للحج التطوع، والتزوير والتفريط في حقوق الأسرة والأولويات من ديونٍ والتزامات وتعمَّد التضييق على الحجاج بالافتراش ومزاحمتهم في الأماكن التي خُصّصتْ لهم، وعدم طاعة ولي الأمر ومخالفته في الالتزام بخمس أعوام، وشراءُ التصاريح وبيعها من دون مراعاة الأنظمة واللوائح المنظمة من قبل ولي الأمر، هذا كلّه ينافي الحجَّ المبرورَ ويُنقص ثوابَ الحاج، وقد نهى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن المزاحمة على الفضائل إذا أدت إلى الأذية والأضرار بالمسلم، للمفاسد المحققة فيه والضرر بالناس.

وفي الحديث الضعيف: (يا عمر، إنك رجلٌ قوي، فلا تؤذ الضعيف، وإذا أردت تسلّم الحجر فإن خلا لك فاستلمْه وإلا فاستقبلْه وكبرْ) أخرجه الشافعي وأحمد وغيرهما وقوّاه بعضهم.

رابعًا: مدار المسألة على المفسدة المحققة المترتبة على تكرار الحجّ عند الأغلب، ومعلومٌ بناءُ الفقه بلْهَ الشريعةِ على جلْب المصالح ودرْءِ المفاسد، والشريعة الإسلاميَّة الكاملة مبنية على أصلين عظيمين: أحدهما: العناية بتحصيل المصالح الإسلاميَّة وتكميلها ورعايتها حسب الإمكان. والثاني: العناية بدرء المفاسد كلّها أو تقليلها، وأعمال المصلحين والدعاة إلى الحق وعلى رأسهم الرسل - عليهم الصلاة والسَّلام - تدور بين هذين الأصلين، وعلى حسب علم العبد بشريعة الله سبحانه وأسرارها ومقاصدها وتحرّيه لما يرضي الله ويقرب لديه، واجتهاده في ذلك يكون توفيق الله له سبحانه وتسديده إياه في أقواله وأعماله.

فإذا عَلِم المكررُ للحج أن حجَّه دائرٌ على استحسان فرديّ، مقابلَ ضررٍ اجتماعي، ربَّما اقتنع وكفّ واتجه إلى تحصيل أبواب أخرى ربَّما أكثر أجرًا من تكرار الحجّ تطوعًا.

وكذلك أن ترك الحجِّ إفساحًا وتوسعةً على المفترضين كان له أجر التعاون على البر، وإيُثار غيره بالقُرْبة كما مذهب بعض الفقهاء.

خامسا: قاعدةٌ عامة في حق من تعارضت عنده عبادتان، قاصرةٌ كالحج، ومتعديةٌ كالأعمال الإغاثية، ومساعدة اللاجئين من الحروب، أو دعْم قضايا الأمة كفلسطين، ومقاومة التنصير والمذاهب الهدّامة، أو أعمال اجتماعيَّة كتزويج الشباب، أو أعمال دعوية تعليميَّة فكل هذه العبادات المتعدية على أرجح أقوال العلماء: إنها أفضل جملةً من الحجّ تطوعًا.

نعم، قد يُستثنى من هذه المسألة من يُرَى في الحجِّ أبلغ الأثر على قلبه وصلاحه واستقامته من غيره من العبادات، أو كان ممن يستفيد منه الحجاج كالدعاة والمفتين، وما أفقه سلفنا الصالح حين كانوا قدوةً عمليةً في فقه الأولويات وتشييد مناراته: في إحياء الغزالي: قَالَ «ابْنُ مَسْعُودٍ»: «فِي آخر الزَّمَانِ يَكْثُرُ الْحَاجُّ بِلَا سَبَبٍ، يَهُونُ عَلَيْهِمُ السَّفَرُ، وَيُبْسَطُ لَهُمْ فِي الرِّزْقِ، وَيَرْجِعُونَ مَحْرُومِينَ مَسْلُوبِينَ، يَهْوِي بِأحدهم بَعِيرُهُ بَيْنَ الرِّمَالِ وَالْقِفَارِ وَجَارُهُ مَأْسُورٌ إلى جَنْبِهِ لَا يُوَاسِيهِ» وَقَالَ «أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ»: «إِنَّ رجلاً جَاءَ يُوَدِّعُ» بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ «وَقَالَ: « قَدْ عَزَمْتُ عَلَى الحجِّ فَتَأْمُرُنِي بِشَيْءٍ «؟ فَقَالَ لَهُ: « كَمْ أَعْدَدْتَ لِلنَّفَقَةِ «؟ قَالَ: «أَلْفَيْ دِرْهَمٍ»، قَالَ»بشر»: « فَأَيَّ شَيْءٍ تَبْتَغِي لِحَجَّتِكَ تَزَهُّدًا أو اشْتِيَاقًا إلى الْبَيْتِ أو ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ «؟ قَالَ: «ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ» قَالَ: «فإن أَصَبْتَ مَرْضَاةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْتَ فِي مَنْزِلَتِكَ وَتُنْفِقُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَتَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى أَتَفْعَلُ ذَلِكَ»؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: اذْهَبْ فَأَعْطِهَا عَشَرَةَ أَنْفُسٍ: مَدْيُونًا يَقْضِي دَيْنَهُ، وَفقيرًا يَرُمُّ شَعَثَهُ، وَمُعِيلاً يُحْيِي عِيَالَهُ، وَمُرَبِّي يَتِيمٍ يُفْرِحُهُ، وَإِنْ قَوِيَ قَلْبُكَ تُعْطِيهَا واحدًا فَافْعَلْ، فإن إدخالكَ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِ مُسْلِمٍ وَإغاثة اللَّهْفَانِ وَكَشْفَ الضُّر وَإِعَانَةَ الضَّعِيفِ أفضل مِنْ مِائَةِ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةِ الإسلام، قُمْ فَأخرجهَا كَمَا أَمَرْنَاكَ وَإِلَّا فَقُلْ لَنَا مَا فِي قَلْبِكَ» فَقَالَ: «يَا أبا نصر سَفَرِي أقوى فِي قَلْبِي»، فَتَبَسَّمَ «بشر» -رحمه الله- تَعَالَى - وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: «الْمَالُ إذا جُمِعَ مِنْ وَسَخِ التِّجَارَاتِ وَالشُّبُهَاتِ اقْتَضَتِ النَّفس أن تَقْضِيَ بِهِ وَطَرًا، فَأظهرت الْأعمال الصَّالِحَاتِ، وَقَدْ إلى اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ إلا يَقْبَلَ إلا عَمَلَ الْمُتَّقِينَ». أهـ.

وذكرتْ كتب التراجم عن ابن المبارك أنه خرج إلى الحج، فاجتاز بعض البلاد، فمات طائرٌ معهم، فأمر بإلقائه على المزْبلة، وسار أصحابه أمامه وتخلّفَ هو وراءهم، فلما مرّ بالمزبلة إذا بجاريةٍ قد خرجتْ من دار قريبة وأخذت ذلك الطائر الميت، ، ثمَّ أسرعتْ به إلى الدار، فجاء ابن المبارك وسألها عن أمرها، وأخذ الطائرِ الميت فاستحيتْ، أولاً ، ثمَّ قالتْ: أنا وأمي هنا وليس لنا شيءٌ إلا هذا الإزار، وليس لنا قوتٌ إلا ما يُلقى على هذه المزبلة، وكان لنا والدٌ ذو مالٍ عظيم فأُخذ مالُه وقُتل لسببٍ من الأسباب، ولم يبق عندنا شيءٌ نتبلّغ به أو نقتات به، فلما سمع بذلك ابن المبارك دمعتْ عيناه وأمر بردّ الأحمال والمؤونة للحجِّ، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار، فقال له: ابق لنا عشرين دينارًا تكفينا لإيابنا وأعْط الباقي لهذه المرأة المصابة، فو الله لقد أفجعتني بمصيبتها وإن هذا أفضل عند الله من حجنا هذا العام، ، ثمَّ قفل راجعًا ولم يحج.

وبعد.. فمهما يكنْ من أمرٍ، فلا ينبغى تأثيمُ المكرِّرِ للحج، ولا التثريبُ عليه ولا مضايقتُه بالقول وأذيتُه وتبكيتُه وإنما توضَعُ المسألة في سياق المسائل المختلَف فيها قديمًا وحديثًا، التي يكون الفقيهُ فيها بين الأجر والأجرين، والفاضل والمفضول، وليس بين الجائز والحرام، ولا حجْر على من أراد إنفاق ماله في أي باب من تلك الأبواب الحجّ أو غيره، ولكلٍ وجهتُه في المفاضلة بين شُعَب الإيمان تلك، ويُترك الناس في سعة ٍ من أمرهم، ويسعنا ما يسعُ السّلف، وقد جعل اللهُ لك شيء قدرًا، وفي كلِّ خير، والحمد لله رب العالمين.

 

رجوع

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة