ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Thursday 04/10/2012 Issue 14616 14616 الخميس 18 ذو القعدة 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

قد تعني القراءة النفوذ من السطح إلى العمق، وقد تزداد هذه القراءة شمولاً لتكون استقراء تحاول جمع أشتات قضية ما، لتخرج بأحكام تتخذ صفة الكلية، وتدعي قوة الحقيقة استناداً إلى كم كبير من الجزئيات والمفردات.

وفي ضمن هذه القراءة، قد نقرأ « أشياء كثيرة « مبثوثة في السماوات والأرض والشمس والنجوم والجبال والشجر والدواب، وَفقَ منهج علمي: « يحدِّد ويقدِّر « سواء ما عرف بـ»المنهج الاستنياطي» ومجاله التشريع وغيره أو ما عرف بـ«المنهج الاستقرائي» ويستخدم في العلوم الطبيعية والإنسانية.

والتقدم العلمي الحاصل الآن يشهد لما أنتجته هذه المناهج من تقدم ملحوظ وتطور مطرد. بيد أنَّ هذه المناهج لم تصنع شيئاً ذال بال فيما يتعلق بـ: « علم الإنسان « الذي ما زال يعلن بعض المختصين فيه أنه: « من أصعب العلوم جميعاً».

وإذا كنت تستطع أن تتحدث عن أشياء كثيرة بلغة علمية موضوعية مجردة، فإنك لن تستطيع أن تتحدث بذات اللغة عن الإنسان، ذلك المخلوق الذي تتكون تأثيراته النفسية مع العضوية مع العقلية، وله فكر ولغة وشعور وحاجات طبيعية، وله انطباعات تتبدّى عليه حال عزلته كإنسان فرد، وربما تغيرت تلك الانطباعات إذا كان عضواً في جماعة، كما أنه يشتمل - أي الإنسان - على متقابلات من الأخلاق والصفات كالضحك والبكاء على سبيل المثال، كما في قول سبحانه: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (43) سورة النجم، ويمكن أن نلمح إلماحة يسيرة لهذا الشأن الإنساني الخالص «الضحك والبكاء « لنعرف كم نحن بحاجة إلى قراءة الإنسان في عمقه الحقيقي، ففي حين أن كثيراً من الناس قد لا ينظر إلى «الضحك والبكاء « إلا على سبيل أنه حالة عارضة تمر بالإنسان في أويقات مختلفة ثم ترحل عنه ولا شيء بعد ذلك، بينما هما في الحقيقة: « من خواص الإنسان، وكلاهما خلق عجيب دال على انفعال عظيم في النفس « كما يقول ابن عاشور، والذي يضيف بأنه: « ليس لبقية الحيوان ضحك ولا بكاء، وما ورد من إطلاق ذلك على الحيوان فهو كالتخيل والتشبيه، كقول النابغة:

بكاء حمامة تدعو هديلاً

مفجَّعة على فَننٍ تُغنِّي

ثم قال: فذكر الضحك والبكاء يفيد الإحاطة بأحوال الإنسان بإيجاز، ويرمز إلى أسباب الفرح والحزن، ويذكر بالصانع الحكيم».

وعلى هذا فالضحك والبكاء ينبئ عن الإنسان ويدل عليه، وهو كما قال توماس كارليل الكاتب والمؤرخ الاسكتلندي: «من امتيازات العقل، وذلك لأنه قاصر على الجنس البشري».

والمتقابلات في الإنسان لا تقف عند حدود صفاته، بل يتعدى ذلك إلى أحواله أيضاً بتقدير الله عز وجل، ومن أمثلة ذلك « الغنى والفقر « قال سبحانه: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) سورة النجم. وإذا كنا لا نتصور إنساناً خالياً من متقابلات الصفات فإننا لا نتصور مجتمعاً بشرياً خالياً من متقابلات الأحوال والتي تحقق تبادل المنافع، وتمكن للمعاني الإنسانية الفطرية من أن تكون حاضرة في الجماعة البشرية، ولولا تلك المتقابلات لما أمكن لمجتمع أن يقوم ويقوى ويتماسك. قال صاحب النظرات مستشعراً أن الإنسان يبتلى بالإنسان لتفيض تلك المعاني الإنسانية من القلوب: ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مفؤد، فتبتسم سروراً ببكائك واغتباطاً بدموعك، لأن الدموع التي تتحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور، تسجل لك في تلك الصحيفة البيضاء: إنك إنسان.

هذا وحتماً سيبقى الإنسان - كشخصية معنوية - فوق القياس والتجربة، ولا يمكن أن ينظر إليه من زاوية واحدة، واللغة التي يمكن أن تعبر عنه بوجه ما هي اللغة التي « تقارب « ولا «تحدِّد « وربما « تكني « ولا « تصِّرح « ومن ثمَّ فإن الإنسان « يفهم « ولا « يفسَّر « كما هو الحاصل في الطبيعيات، وسر ذلك وسببه ما استأثر الله تعالى بعلمه من أمر الروح، فإن الإنسان وإن كان يشاركه غيره من المخلوقات بأن لها أرواحاً، غير أن روحه ميزها الله تعالى بأن جعل لها اختياراً وتقديراً هو موضع الابتلاء والاختبار وهي إذاً العمق لقوى المخلوق وقدراته، كما قال أبو قلابة التابعي المعروف: ليس شيئ أطيب من الروح ما انتزع من شيء إلا أنتن.

بل فوق ذلك وأبعد مدى، فإن الإنسان ذاته قد يغفل عن حقيقة نفسه وما يدور بخَلَدها، وقد يكون في بعض حالاته غير جدير بأن يتحدث عن نفسه. ولا تعجب إذا سمعت أن الشاعر والفيلسوف « بول فاليري « قد قال: « أسرار المرء الحقيقية تخفى عليه أكثر مما تخفى على الآخرين « فقد قال قبله ابن تيمية: الإنسان به من العلوم والإرادات وغيرها من الصفات ما لا يعلم أنه قائم بنفسه، فإن قيام الصفة بالنفس غير شعور صاحبها بها « هذا مع إدراكنا أن السياق المعرفي والذي قيلت فيه هاتان الكلمتان يختلف في حالتيه ما بين الرجلين.

ومع قولنا: إن الإنسان يفهم ولا يفسر، وإن اللغة التي تستخدم للتعبير عنه هي اللغة التي تقارب ولا تحدد فإن ذلك يجب ألا يشعرنا بالرهبة عند محاولة فهم الإنسان، لكنه بالتأكيد يحوجنا للتعرف على المفتاح الصحيح لفهم الإنسان في العمق الحقيقي الذي يتكوَّن عليه.

وهنا يجب أن نعرف: أن لكل قضية معنوية أو حسية مفتاحاً، هذا المفتاح هو الذي يشخصها ابتداء ويدل على طريقة التعامل معها انتهاء، وفي الذكر الحكيم تنويه بهذا المفتاح في قوله تعالى: وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا (189) سورة البقرة، وإتيان البيوت من أبوابها لا يخص موضوعاً دون آخر، وهي - أي إتيان البيوت من أبوابها - يضمن عند تحقيقها النهضة الحضارية في شأنها الفكري والتنموي لأي أمة أو شعب. وإذا كنا نوافق الفيلسوف الإنجليزي « راسل « في قوله: أكبر تحد يواجهه أي مفكر هو طرح المشكلة بطريقة تسمح بالوصول إلى حل « فإن الجزء الآخر المكمِّل لهذه العبارة أن نقول: ولن تسمح أي طريقة بالوصول إلى حل ما لم تؤت البيوت من أبوابها وعندئذ سنملك المفتاح لحلها.

ومن المدهش: أن هذا المفتاح فد يكون مغفولاً عنه، أو ينظر إليه على أنه هامشي وثانوي في الموضوع، فإذا ماعُدِّل النظر إلى هذا الموضوع بإتيان البيوت من أبوابها تغير تقدير الأشياء وبان أين الخلل؟ وأين الحل؟ وأدركنا أن أضخم الأبواب مفاتيحها صغيرة كما يقول الشاعر والروائي الإنجليزي « تشارلز ديكينز «.

وعندما نقول: إننا نحتاج لمعرفة المفتاح الصحيح الذي يتيح لنا فهم الإنسان، فلأن الأفكار والأفهام قد اختلفت في تحديده، ومرجع هذا الاختلاف إلىتكوين الإنسان الذي تعددت أبعاده، فله عقل يفكِّر به ويقدِّر، ولذا وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) سورة الكهف، وله قلب يحس به ويشعر ومن خلاله يحب ويبغض، ويأمل ويألم ومن ذلك خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ (37) سورة الأنبياء، فعجلته الناشئة عن بعض شعوره قد تطغى على تفكيره في بعض أحيانه. وللإنسان بعد ثالث يتمدَّد في حاجاته الطبيعية المتولِّدة عن رغباته الحسية، ولذلك: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (28) سورة النساء.

إن حصر الإنسان في ناحية واحدة من هذه النواحي الثلاث (العقل - الشعور - الحاجات) هو خطأ وقعت فيه كثير من المذاهب الأدبية والفلسفية ما بين عقلانية ورومانسية ونفعية وغيرها. والإنسان وإن كان عاقلاً، لكنه لا يساوي العقل وحده لذلك ((فالمنطق الصرف دمار للروح)) كما يقول الكاتب الفرنسي ((انطوان دوسانت)) وأيضاً: الإنسان ليس الشعور وحده، ومجتمع الإنسان وإن كان لا يمكن أن يوجد دون شعر -والذي هو من تجليات الشعور - لكن هذا المجتمع لا يمكن أن يتحقق على هيئة شعر على حد تعبير الأديب المكسيكي ((اكتافيو باز)). وأيضاً: فالإنسان ليس هو الحاجات وحدها، وإن كانت هذه الحاجات - في الحقيقة - تؤثر في تركيبته وميوله ومزاجه، ولذلك نرى بوضوح كيف أن الشعوب تختلف في طبائعها وعاداتها، وربما أساليب تفكيرها، وجزء من أسباب ذلك يرجع إلى التكوين الجسماني والنفساني لتلك الشعوب، والذي أثر فيه طبيعة الغذاء ونوع الأجواء، وهذا مشاهد بوضوح حتى لغير المختصين ولذلك يقول صاحب كتاب ((الإنسان ذلك المجهول)): لقد خلق الإنسان من تراب، ولذلك تتأثر وجوه نشاطه الفيسولوجية والعقلية بالتكوين الجغرافي الذي يعيش فيه. وقد قال قبله ابن خلدون: إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش.

وحتى لا نقع في هذا الخطأ الذي أشرنا إليه، فهل من الصواب والصحيح أن نقرأ الإنسان وفق هذه الأبعاد الثلاثة ((العقل - الشعور - الحاجات))؟ قد يكون الجواب نعم! ولكن ومع ذلك فإن القراءة وفق هذه الأبعاد ستكون على حال من ((الارتباك))، والسبب بسيط جداً: أن من طبيعة ما تكوَّن عليه الإنسان هو امتزاج عقله بشعوره بحاجاته، فلا نعرف حدوداً فاصلة ما بين هذه الدوائر الثلاث، وبالتالي فلا نستطيع أن نركن إلى تصور واضح ننطلق منه.

وعند هذا الحد، نجد أن مشكلة الموضوع ((قراءة الإنسان)) ازدادت صعوبة، وتلاشت خيارات كانت ممكنة، بيد أن هذه الصعوبة ستفضي إلى حلٍّ بسيط جداً ولكنه -في الوقت نفسه -مغفول عنه، وهو يؤكد ما قررناه - قبل - من الغفلة عن الحلول الجذرية والتي قد تكون بسيطة وغير معقدة و((منخفضة التكلفة)) بالتعبير الاقتصادي.

هذا الحل لقراءة الإنسان قراءة صحيحة يتلخص في كلمة واحدة، وعلى هذه الكلمة يمكن أن تصلح أوضاع الإنسان في حضارته المعاصرة، والعالم في وضعه الحالي، ولكن متى ما تعرف على هذه الكلمة تعرفاً صحيحاً. هذه الكلمة التي هي المدخل الصحيح لعالم الإنسان في حقائقه وأوضاعه العقلية والنفسية والحاجية هي: ((الفطرة)). الفطرة التي خلق الله عليها الناس أجمعين كما قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (30) سورة الروم، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة)) الحديث.

وهذه الفطرة ببقيتها الباقية هي التي تمسك الآن - بإذن الله تعالى وتقديره - العالم الإنساني على أقل ما يمكن من الصلاح وانتظام الأحوال، فإن الفطرة إذا فقدت تماماً ولم يبق منها وسم ولا رسم في ضمير الإنسانية فإن ذلك مؤذن بخراب العالم ودماره، وفي حديث نبوي كريم إلماحة لذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)). والأمانة وإن كان مفهومها واسعاً وشاملاً لكن أقل ذلك: ما يحفظ الثقة المتبادلة بين الناس في تعاملاتهم وبيعهم وشرائهم. ومعنى ذلك: أن الأمانة إذا ضاعت تماماً، فإن العلاقات الإنسانية كلها من سياسية واقتصادية واجتماعية ستدمر بحيث لا ثقة ولا تفاهم ومن هنا: سنفهم بعض الفهم، لماذا جاء الدين الإسلامي بالمحافظة على الفطرة؟

وذلك لأن: ((الأصول الفطرية التي خلق الله عليها الإنسان هي التي تحقق عمران العالم، وهي إذاً الصالحة لانتظام العالم على أكمل وجه)).

والفطرة لا تكمن في حدود العقل، ولا هي كذلك في حدود الشعور، ولا هي أيضاً في حدود الحس، إنها تكمن في كل ذلك، وإذا تصرف الإنسان أيَّ تصرف فهو يقوم بذلك وهو يعقل ويشعر ويحس. يقول ابن تيمية عن ذلك: ((والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به، ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع الملائم والمحبة له، ومعرفة الضار المنافي والبغض له)). ولهذا فإن البشر إذا عملوا بفطرتهم السوية فإنهم يتفقون أو يقتربون من الاتفاق في كثير من القضايا، وهذا يؤكد لنا الأهمية الفكرية والحضارية لقراءة فطرة الإنسان السوية وأن مؤدى ذلك نشر الخير والسلام في ربوع العالم، ولاحظ معي هذا النص الآخر عن ابن تيمية وهو مهم للغاية في هذا الموضع، فقد قال: ((وبنو آدم ضلالهم فيما جحدوه ونفوه بغير علم أكثر من ضلالهم فيما أثبتوه وصدقوا به. قال تعالى: بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ (39) سورة يونس. وهذا لأن الغالب على الآدميين صحة الحس والعقل، فإذا أثبوا شيئاً وصدقوا به كان حقاً)).

بيد أننا ونحن نحاول قراءة فطرة الإنسان سنواجه إشكالاً هو جدير بالنظر ومن ثم الحل. فقد يشكل أن الأنظار تختلف في عدِّ كثير من التصورات والتصرفات من الفطرة، فقد يدعي إنسان أو قوم أنهم يؤمنون فطرة بتلك القضية العقلية أو الحسية، بينما آخرون ينكرونها ويعدونها خلاف العقل أو الحس. ومن هنا قد يستنتج أن فطرة البشر ليست واحدة. وطبعاً هذا الاستنتاج خاطئ، والذي يرفع هذا الإشكال من أصله، أن فطرة الناس واحدة في أساس الخلق، ولكن وبسبب اختلاف البيئات فإن التغيير يحدث لها وينقلها عن أصلها كما جاء في حديث ((كل مولود يولد على الفطرة...)) ومن ذلك العادات والتي تؤثر على طبائع الناس حتى ترى حسناً ما ليس بالحسن، فإذاً يجب وضع البيئات والعادات في الاعتبار عند النظر في اختلاف طبائع الناس، ومع ذلك فإن شواهد اتفاق الفطرة الأولى بين الناس كثيرة، فإن تصرفات الناس العادية كمشيهم بأرجلهم وتناولهم الأشياء بأيديهم فطرة جسدية، وبحثهم عن مصالحهم وما تقوم به شؤونهم فطرة طبيعية يتفق عليها جميع الناس، إضافة إلى ذلك فإن استنتاج المسببات من أسبابها، والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، فإنكار السفسطائية -مثلاً -أن ما نشاهده من الأشياء هو حقائق ثابتة في نفس الأمر خلاف الفطرة العقلية.

وإذ قررنا قبل أن الفطرة هي الصالحة لانتظام العالم على أكمل وجه وهي إذاً ما يحتوي عليه الإسلام الذي أراده الله تعالى لإصلاح العالم بعد اختلاله كما يقول ابن عاشور، فإن لنا أن نقرأ الفطرة فيما تميل إليه وتبحث عنه ؛ لندرك -فعلاً -كيف أن الفطرة صالحة لانتظام العالم على أكمل وجه ؛ فأول ما نرى في الفطرة أنها تؤثر الحق على الباطل، ويتبع ذلك البحث عن الحقيقة في كل مجالات العلوم، ومتى ما خلي الإنسان وفطرته، فإنه بالفطرة يؤمن بأن له خالقاً، وبأن لهذا الكون الفسيح مدبراً، وإذ ذاك لا يجد بداً من أن يبحث عن الدين الصحيح الذي يدلُّه على هذا الرب العظيم.

وبهذه الفطرة تكون الحقيقة هي الأساس والمبتغى في مجال البحث العلمي، وهذا ما نجده واقعاً -الآن -في العلوم الطبيعية والرياضية والتي شهدت تطوراً كبيراً اختلفت على أساسه حياة البشر، وذلك بسبب تطبيق المنهج التجريبي الذي يؤسس لعلاقة وطيدة ما بين الفكرة والواقع، فيثبت من خلال تطبيق الفكرة في الواقع صدقها من كذبها، ولكون الحقيقة في الطبيعيات والرياضيات ربما لا تنكشف كاملة، أو أكثر من ذلك بأن تثبت نظرية علمية ثم تتجدد معطيات تخل بالمعادلة وتنتج نظرية معاكسة، فإن أرباب البحث العلمي لا يصفون نظرياتهم بالصحيحة بل بأنها أكثر صحة، وهذا المنهج العلمي الذي يطلب الدليل على صحة الفرضية شاهد على أن الإنسان إذا رجع إلى فطرته حقق ما أذن الله تعالى له أن يحققه من تسخير ما في السماوات والأرض والذي عرَّفنا الله تعالى به في قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) سورة الجاثية.

والفكرة لا تبحث عن الحقيقة فقط، بل تبتغي - أيضاً - تعميم الخير في الخلق، وتحقيق العدل في الحقوق، ومن هنا نعرف أن البحث العلمي الذي عزل الحقيقة عن الخير والعدل، أنه وإن أصاب الفطرة في بحثه فقد أخطأ الفطرة في عزله الحقيقة عن الخير والعدل.

وكل المعاني الكريمة والأخلاق الفاضلة لا تخرج عن أن تكون إما خير في ذاتها، وإما عدل في مؤداها، والإنسان بمقتضى فطرته يتبناها على حد قول حكيم الهند وزعيمها الروحي غاندي إذ قال: ليس هناك طريق للسلام، فالسلام هو الطريق. يعني أن السلام حالة نفسية مرتكزة في خلق الإنسان فهو لا يحتاج إلى أن يسير إليه لأنه موجود لديه، هذا بالإضافة إلى أنه يريد أن يقول: إن الإنسان ما لم يكن السلام عامراً قلبه وروحه فلا يمكن أن تنجح أي خطة في أن تصنع له طريقاً للسلام لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

وكما تؤمن فطرة الإنسان بالحق والحقيقة، وتميل ميلاً طبيعياً إلى الخير والعدل، فإنها - أيضاً - ترنو إلى الجمال باعتباره ذوقاً وإحساساً طبيعياً يجده كل إنسان في قرارة نفسه، وعلى هذا فيبدو أن الجمال لا يحتاج إلى تعريف أو في الحقيقة لا يستطاع تعريفه، كونه لا ينحصر في نطاق معين يمكن تحديده وتقريره فيه، وبهذا ينتفي وهم من يظن أن الجمال يتبدَّى في التحسينيات لا الضروريات والحاجيات، ويرى صاحب هذا الوهم بهذا المنطق الذي قرَّره أن الإنسان كلما ترفَّه ازداد حسه بالجمال، والواقع أن الجمال فطري لا صناعي، والصواب في هذا النقطة ما قاله ألكسيس كاريل الحائز على جائزة نوبل عام 1912 لأبحاثه الطبية: ((إن الإحساس بالجمال موجود في الإنسان البدائي مثلما هو موجود في أكثر الناس تمدناً)) إذاً الجمال إحساس وهذه كلمة أخرى تضاف إلى صعوبة تعريف الجمال.

ولكن ومع ذلك وحتى نعرف أن الجمال نابع من الذات ومن الفطرة، فيمكن أن يتصور الجمال ويُعرَّف على سبيل التقريب لا التحديد متى ما اكتشفنا العلاقة التي تربطه مع ((الحكمة)) فنحن نعرف أن الحكمة: وضع الأشياء في مواضعها.

والجمال هو التناسب الحاصل بين هذه الأشياء حين توضع في مواضعها. وحينئذ ينكشف لنا علاقة وثيقة ما بين الحكمة في موضوعها والجمال في صورته، وأن الجمال كما يكون في الماديات يكون في المعقولات، وكما يكون في الحقائق يكون في الخيالات وللمنفلوطي كلام قريب من هذا في تعريف الجمال بالتناسب على أنه لم يلاحظ هذه العلاقة ما بين الحكمة والجمال ولا أدري إن كان أحد تعرض لها.

وهذا الإحساس بالجمال فطري كما تقدم، ويتجلى أكثر وأكثر كلما كان الإنسان أقرب إلى طبيعته، بحيث يكون على حال من الصفاء والنقاء بمعنى أنه سيدرك الجمال في طبيعته الحقيقية أيضاً، وهذا يعني أن من الجمال ما هو حقيقي ومنه ما هو وهمي. والإنسان سيدرك الجمال في حقيقته بقدر حظه من فطرته الأولى، وهذا معنى ما يذكره الرافعي - فيما أفهم عنه - حين قال: ((إننا لن ندرك روعة الجمال في الطبيعة إلا إذا كانت النفوس قريبة من طفولتها)) فمعنى قوله: ((قريبة من طفولتها)) أي: قريبة من فطرتها. ولكنه التعبير الأدبي الذي ينقل المعنى من المعرفة إلى الشعور بالمعرفة، ومن فهم المعنى إلى التأثر بالمعنى، ومن إدراك الحقيقة إلى الاهتزار للحقيقة كما قال بعضهم. وهذه الطفولة التي تعني القرب من الفطرة هي التي أفهمها - أيضاً - عن باسكال حين قال « الحكمة تعود بنا إلى الطفولة « يعني: تعود بنا إلى تقرير الأشياء في حقيقتها الأولية، بمعنى الرجوع إلى الفطرة، وهذا يؤكد حاجة البشر إلى إحياء فطرتهم في قرارة أنفسهم.

وكما أن الجمال في حاجة للفطرة ليسفر في حقيقته، فإن الفطرة بالمقابل في حاجة إلى الجمال لتكون على حال من النقاء والبهاء، ولذلك فمن حكمة الله تعالى في تدبيره لخلقه - والله أعلم وأحكم - أن بثَّ أنواعاً من الجمال في الكون وفي النفس وفي الخلق، فجماليات الكون تنطبع في النفس، وجماليات النفس تنبث في الخلق، وجماليات الخلق تستحيل صوراً ومرايا في الكون، وبذلك يكون الجمال حلقة واحدة يشدُّ بعضها بعضاً.

ولا شك إذاً - وبعد كل ما تقدم - أن فطرة الإنسان الأولى وهي الفطرة السوية الصحيحة، تقوم على الحق في الإيمان به والبحث عنه، وعلى الخير في التخُّلق والتزكي به، وعلى العدل في الانتظام معه والارتكاز عليه، وعلى الجمال في الإحساس به والذوق له.

ونحن إذ حاولنا قراءة الإنسان في فطرته الأولى، فلأن ذلك يعيد له - أي الإنسان - تعريف نفسه باعتباره مخلوقاً لله لم يخلقه عبثاً، ولم يتركه سدى، ولأجل ذلك فهذا التصور يمنحه فهماً جديداً للحياة حتى يكون حراً من أغلال الأوهام والشكوك والشهوات والأسياد والعادات المخالفة للفطرة، فمن رحم العبودية لله تولد الحرية الإنسانية التي تتميز بأنها حرية مسؤولة. كما قال الجنيد: لا يكون العبد عبداً حتى يكون مما سوى الله حراً. فلاحظ العلاقة ما بين العبودية لله والحرية للإنسان في كلمة الجنيد لتدرك أيضاً معنى ما قاله الفضيل بن عياض: ما صدق الله في عبوديته من لأحد من المخلوقين عليه ربانية.

ولئن كانت قراءة الإنسان في فطرته الأولى تعيد له تعريف نفسه، فهي أيضاً تلفت انتباهه إلى ما منحه الله له من قدرات وطاقات، هذه القدرات والطاقات استنهضها الخطاب القرآني بصيغ تحرك الوجدان العقلي والنفسي كقوله تعالى: أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (50) سورة الأنعام، وقوله: أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44) سورة البقرة، وقوله: أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) سورة الأنعام، وقوله: لَوْ تَشْعُرُونَ (113) سورة الشعراء، فلاحظ أن هذه الصيغ من الخطاب تفيد أن في الإنسان طاقات وقدرات كامنة ولكنها في الوقت ذاته مغفول عنها، وغفلته عنها سبب رئيس فيما وقع فيه الإنسان من خلط وتشويش وضلال، ولهذا فإن عدم فهمه للحقائق في الخارج وضلاله عنها هو بسبب ضلاله عن الحقيقة بداخله وفقره للفهم العميق لتكوينه وهذا ملاحظ حتى في شؤون الإنسان العادية عند ما قال الكاتب الاجتماعي إريك هوفر: عندما يكون المرء ضجراً فهو في الأساس ضجر من نفسه.

وكما أن الفطرة تعيد بناء الإنسان على نحو صحيح من سمو الأفكار والأخلاق، فهي أيضاً تعيد بناء العالم الإنساني على نحو صحيح أكثر طهراً وتماسكاً من خلال لفت هذا العالم إلى ركيزتين أساسيتين متى ما فهمتا فهماً صحيحاً فإن هذا العالم المترامي الأطراف والمليئ بالكوارث سيكون أكثر صلاحاً وأقل فساداً، وهاتان الركيزتان هما: (العنصر واللغة).

فالعنصر أي عنصر الإنسان من حيث أنه مخلوق لله فهو خلق من تراب ثم انتشر من ذكر وأنثى، ومتى ما فقد فهم الإنسان على هذا النحو من أصل الخلقة فإنه يحل محلَّه العنصرية التي قد تعني أن: «الجحيم هم الآخرون» كما يقول سارتر أو أن البقاء للأقوى كما هي فلسفة نيتشه أو أن البقاء للأصلح وللأقدر على التكيف كما هي عند داروين، وكل هذه الفلسفات وإن كانت مطلقة غير مقيدة بعرق معين لكنها في المحصلة النهائية تصب لصالح عرق معين وأنه هو الأجدر بالحياة والأولى بالسيطرة على مقدراتها، وهذا هو العكس تماماً لما تقرُّه الفطرة والتي جعلت عنصر البشر واحداً ولا يتفاضلون إلا بقدر ما يكتسبون من فضائل، ولذلك: فالاحتجاج - كما يقول ابن تيمية - بفضل إنسان على غيره بفضل أصله حجه فاسدة احتج بها إبليس.

وتلمس أثار الفطرة في أصل خلق الإنسان هو الذي قاد رائدة علم السلالات (الاثنولوجيا) جيرمين تييون الفرنسية إلى تأييد قضية الشعب الجزائري ضد استعمار بلدها فرنسا، وقالت: (إن مما ساعدني على التنور هو الاثنولوجيا فهذا العلم جعلني منذ البداية أحترم ثقافة الآخرين) لقد وقفت ضد الاستعمار لأنها لم تر للعرق الفرنسي ميزة أو حقوقاً، ورأت أن البشرية سواء من حيث النشأة والخلق وكلهم جدير بالحياة والتمتع بحقوقها.

وهذا ما يؤكده دين الفطرة الذي قال كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) سورة الحجرات.

فأصل الخلقة واحد وتنوع البشر ما بين شعوب وقبائل هو للتعارف الذي يقيم الحضارات ويعمر العالم لا للتطاحن الذي يقود إلى خراب العالم، وعلى هذا النحو يقرر ابن عاشور بقوله: وحكمته من هذا الجعل أن يتعارف الناس، أي يعرف بعضهم بعضا - ثم قال - والمقصود: أنكم حرفتم الفطرة وقلبتم الوضع وجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بسبب تناكر وتطاحن وعدوان.

والركيزة الأخرى هي اللغة، لكن اللغة باتت حاجزاً ما بين شعوب العالم لا جسراً للتفاهم والتواصل كما تقضي بذلك الفطرة، وقد عدَّ الله سبحانه وتعالى اختلاف الألسنة آية من آياته في قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (22) سورة الروم، وكون اختلاف الألسنة آية مدعاة للتفكير الإيجابي ومن ثم الاستثمار البناء. وإذا أمعنت النظر في اللغة فستدرك أن وضيفتها اجتماعية وفكرية بالمقام الأول، فهي الآلة المثلى للتواصل ما بين الناس وهي أيضاً الأداة الوحيدة لصياغة الأفكار وتجسيدها، وهي إذ ذاك تقوم مقام الإنسان أو تكاد ولديها القدرة الكبيرة في صناعة عالم أكثر تجانساً، وأفضل حالاً، متى ما استخدمت اللغة بشكل صحيح وأعيد ضخ القيم الإيجابية بحروفها.

- الأمين العام لهيئة كبار العلماء.
 

قراءة الإنسان... في فطرته الأولى
د. فهد بن سعد الماجد

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة