ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Wednesday 03/10/2012 Issue 14615 14615 الاربعاء 17 ذو القعدة 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

أحس بأن أيامي، كهذه الليلة الحمقاء،

عاصفة بلا معنى

صراع دونما غاية، ومعركة بلا راية،

طواف حول دائرة من الأوهام

حينما صدر ديوان غازي الثالث «معركة بلا راية» 1970م سارت وفود من المتحمسين نحو الملك فيصل - رحمه الله - لمطالبته بمنع الديوان من التداول، وتأديب الشاعر، فأحال الملك فيصل، الديوان، لمستشاريه ليطلعوا عليه ويأتوه بالنتيجة، فكان أن رأى المستشارون أنه ديوان شعر عادي لا يختلف عن أي ديوان شعر عربي آخر، إلا أن الضجة لم تتوقف حول الديوان واستمرت الوفود بالتقادم للملك فيصل، فما كان منه سوى أن شكَّل لجنة ضمت وزير العدل ووزير المعارف ووزير الحج والأوقاف، لدراسة الديوان، وانتهت اللجنة إلى أن ليس في الديوان ما يمس الدين أو الخلق، ولا تمر هذه الحادثة في ذهن القصيبي إلا ويتذكَّر موقف الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - من هذه القضية، إذ يقول غازي: «سمعت من أحد المقربين إليه أنه اتخذ خلال الأزمة موقفاً نبيلاً وحثَّ الملك فيصل على عدم الاستجابة إلى مطالب الغاضبين المتشنجة».

ومنذ أربعين عاما ما زال الصراع دونما غاية والمعركة بلا راية، استشهد الفيصل ومات غازي وبقي بعض شهود تلك المرحلة يعُالجون قصور الذهنية وتأزيم القضايا في ظل عراك ثقافي وانحطاط حضاري يؤكد تراجع مؤشرات التمدن التي بلغتها الأمة في القرن الرابع الهجري مما يشعر المثقف بالخيبة والخذلان والرغبة في الانزواء واعتزال مسرح الحياة ومعاركها الخاسرة.

في كل عراك ثقافي أستحضر غازي القصيبي أمامي المصر على إكمال المسيرة إلى آخر يوم في حياته - رحمه الله - ولو تحت ضوء خرافي لشمعة ديوجين التي يطوف بها العالم المظلم، غازي ذاك الإنسان والرجل الذي تجاوز العنصرية البغيضة، ولذلك رثاه في موته خصوم الأمس قبل أصحاب اليوم، غازي البسيط في شخصيته والمبدع في إدارته، والكبير في قلبه الذي ملأ زمانه حباً وسلاماً وحروباً ومعارك ولم يكن يحمل بين يديه سوى قلم الإنسانية الصادق، ولا تعني بعض الهنات والشطحات الإبداعية شيئاً يُذكر إلا أنها تثبت آدميته فالكمال لله وحده جل وعلا، غازي الذي غاب عن مسرحنا ومسرحياتها المملوءة بشخوص تحترف التناقض والعدائية والإقصاء وتدّعي العدالة والشريعة وهي أظلم من قرد كليلة ودمنة الذي أكل الجبن كله وترك طرفي النزاع (الغراب والفأر) مذهولين، غازي الباذخ في طوله والأنيق في نظارته والمذهل في ثقافته والشامخ في إخلاصه والصريح في آرائه والصارخ حينما يسكت الآخرون والوطني حداً يتقزم أمامه المرتزقة والنفعيون، النزيه بلا فساد، والكريم بلا موائد وعطايا، ولم يرض أن يصطف الشعراء في نظم قصائدهم فيه لأنه كان أعرف الناس بنفسه التي تصالح معها فعرف قدرها على ما هي عليه فأراح واستراح من حيث تعب الآخرون، ويكفي غازياً أنه كان يعطي دروساً في الوطنية ومواقف الرجال في كل أزمة تمر بنا، وكان كلما يستدعيه الوطن يسعى إلى أن يكون أول الحاضرين بقلمه وفكره ورؤاه وإخلاصه، يركب للأهوال إن تقاعس الناس، ويستقبل الصريخ والنذير العريان فارساً بلا حصان ولا سيف وقد أعجلته المروءة ومكارم النبلاء عن أدوات الحرب المستعارة، لأنه ممن لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهاناً، غازي لا يدس رأسه في التراب في العواصف كما يفعل كثير من الجبناء الذين ينتظرون النتائج ثم يطلون برؤوسهم بعد فوات الأزمة ثم يطاولون بأعناقهم غازياً في الحفلات والاستقبالات وتوزيع الغنائم، وخير دليل على ذلك أن غازياً لم ينس واجب وطنيته في أزمة الخليج حينما التزم الصمت من كان حقاً عليه الحديث والبيان أو من تكلم بما لا يحقق مصلحة الجبهة الداخلية فكانت جريدة الشرق الأوسط تحمل كل صباح زاوية عين العاصفة، يدافع فيها الفارس غازي عن الوطن ويعري خيانات من كشّروا بأنيابهم حتى أسقطهم غازي من نظر عيون الشعوب العربية، والذي يستوجب الاستذكار أيضاً أن غازياً لم يفكر في تلك المرحلة في إفائه من الوزارة، فينقم على قيادته وترابه، ولم يرم روحه الطاهرة في محاضن المعارضة في الخارج ليفت في عضد قيادته ويسرب أسرار دولته ويكشف ولو بالزور والبهتان ستر الوطن، وكأني به يستحضر ذلك النور المدهش في تلك اللحظات - وهو واقف على رأس جلالة الملك خالد رحمه الله - إذ قال: «بفتح هذا القفل قد أضأت يا جلالة الملك ثلاثة آلاف قرية من قرى جنوب في هذا الوطن» فحضنَ المليك ذلك الوزير الشاب أمام مشهد مفعم بالأبوة الحانية، لم ينتقم للظلام في نفسه ولم يغضب لتخليه عن الوزارة والبعد عن الأضواء والانزواء في البحرين، بل كان رابط الجأش وثابت العقل والمروءة طيلة إعفائه من العمل ولم ينفجر آنذاك مثلما انفجر بعض ممن كانوا يحلمون بمناصب أكبر وصلاحيات أوسع وهم ما زالوا يتقلدون أعلى المناصب فسلّوا سيوفاً كسروا أغمادها وصلوا صلوات استخارة غير شرعية وليست في مقام تُطلب فيه، وهكذا غازي أستاذ الوطنية والإخلاص.

ما من مجتمع على ظهر هذا الكوكب يُعاني من صراعاته مثل مجتمعنا، ولقد احترف المتصارعون أدواته في إسقاط خصومهم قبلياً وإقليمياً وفكراً ومعتقداً وتصنيفاً واتهاماً في النوايا وربما تجاوز ذلك كله إلى الأسرة والخصوصية، علماً أننا في مجتمع يشترك في الدم واللغة والسلالة والدين والثقافة، ولا أدري لماذا نختلف في صورة تختلف عما هي عليه المجتمعات البشرية التي تنوعت فيها اللغات والديانات والسلالات ولكنها فهمت ثقافة التنوع ومبادئ التعايش كيفما يكون واقعاً ملموساً فتصالحت وصلح شأنها والكارثة حينما يكون الصراع دونما غاية كما قال غازي، مما ذكرني بقول بطل رواية فليكه والرعاد وهي رواية عالمية تدور أحداثها حول مزارع الخيول البرية وما يكتنف ذلك من صراعات، والمهم أن الرجل صاحب المزرعة طاعن في السن ويحكي لمن حوله من الشباب والزوار عن أحداث حروب قديمة حصلت بين رعاة البقر ورعاة الغنم على المراعي في غرب أمريكا، ولما انتهى من حكايته ختمها في تلك الليلة بعبارة: جميعهم.. كانوا أغبياء، لأن الحشائش التي تأكلها البقر لا تأكلها الغنم.

وأخيراً لا بد من الإشادة بموقف ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - حينما كان أمير منطقة الرياض، ورئيس الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض حينما وجه بإطلاق اسم وزير العمل الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي - رحمه الله - على الشارع الواقع بحي صلاح الدين، وعرضه 30 متراً وطوله 650 متراً، وعلى صعيد متصل، الشكر أيضاً لمجلس إدارة الشركة السعودية للكهرباء حينما أطلق اسم الدكتور غازي القصيبي على معهد التدريب التابع للشركة بالدمام تكريماً للراحل وتقديراً لمساهماته في إرساء البنية الأساسية لقطاع الكهرباء بالمملكة، ولشركة سابك التي أعلنت يوم وفاته عن بناء مسجد يحمل اسمه، وهو صاحب إطلاق هذا الاسم الجميل على هذه الشركة العملاقة.. والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com
 

صدقت يا غازي القصيبي: صراع دونما غاية.. ومعركة بلا راية
د. عبدالله بن ثاني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة