ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Monday 08/10/2012 Issue 14620 14620 الأثنين 22 ذو القعدة 1433 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

واحسرتاه! ظلّت أربعين عاماً أقدم العلاجات والمقترحات الاقتصادية لتحسين أوضاع الدول خارج أمريكا.. كنتُ مؤمناً بأنّ القوة العظمى لأمريكا اقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً وديمقراطياً، ستجعلها تجد طريقها بنفسها نحو الأفضل،

أما الآن فلا أصدق نفسي أن أؤلف كتاباً لعلاج أمريكا المريضة اقتصادياً!

هذا ما قاله جفري ساكس في كتابه “ثمن الحضارة” وهو خبير اقتصادي أمريكي، تندّر بأسى أنه عند بداية الأزمة المالية في 1997 لدول شرق آسيا، قدمت أمريكا محاضرات خشنة للبلدان الأخرى، واصفة إياها بالرأسمالية المبتذلة، وبعد عقد كانت هذه الدول في حالة ازدهار بينما أمريكا تنزلق في الرأسمالية المبتذلة!

وبنوع من الندم للأفكار العاطفية الساذجة، يتحسّر ساكس قائلاً: قبل عشرين عاماً كان الاعتقاد بأنّ نمط الرأسمالية الأمريكية هو الحل النهائي العالمي للمعضلة الاقتصادية. نهاية الاتحاد السوفييتي، ونهاية التخطيط الحكومي المقيّد، وحتى قيل عن نهاية التاريخ وانتصار السوق الليبرالية. لقد تم خداع أمريكا أو هي خدعت نفسها باعتبارها قمة التخطيط الاقتصادي ونموذجاً يحتذى.

كتاب “ثمن الحضارة” نشر العام الماضي وأعيدت طباعته هذه السنة نظراً للأصداء الكبيرة التي أحدثها في الغرب. والمؤلف سبق أن عمل مستشاراً خاصاً لسكرتير هيئة الأمم المتحدة، وهو الآن مدير معهد الأرض، وبروفيسور غير متفرغ في جامعة كولومبيا. وسبق أن اختارته مجلة التايمز أحد أهم مئة من القادة المؤثرين في العالم. والمؤلف يعتبر نفسه اقتصادياً عيادياً، أي طبيباً معالجاً في الاقتصاد السياسي. وسأطرح هنا خلاصة للكتاب.

للكتاب هدفان؛ الأول لتحليل تدهور الاقتصاد الأمريكي واقتراح وصفات علاجية، والثاني لتشجيع القرّاء خارج أمريكا لفحص اقتصاديات بلدانهم على ضوء الأزمة الأمريكية الأخيرة، وأخذ العبرة منها. فالعولمة جعلت من نمط الاقتصاد الأمريكي نموذجاً يحتذى، لاسيما أنّ أمريكا لا تزال الأقوى اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً. لكن أمريكا لن تعود أبداً مثلما كانت، ليس لأنّ إخفاقها قد يستمر بل بسبب نجاح الآخرين.

أمريكا قادت العولمة الرأسمالية، لكنها الآن تعاني من فرط الحرية الاقتصادية، وهيجان الأسواق التجارية، والحمى الاستهلاكية والدَين، والإغراق الإعلامي في الدعاية التجارية .. الخ؛ لنحصل على نفوذ الشركات الضخمة على كل مناحي الحياة الاجتماعية، وأصبح المال السياسي يتحكم بالسياسة، حيث تغطي جماعات الضغط من الشركات والأغنياء تكاليف الحملات الانتخابية. صارت المؤسسات التجارية تسيطر بوحشية هائجة على القيم العامة والسياسية.

لقد ظهرت أمراض النظام المالي الأمريكي: أزمة مالية، ودخل عال للأغنياء على حساب الآخرين، وزيادة البطالة، وانخفاض ثقة المواطنين في الحكومة. فماذا عملت واشنطن لحل الأزمة؟ تركت للسوق حرية مفرطة، وأنقذت البنوك المفلسة، وخفضت الضرائب على الأغنياء، وقلَّصت الصرف على الرعاية الاجتماعية. ذلك أدى إلى زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتقليص الطبقة الوسطى.

ورغم أنّ الاقتصاد الأمريكي في حالة انحدار فإنّ تقليد النمط الأمريكي في حالة صعود خارج أمريكا، مما يتوقع أن يؤدي إلى نفس العلل: عدم مساواة حاد في الدخل، وعدم الاستقرار النفسي وعدم ثقة الشعوب في حكوماتها، مع الفساد، ونفوذ الشركات الضخمة، وتلوث البيئة. فالدول ذات الاقتصادات الصاعدة كالصين والهند والبرازيل وروسيا فتحت أبوابها للتجارة العالمية، وكل جزء في العالم أجبر على أن يعدل اقتصاده وفقاً للعولمة.

وللأسف، تنحو الدول الإنجلوساكسونية (بريطانيا وإيرلندا) المنحى الأمريكي، فوقعت في أزمة مالية مثل أمريكا وزادت فيها عدم المساواة والبطالة. بينما في الدول الاسكندنافية حيث الاقتصاد مختلط (اشتراكية ديمقراطية) يلعب كل من الأسواق والحكومة الأدوار الأساسية بشكل متوازن. هذا التوازن يعمل جيداً في تعزيز حياة الرفاهية لسكانها، لذا لم تقع في أزمة مالية أو زيادة عدم المساواة في الدخل بين المواطنين.

أما الدول ذات الاقتصاد الصاعد فهي تشهد طفرة في النمو الاقتصادي بمعدل 7%، بينما تنمو اقتصاديات الدول الغنية في أوربا بمعدل 2%. جزء أساسي من هذه الطفرة هو انتقال الشركات متعدّدة القوميات من الدول الغنية إلى تلك البلدان حيث العمال يعملون بلا حماية: بأي مكان وبأي أجر وبأي قطاع.

النمو المتصاعد اقتصادياً لتلك البلدان لا يعني أنها بمنجاة عن الوقوع في نفس الفخ الأمريكي بما فيها الصين والهند، إذا اتخذت نمط الاقتصاد الأمريكي. هذه البلدان ينمو اقتصادها بسرعة لأنها حلّت مشكلة كبرى، وهي كيف تستخدم التكنولوجيا في تسريع نمو العملية الاقتصادية. ولكن هذه البلدان تظهر عليها علامات مقلقة وهي زيادة عدم المساواة، وتدخل المال في السياسة، وزيادة الفساد، وتلوّث البيئة. لذا تواجه هذه البلدان خياراً مصيراً، في التوازن المناسب بين دور الحكومة والسوق، ووضع أفضل سياسة لمواجهة عدم المساواة المتزايدة، وأفضل تخطيط لوقف التلوّث البيئي.

السؤال الأساسي المُلح الآن للعولمة هو هل تستطيع الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين تحقيق الأهداف الكبرى: الرخاء الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، والتنمية البيئية المستدامة؟ وهنا يصل الكتاب إلى جزئه الثاني مقترحاً الحلول لأمريكا لإعادة الانتعاش للقيم الإنسانية، وتحسين استراتيجيات الحكومة، وتقوية المؤسسات الاقتصادية، والتي تنطبق بصورة عامة على بقية دول العالم.

في عالمنا المزدحم بسبعة مليارات نسمة، نحن بحاجة لخفض “البروباجندا” والصراخ العنيف للإعلام المتضخِّم وحمى الإعلان التجاري والاستهلاكي، وسيطرة السوق التجاري والمال السياسي، وإعادة الحيوية إلى فضائل ومميّزات المجتمع المدني، ليتحمل المواطنون ورجال الأعمال والسياسيون مسؤولية قيم المجتمع. وليست المشكلة في النقص بهذه القيم قدر ما هو في انفصال هذه القيم عن السياسية الوطنية. إذن، لا بد من إعادة ربط القيم العامة مع السياسة العامة، وإعادة ربط الإعلام مع القيم الإنسانية الأساسية. نحن بحاجة إلى اليقظة من أجل إعادة تركيز انتباهنا على فضائل المجتمع المدني ولما هو أهم للإنجاز الاقتصادي والرفاهة في وقت التغيّر العولمي العظيم.

يمكن القول إنّ الكتاب هو من النوع “البياناتي” إنْ صحّ التعبير، وكأنه بيان للقرن الواحد والعشرين لحكيم محنك في الاقتصاد السياسي، يذكّرني بالبيان الشيوعي منتصف القرن التاسع عشر لكارل ماركس في ذروة الأزمة المالية للرأسمالية الصناعية آنذاك. فالكتاب رغم أنّ به تفاصيل مدهشة، فهو يتناول مجمل الصورة العولمية في أمريكا، ليعطى رؤية عامة للحل، ويقترح استراتيجيات للحكومات دون الدخول في تفاصيل اقتصادية تقنية.

alhebib@yahoo.com
 

درس أمريكا درس للعالم!
د.عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة