ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Monday 24/09/2012 Issue 14606 14606 الأثنين 08 ذو القعدة 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الأخيــرة

      

في الحلقة الماضية ضربت لكم تلاشي المهارات البدوية والفلاحية القديمة كأمثلة على ضمور ما لا يستعمل. موعدنا اليوم مع ضمور القدرات الفكرية عندما يستخدم الدماغ كمستودع تخزين للأفكار والعادات القديمة، بدلاً من استعماله كورشة عمل ومصنع أفكار جديدة.

سوف أكتفي بثلاثة أمثلة في هذا المجال، هي التعليم المعتمد على التلقين، وتعطيل الاجتهاد الفقهي لصالح الانصراف إلى سد الذرائع، والبحث العلمي المكلف الذي ناتجة التطبيقي العملي صفر مكعب.

أما مسألة تحويل المخ إلى مستودع تخزين للبضائع القديمة، فتلك هي الطامة الولود، أي أم الطوام التي أنجبت لنا كل مقومات العجز عن الاعتماد على إنجازاتنا الفكرية والتطبيقية الذاتية. كلمة السر للدخول إلى هذا الكهف الطويل من التخلف هي مفردة « التلقين «، أي الحفظ عن ظهر قلب. منذ بدايات التعليم المدرسي عندنا وحتى اليوم، لا تزال الميزة الأولى للتلميذ والطالب هي القدرة على حفظ المعلومة واستحضارها ساعة الامتحان بنفس النص والكلمات والتسلسل قدر الإمكان كما وردت في المقرر أو الملخص الذي يبيعه المعلم والأستاذ في المكتبة المجاورة. التلميذ أو الطالب الذي يتفذلك أو يتفلسف ويحاول الإتيان باجتهاد خاص لتفكيك جملة أو تفسير معلومة أو حل مسألة رياضية يعتبر خارجاً على النص ومتمرداً على روح الفصل والعياذ بالله. الطالب الذي يكثر من السؤال ويعترض على شرح المحتوى كما ورد على لسان المعلم يعتبر مارقاً ومشروع إثارة للبلبلة وتهديداً للسلم المدرسي والجامعي. هذا النوع من الطلاب يتم تحذيره من التمادي في ضلاله وينتقص من علاماته ويهدد بالرسوب والطرد التأديبي. المحصلة النهائية لهذا التعليم التلقيني الاجتراري هي تخريج أجيال متتابعة من المربين والأساتذة والقضاة والمسؤولين الكبار لا يجيدون التفكير المستقل ولا يطيقون النقاش ولا يتحملونه حتى في بيوتهم لأنهم مجرد نسخ طبق الأصل خرجت من رفوف المستودع نفسه. أظن هذا يكفي للتدليل على ضمور الفص الدماغي الخاص بالتفكير في المعلومات والمعادلات والظواهر العلمية نتيجة للتلقين المنهجي في التعليم. تذكروا أننا ما زلنا نحتاج في كل شيء إلى خبراء أجانب.

الخوض في مسألة تعطيل الاجتهاد الفقهي لصالح توسيع باب سد الذرائع أمر شائك يعترض العاملون في القضايا الشرعية على تدخل الغرباء في دروبه ومسالكه، رغم أنهم بذواتهم وبكل همة على أرض الواقع يتدخلون دون استئذان ولا تخصص في كل شؤون الحياة، لكنني أتقبل اعتراضهم لأنه لابد من ذلك. مما يسهل علي الرضا بالابتعاد، الاكتفاء بالانتقادات المتكاثرة والوجيهة الموجهة إلى العجز الواضح في الاجتهادات الفقهية في كل البلاد الإسلامية من داخل المؤسسات الدينية والشرعية نفسها. مع الانفجار التواصلي والمعلوماتي واختلاط الأمم والحضارات والأديان والمذاهب والعادات والتقاليد، أصبح العجز الفقهي عن التعامل مع مستجدات الحياة هو الهم الأكبر للحكومات والمؤسسات التحكيمية والشرعية والتجارية والقانونية والتربوية والسياسية في العالم الإسلامي. هناك حقوق المرأة والطفل والأقليات، وحقوق الاختلاف وحريات التعبد وحدود الحريات الشخصية داخل الجماعات المتقاطعة المصالح.. إلى آخر القائمة. كنتيجة للفوضى والتناقضات في الفتوى وانعدام البوصلة التوافقية الواضحة صارت البراكين الفكرية والعقائدية والمذهبية والطائفية تتفجر مثل القنابل العنقودية في كل يوم ومكان من العالم الإسلامي الذي نحن منه بمثابة المركز. لا يوجد سبب مقنع لهذا التأزم سوى ضيق أبواب وشبابيك الاجتهاد في الاتجاهات الخادمة للحياة المشتركة المتسالمة مع مكوناتها ومع الآخر. التمنع الفقهي يبدو على الأقل ظاهرياً كأنه محاولة مستميتة لمنع دخول الرياح والعواصف الجديدة إلى المخازن القديمة. على حكماء القوم أن يتنبهوا إلى أن العواصف والرياح القوية لا تطلب الاستئذان قبل الدخول، وقد تقتلع ما يعترضها عندما لا يكون مصمماً بطريقة منهجية وعلمية قادرة على الصمود.

تبقى لنا من الأمثلة غياب البحث العلمي التطبيقي في الجامعات ومراكز الأبحاث. الضجة الإعلامية حول مساهماتنا البحثية عالية جداً، ولكن هل يدلنا أحد على بحث سعودي واحد من الطراز العلمي الثقيل قدم شيئاً قابلاً للتطبيق العملي محلياً، أي في داخل المملكة العربية السعودية. لدينا مجموعة لا بأس بها من العالمات السعوديات المتميزات وعدد أقل من العلماء الذكور، لكن أبحاث هؤلاء كلهم مجرد حلقات مشاركه في منظومات أبحاث غربية، وكل تطبيقاتها وفوائدها العملية تتم هناك، أي في الخارج، المعنى المتضمن في هذا الواقع هو أن الأدمغة المحلية لا تستطيع العمل بجهودها الذاتية في المناخ الفكري السائد، ولكنها تفصح عن إنجازات كبيرة إذا انفتحت على عوالم الإمكانيات والحريات المتاحة للأبحاث في العوالم الأخرى.

سامحوني على الإزعاج الذي قد أكون سببته لكم، مع أنني أرى في الامتعاض من النقد دليلا آخر على ضمور ما لا يستعمل.

 

إلى الأمام
ضمور ما لا يستعمل المخ كمستودع تخزين
د. جاسر عبدالله الحربش

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة