ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Thursday 15/11/2012 Issue 14658 14658 الخميس 01 محرم 1434 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

متابعة

      

الملف النفسي للثورة السورية

ملفات الثورة السورية لاقت ضوءاً إعلامياً لا بأس به بدءاً من ملف الإغاثة وملف الدعم العسكري وملف الرعاية الطبية إلا أن الملف النفسي أهمل بشكل كبير. ففي 27 سبتمبر الماضي عقد في تركيا مؤتمراً نفسياً بعنوان الآثار النفسية والاجتماعية للثورة السورية وخرج هذا المؤتمر بتوصيات جديرة بالاهتمام، إلا أنه وللأسف الشديد لم يغط ذلك المؤتمر التغطية الإعلامية المناسبة، وفي السياق نفسه أبدت الشبكة العربية النفسية arabpsynet استعدادها للتواصل والإسهام في باب الاستشارات النفسية بما يعود على مساعدة المصابين نفسياً جراء الثورة السورية لكن هذه الدعوة أيضاً لم تلق تجاوبها مع القنوات الفضائية.

وقبل أن استعرض جوانب من ذلك الملف أحب أن أوجه رسالتين: الرسالة الأولى موجه للقنوات الفضائية المعنية بالثورة بضرورة تأسيس برامج خاصة بالتوجيهات النفسية للمنكوبين ولمعالجتهم عبر استضافة المختصين. والرسالة الثانية موجه للبرامج الإغاثية الطبية للمتضررين ودعوتهم لأن يشمل الدعم الطبي دعماً نفسياً.

ولعل هذا الملف يكون أول بذرة تشجع المختصين للخروج لعمل الاستشارات النفسية وتشجع أصحاب القنوات المعنية بالثورة لتفعيل برامج نفسية للمناطق المنكوبة.

وسوف آتي في هذه المقالة للحديث عن الملف النفسي للثورة السورية من خلال اللغة النفسية، وسوف آتي على أبرز محطاتها بأسلوب نفسي بدأً من أسبابها النفسية وانتهاءً بالاضطرابات النفسية المتوقعة جراء عنف النظام.

الاكتئاب السياسي: سبب الثورة

تماثل الضغوط الأسرية والاجتماعية الضغوط القمعية السياسية في تأثيرها على تعميق الاضطرابات النفسية، فالقوانين التي يخضع لها مجتمع الاسرة يماثل القوانين التي يخضع لها مجتمع الدولة. وفي هذا يؤكد المختصون أن الشعوب التي تعيش تحت نظام سياسي عادل وحر شعوب صحيحة نفسياً ومخلصة في انتمائها الوطني، بعكس الشعوب التي تعيش تحت الأنظمة الدكتاتوري القمعية التي مرارة الانتماء للدولة ومرارة الكبت السياسي.

ويصنف النظام السوري في أولويات الدول القائمة على القمع فتجد أن كل مؤسسات الدولة تدار من خلال نظام مخابراتي أمني. يذكر أحد السوريين أن الرعب بلغ منتهاه لدرجة أن بُث في عقولنا أن مجرد التلويح باليد نحو القصر الجمهوري إجرام شنيع عقوبته الإعدام، وأن مجرد صلتك بأي جماعة سوى حزب البعث أيضاً جرم يستدعى إعدامك وإعدام أي قريب لك. هكذا بث النظام إرهابه في قلوب شعبه وهكذا وصلت الأنظمة القمعية وأوصلت لشعوبها لمخاوف وكآبة وأوهام حتى بدا لكل أحد أنه مراقب دوماً من أجهزة استخباراتية تتعقب أنفاسهم حتى في غرف نومهم.

الشعوب المسكينة والمغلوب على أمرها لا يكون أمامها سوى التماشي وفق ما تمليه عليه أنظمة الدولة وما تدري تلك الشعوب المسكينة أنها مع الوقت تمرض ويزيد مرضها ويتأصل قدراً كبيراً من المخاوف الإذلال حتى تتشبع حياتهم بالكدر والكرب والخوف والشك، ولا تعجب أن تذهل من انتشار جميع الاضطرابات نفسية في دول القمع تلك، كالاكتئاب السياسي الناتج عن ممارسات قمعية مفضية لمشاعر شديدة من الإذلال والقهر، والقلق السياسي الناتج عن ممارسة قمعية مفضية للخوف والرهاب، والضلالات السياسية الناتج من ممارسات تجسسية مفضية لجنون الشك والارتياب.

ويعلم الأطباء النفسيين في تلك الدول أن أكثر سبب لمرض مرضاهم هو سياسية الدولة في القمع والإذلال والظلم وتكميم الأفواه والحراك النفسي الطبيعي مما يؤدي بالنفس لأن تنحرف عن خطها السوي وتقع في حفرة الاضطراب النفسي، ومع علم الأطباء النفسانيين بأسباب مرض مرضاهم إلا أنهم هم أيضاً يخافون من البوح بذلك علناً.

ونتيجة لذلك الاضطهاد في تلك الدول أشعل البوعزيزي النار في نفسه معلناً أنه لم يعد للحياة معنى في ظل التنكيل والتكبيل والقهر، ومع أن الانتحار أمر مستهجن إلا أن انتحار البوعزيزي لاقي استحسان الآخرين في الدول العربية، وبدأت مسيرة الانتحارات الجماعية عندما واجهت صدور الثائرين أفواه الدبابات ولا زال المشهد قائماً ولم ينته.

وأكثر الشعوب العربية انتحاراً بالمعنى النفس هو الشعب السوري الذي قارب السنتين وهو يقتل ويباد، وعبروا عن سلوكه الانتحاري الرافض للمذلة بعبارة نفسية بديعة وهي «الموت ولا المذلة» تصميماً منهم على طرد مشاعر الاكتئاب السياسي الجاثم على قلوبهم أمداً طويلاً، وكانوا يعون تماماً أن الموت أهون بكثير من الاستمرار في حياة مشبعة بلباس المذلة المهانة، هذا الخيار ليس خيارهم فحسب بل خيار الفطرة الإنسانية التي تؤمن بأن الموت أفضل من حياة البؤس والجحيم.

والنظام السوري حينما أستمر في أسلوب القمع والإذلال لردع الثورة ربما لم يكن يعلم بهذا القانون النفسي وظن أن القمع سيرجع الخوف في نفوس الشعب مع أول مذبحة هنا أو هناك وسيعود الحال لما كان عليه مسبقاً، واصطدم بما آلت عليه حساباته، وهاهو اليوم يواجه ظاهرة غريبة لم تدر في خلده وهي أن القمع لا يخيف المتظاهرين بل ينزعه منهم، وأن القتل يريح الثائرين ولا يردعهم.

التأهيل النفسي للثورة السورية

جاء التأهيل النفسي للثورة السورية بشكل عفوي وتلقائي دونما أن يخطط له نفساني أو قائد محنك، وهذه العفوية نابعة من وعاء فطري إنساني، وتمثل ساحات التظاهرات رغم تنكيل النظام بالمتظاهرين المكان الذي يتزود فيه الثوار بالتعبئة النفسية والتأهيل النفسي، فالمظاهرات كما هي حراك اجتماعي ضد النظام، فهي كذلك حراك نفسي تشحن همة الثائر بطرد انفعال الخوف من جوفه، وكان شعار «الموت ولا المذلة» من الشعارات التي لها أبلغ الأثر في رفع مستوى التأهيل النفسي للثوار، وهذا الشعار لم يبتكره نفساني محنك ولا سياسي فذ، بل انبعث من شوارع المدن السورية بتلقائية يماثل تلقائية الثورة. وكما أفاد كثير من الثوار من إن ترديد «الموت لا المذلة» يوقد في النفس طاقة عنيدة تقمع عنصر الخوف بداخلنا وتدفعنا لمواصلة الصمود والتصدي حتى ولو لآلاف السنيين.

من المنظور النفسي فإن من يراهن على نجاح ثوار سوريا يستند لارتفاع مستوى التأهيل النفسي لأصحاب الثورة، فإذا وصل حد التأهيل بحيث يمتهن فيه الثائر مسألة الخوف من الموت، فلك أن تتيقن أنهم سائرون في الدرب الصحيح بل ومنتصرون أيضاً مهما تحدث العسكريون عن الموازنات العسكرية ومهما تحدث السياسيون عن إرادة الدول العظمى.

أن تلك الموازنات العسكرية والسياسية مردود عليها عبر خطابات فطرية يرددها الثائرون بشكل تلقائي بديع، تجد ذلك في ندائهم «يا الله، مالنا غيرك يا الله» استكباراً وتعالي منهم على نداءات الامم الأخرى والنداءات الباعثة على الاستضعاف والاسترحام.

إن المتأمل لما يجري على أرض الواقع، وسياسة النظام في الأرض المحروقة وأطنان المتفجرات يدرك أن النظام يعي تماماً أنه لم يعد يحلم باستعادة حكم بلد خربه هو بنفسه وقتل وهجر أهله، وهذا مؤشر بتخبط النظام وفقده على التفكير المتعقل ومن جانب آخر مؤشر لفقد جنده معنوياتهم وإيمانهم بالنصر.

الحرب النفسية: خيارات النصر والهزيمة

خيارات الثوار التي تدفعهم للاستمرار واضحة وضوح الشمس هي إما أن نقاوم وننتصر أو نقاوم ونموت على شهادة وكرامة. إما خيارات النظام فهي مقلقة ومربكة، فإما أن نحكمهم أو أن نسلم الحكم لهم، ومن المنظور النفسي فإنه يمكن وصف الصراع الذي يعيشه المتظاهرون بأنه صراع الإقدام - الإقدام وهو أخف أنواع الصراعات النفسية، كلا الاحتمالين هي أن نقاوم. في الجهة الأخرى تجد أن النظام السوري ينطبق عليه وصف صراع الإقدام- الإحجام وهو أشرس الصراعات النفسية وأكثرها إيلاماً، صراع يحوي احتمالان متعاندان ومتعاكسان تماماً، وهذا النوع من الصراعات النفسية يشتت الفكر ويخلخل ميزان العقل ومهما أظهر النظام قوته وصموده وثباته فإنه من داخله يحترق احتراقاً متناهي الشدة.

ويلعب العسكريون على وتر الهزيمة النفسية إدراكاً منهم أنها تمثل المحطة التي تفصل النصر عن الهزيمة، فقوة العزيمة والرغبة في التضحية عوامل تحمي الجندي من سيطرة المخاوف وتحميه أيضاً من افتراس داء الخوف الهلع والكآبة، والمتأمل لما يجري في سوريا يجد فارقاً شاسعاً بين الفريقين، فريق يقاتل لأجل فرد وفريق يقاتل لأجل أمة، فريق يقاتل دفاعاً عن أهله وذويه وفريق يقتل شعبه وذويه، فريق همته مواجهة مخاطر أرض المعركة وفريق همته مواجهة المستضعفين والتنكيل بهم، وفريق يقاتل بدافع البحث عن الحرية وفريق يقاتل بدافع قمع الحرية، فريق يقاتل وروح النصر والشهادة تسود وجدانه، وفريق يقاتل وحرارة الحقد والغل تجتث صدره.

إن تلك الفروق بلا شك تعكس الفارق في مستوى المخزون النفسي وتعكس أيضاً مقدار علو الهمة أو دناءتها عند طرف دون الآخر، وكمثال على ذلك تجد أن أصوات الانفجارات المصاحبة للقتال تعني في نفوس المستبسلين شيء وتعني لمن سواهم شيئاً آخر. وفي هذا يقول أحد ثوار أهالي مدينة حمص وهم أناس عرفوا بالصمود مع تصالحهم الباسم مع الحياة، يقول أن اليوم الذي لا أسمع فيه انفجاراً في مدينتي حمص لا يأتيني نوم، لأن الانفجارات لدينا أصبحت عذبة بعذوبة صوت الموسيقى المجلبة للنوم!!! جند بهذه الشكيمة والإقدام لا ادري كيف يُهزم، ولا ادري أيضاً هل يجرؤ اضطراب نفسي أن يقترب منهم!!

الاضطرابات النفسية في الثورة

لا تخلو حرب إلا وتخلف أعداداً كبيرة من الاصابات النفسية التي لا تقل عن عدد القتلى، وجرت العادة أن تمارس في الحروب أصناف عنيفة من الإذلال والتعديات أخطرها مسألة الاغتصاب.

ولعلنا هنا أن نركز هنا على أمرين شائعين: الأمر الأول هو الحديث عن اضطراب قلق ما بعد الصدمة، (PTSD). والثاني هو كيفية تعامل المغتصبة مع مشكلتها. وسوف نفرد حديثاً مستقلاً عن PTSD وحديثاً آخر عن الاغتصاب في الثورة السورية.

الثورة السورية وPTSD

للتعرف على خصائص اضطراب PTSD Post -Traumatic Stress Disorder يستوجب التعرف على مسبباته التي عادة ما تكون ناتجة عن تعرض الفرد لموقف مخيف ومباغت، كأن يحدث انفجار عنيف مباغت للفرد يحول حياته إلى جحيم لا يطاق، فيرتفع سقف مخاوفه للأبد ويزداد حذره وترقبه لأي شيء كان. وتعد الحروب والكوارث الطبيعية كالزلازل والبراكين والأعاصير وحوادث الطيران وحوادث السير من المواقف الاعتيادية التي هي مظنة لأن تسبب اضطراب PTSD.

في هذا السياق، هنالك مثل شعبي شائع يقول: الحجر اللي ما يصيبك يفجك، كناية عن أن الموقف المسبب للخوف لا يمر بشكل عفوي بل إنه يثبت في النفس مخاوف مستدامة، وهنالك مثل آخر يصور حالة PTSD بشكل أبلغ من ذلك إذ يقول المثل الشعبي: رمح تُطعن به، ولا رمح توعد به، أي خير لك أن يطعنك أحد برمح بدلاً من أن تستمر حياتك تحت وطأة التهديد بالطعن، فلئن تُقتل وتستريح خير لك من أن تعيش حياتك تحت سطوة اضطراب PTSD. هذا الوصف هو في واقع الحال وصف المصاب بPTSD الذي يعيش مشاعر التهديد من داخل نفسه بشكل أبدي.

إن أكبر خاصية للموقف المسبب للـPTSD أنه لا ينتهي بانتهاء الموقف، وأن الخوف الناتج منه لا ينتهي أثره بمجرد انتهاء الموقف، إذ يقوده ذلك الخوف الشديد لإحداث اختلال دائم في ميزان مخاوف الفرد وتلازمه تلك المخاوف طول حياته، وهذا اللزمة من المخاوف تعيقه عن أداء أنشطته وممارسة حياته بشكل طبيعي واستمتاعه بالحياة، لذا تجد أن المصاب بـPTSD عادة ما يتجنب السفر أو التواجد في أماكن التجمعات الصاخبة والمكتظة، ولا يجد مكان يشعر فيه بالراحة النفسية سوى منزله الذي يفضل البقاء فيه على الخروج منه حتى ولو كان الخروج في نزهة استجمامية.

واكبر عامل يضمن استمرارية حالة PTSD عند المصابين هو تحور مشاعر الخوف إلى هيئة أفكار انفعالية تدعم مشاعر المخاوف، فمشاعر المخاوف لدى PTSD ليست مشاعر صامتة أو مجردة بل أنها مدعومة ومغذاة من قبل سيل لا ينتهي من أفكار ملبدة بمحتوى التهديد والخطر، فعلى سبيل المثال عندما يمشي المصاب بـPTSD في الشارع فإن ذهنه يعمد على توليف نسيج لقصص متخيلة عنوانها ونهايتها أنه سيجري له حدثاً هنا أو خطراً هناك وتدور أفكار التهديد في ذهنه بشكل عصي وعنيد وتلقائي لحد أنه لا يستجيب لطوعها ولا يستطيع تعديلها أو التخلص منها.

المشكلة الكبرى أنك عندما تجلس مع شخص مصاب بـPTSD وتحاول أن تقنعه بحوار منطقي بانعدام وجود الخطر هنا أو هنالك، فإن حديثك معه لا يجدي نفعاً، وذلك لأن طريقة تفكيره وبرنامجه الذهني يختلف عما عليه حال التفكير الطبيعي، فما دام أن فكره خاضع لسيادة رادار الخطر لذا يذهب فكره بشكل تلقائي لتخيل أسوأ الأخطار الممكنة وأسوأ ما يكون عليه حال الموقف أمامه، ومن هنا فإنه يصعب حتى على غير المختص النفسي إقناع المصاب بـPTSD بخطأ فكرته بشكل مباشر دون الاعتماد على حوار العلاج المعرفي السلوكي.

وأكثر المواقف التي ترتفع فيه أعدادا حالات الإصابة باضطراب PTSD هي مواقف الحروب، فسماع دوي الانفجارات بشكل مباغت والدخول في مواجهات مسلحة مباغتة هي مواقف مخيفة تؤدي لإضطراب PTSD، وحينما يصاب الجندي بهذا الإضطراب فإنه بالإضافة لضخامة مشاعر الخطر لديه، فإن أصوات الانفجارات وصور الأشلاء التي كانت في أرض المعركة تعاوده في خيالاته وتتكرر عليه Flashback وتصبح حياته الماضية حاضرة بمخاوفها، وهذا ما يضاعف كدر حياته لدرجة أنه لا يجد حلاً لمعاناته سوى أن ينتحر.

وبتأمل الأحداث السياسية الجارية في سوريا، يتوقع المختصون النفسيون أن تسفر الأحداث السورية الجارية عن أعداد من الإضطرابات النفسية وعلى قائمتها إضطراب PTSD، فقذائف الدبابات وقصف الطائرات إن لم تقتل فإن دويها المفزع والمباغت يحدث مخاوف شديدة تؤدي لـ PTSD، ولقد تبين أن المدنيين السلميين الذين ليس لهم حولاً ولا طولاً هم أكثر الناس تعرضاً للإصابة بـ PTSD، ومن المؤكد أن تكشف الإحصائيات لاحقاً عن أعداد مذهلة لحصيلة المصابين بحالات PTSD في سوريا.

وعلى أرباب الثورة أن ينشروا نشرات توعوية لأن التوعيه المسبقة بالمرض قد تعطي مناعة للفرد فيما لو حل به موقف مؤدي لـ PTSD كذلك يجب أن تكون هنالك نشرات أخرى ترشد للسبل التي يمكن أن يتعامل معها المصاب بذلك الإضطراب على أن النشرة لا تغني من زيارة طبيب أو مختص نفسي.

الاغتصاب في الثورة السورية

من الكوارث النفسية، أن الاغتصاب أصبح أمراً يشجع عليه النظام السوري، وهذا التشجيع لا يندفع فقط لأجل قضاء المتعة وإنما لأجل مضاعفة التنكيل والأذى النفسي بأهل الثورة. ولعلي هنا أن أتي على الخصائص النفسية للمغتصبات وكيف يمكن للمغتصبة أن تتخفف من تلك الآثار.

تشير الملاحظات الإلكينيكية أن الإعتداء الجنسي تلحق بالنفس أذىً مستداماً يجر المغتصبة في غالب الأحوال إلى الدخول في مشاعر إكتئابية أو مخاوف مستدامة، فعملية الإغتصاب تؤدي بالمغتصبة لأن تكره نفسها وتزدريها وتصف نفسها بأقسى عبارات النجاسة والدناءة، وبدلاً من أن يكون موضوع الجنس مثير للذة والمتعة يصبح بالنسبة لها أمر مثير للتوتر والرجس.

هذه الخصائص النفسية المرافقة للمغتصبة هي السائدة في عموم من المغتصبات ولكن على عكس ما كان متوقعاً فلقد ابدت دراسات أخرى تابعت عينات من نساء تعرضن لاعتداء جنسي صارخ بانعدام تأثرهن بموقف الإغتصاب، ولم يصحب تلك الحالات تبعات وأضرار نفسية، ومن هنا لعلنا نتوقف قليلاً عند القانون النفسي والسبب المخفي الذي يحول عملية الإعتداء الجنسي أو الإغتصاب إلى اضطراب نفسي، وكيف يمكن توظيف هذا القانون في الحد من حدة الإضطراب النفسي المصاحب لعملية الإغتصاب.

في القانون النفسي يقال إن أي ضغوط نفسية مهما تكالبت على الفرد فلن تحدث الاضطراب النفسي ما لم يستجب لها الفكر بشكل سلبي، وإن أي موقف اضطهادي مهما تعاظمت صورته فلن يحدث إختلالاً نفسياً إذا تعامل معه المضطهد بشكل متعقل، كذلك مسألة الاعتداء الجنسي لا تحدث آثارها النفسية إلا بعد أن يترافق معها حديث نفسي سلبي توجهه الضحية لنفسها، وهذا الحديث هو مجموعة أفكار وخيالات يتمحور موضوعها حول تأكيد فكرة دناءة نفسها ومهانتها ونجاستها وحقارتها وإشعارها بالذنب والخطيئة، وتستمر لزمات الدناءة وتتكرر على مخيلة المغتصبة طوال حياتها مما يؤدي بحياتها أن تتلبد بمشاعر البؤس الكريه والكدر المعشعش.

ويزيد من شدة مشاعر المغتصبة واستحقارها لذاتها عامل آخر ينبع من ذويها الأقربون ومن مجتمعها بالعموم، فرغم براءتها من الخطيئة ورغم أن الإعتداء الجنسي فرض عليها رغماً عنها، فإن نظرات الإستحقار النابعة من ذويها تضاعف عليها ألم الحسرة ومشاعر التأنيب، فبدلاً من أن تتلقى المغتصبة الإسناد والدعم النفسي من قبل ذويها تتلقى ما هو عكس ذلك من نظرات الإزدراء والتحقير الأمر الذي يضاعف آلامها النفسية، بل إنه في حالات عديدة خصوصاً في المجتمعات الجمعية تتعرض المغتصبة لقتل نفسها أو للقتل من قبل ذويها ستراً لهم من «العار».

وعودة أخرى للحديث عن معادلة الإذلال النفسي، وبنظرة نفسية أكثر عمقاً للمنبع الخفي لمشاعر الإذلال في معادلة الإعتداء الجنسي أؤكد أن منبع إذلال النفس للمغتصبة يأتي بعدما توجه هي حديثاً خفياً لنفسها ينبعث من عقلها الباطن تقول فيه: أنا حقيرة، أنا نجسة، أنا قذرة، أنا كريهة، أنا عار على أهلي، أنا سبب فضيحة أبي، هذه الكلامات وغيرها عندما توجهها النفس لذاتها تبعث فيها شرارات لاسعة من الضيق والكدر، هذه الكلمات والأوصاف المنبعثة من المستوى الباطن من الفكر اللاشعوري هي من ترسم مشاعر كآبة مستدامة. وبمعنى آخر، هنالك فرق بين العوامل المؤدية للإضطراب النفسي (الموقف الضغط) وبين ردة الفعل النفسية وأفكار الدناءة والتي هي من تدخل الفتاة في بوابة الاضطراب النفسي.

حقيقة نفسية يغفل عنها الكثير وهي أن الناس لا يحتقروننا ما لم نوجه كلمات الحقارة لذواتنا، وإن الناس لا يستصغروننا ما لم نوجه عبارات الاستصغار لذواتنا، وإن الناس لا يخيفوننا ما لم نوجه مشاعر الخوف تجاه ذواتنا. وهذه الحقيقة ليست بفريدة ولكنها مشاهدة في طبائع البشر، فنحن نشاهد أشخاصاً يُذمون ويُحقرون من قبل الآخرين ومع ذلك لا يؤثر فيهم ذلك، بينما هنالك أشخاص آخرون يتكدرون ويتألمون نفسياً بسبب كلمة ذم عابرة أو إشارة لمز خاطفة. أن السبب النفسي لاختلاف الناس يرجع في هذا المقام الأول لمدى اختراق أفكار الدناءة والمذلة الموجه للنفس، وبمعنى أكثر وضوحاً، فالمجتمع عندما يصف فرداً ما بأنه دنيء ومحتقر، فإن مشاعر حقارة ذات الفرد لا تنتابه ما لم يوجهها هو لنفسه وتتردد في مخيلته.

ومن هنا، فبحسب هذا المنظور النفسي، فإن أكبر انتهاك على الارض ليس هو عملية الإعتداء الجنسي بحد ذاتها، وإنما هي إنتهاك النفس لحرمة نفسها عندما توجه النفس لنفسها سيلاً من حديث رذيل عنوانه: أنت محتقرة أنت مهانة، أنت نجسة، أنت قذرة. ومن هذا المنظور أيضاً، فإن أكبر عِرض (بكسر الراء) يجب على النفس ألا تُفرط فيه هي مسألة النأي بالنفس والترفع من أن تهتك عرض نفسها بنفسها عندما تقول لذاتها: أنا حقيرة أنا دنيئة، وبنفس السياق فأن أكبر هتك لطمأنة النفس هو قول النفس لنفسها: أنا مهدد أنا مخطور، وبكلمة واحدة، فنحن ندخل في بوابة الإكتئاب عندما نستحقر ذواتنا، وندخل في بوابة القلق عندما نخيف ذواتنا.

ما سبق ذكره هو مقدمة ضرورية للتمهيد للدخول في موضوع أكثر أهمية. أنه سؤال كبير يخجل الخوض فيه الكثير رغم أهميته، وهو كيف تتصرف المرأة أثناء اغتصابها بعدما تكون قد استنفذت كل سبل مقاومة المغتصب. هذا الموضوع متشعب وذو شجون وفيه تفصيل ولكن لعلي أوجز ما هو هام وأركز على بعض التوجيهات النفسية العابرة والتي سوف أحددها في خمسة رسائل.

توجيهات نفسية للمغتصبة

الرسالة الاولى: هو محاولة مقاومة الخصم بكل ما استطاعت من قوة ووسيلة، وعندما تتيقني أنك استنفذت كل سبل المقاومة ولم يعد أمامك إلا أن تتم عملية الإغتصاب، تأملي في حال وقوع المحظور إنك لم تكوني مطواعه، وتأملي تساؤلاً ربما يحدد مصيرك النفسي، ويحدد مدى تجاوزك للموقف بأقل خسائر نفسية ممكنة، وهو أنك في حال وقوع المحظور لم يكن أمامك سوى خيارين لا ثالث لهما: الخيار الاول أن يتم الإعتداء عليك وتصبحي مضطربة نفسياً للأبد، والخيار الثاني أن يتم الإعتداء بأقل خسائر نفسية ممكنة.

الرسالة الثالثة: بعد أن تتأملين هذين الخيارين ويكون خيارك هو بالتأكيد الخروج من الموقف بأقل خسائر نفسية ممكنة. الآن لكي تخرجي من الموقف بأقل خسائر نفسية فهنالك جملة من التوجيهات سأجمعها في توجيه واحد، وهو أن تكوني حذرة من سريان الأفكار الباعثة على لوم نفسك أو استصغارها أو حقارتها، حذار كل الحذر أن توجهي كلمة لوم لذاتك فأنت بريئة كل البراءة من الذنب لأنك مكرهة، وكنت ممانعة، إن الذي يستحق أن يلوم نفسه هو الإنسان المخطيء بكل إرادته وأنت في هذه الحال لم تخطيء ولم تقترفي ذنباً، وتأملي أيضاً أن أعظم ذنب عند الله هو كلمة الكفر وأنك لو قلت كلمة الكفر وقلبك مطمئن بالإيمان فأنت عند الله معذورة، بكلمة واحدة، تجنبي أي فكرة تدعوك لاستحقار ذاتك ولومك لنفسك وإشعارك بالذنب والخطيئة.

الرسالة الرابعة: واصلي وكثفي بكل إصرار على تبرئة نفسك وانعدام حيلتها، وهذه نقطة فاصلة وجوهرية، وذلك لأن تبرئة نفس من قبل نفسك هو سلاح خفي ورادع لنشوء أي فكرة تقود للوم ذاتك وذم نفسك، وهذه التبرئة توقف أي انبعاث لمشاعر كرهيتك لنفسك وكراهية جسدك وتوقف أي سيريان يشعرك بنجاسة جسدك. ولا بأس أن ترددي بينك وبين نفسك أنا لم اخطئ، أنا لم أذنب.

الرسالة الخامسة: رغم مواصلتك في ما هو ثالثاً فلا تستغربي أن تعاودك بين الحين والآخر أفكار الاستحقار لذاتك ومشاعر إهانة النفس والجزم بنجاستها، وبكل إصرار واصلي بالتمسك بسلاح الدفاع عن نفسك بعبارات التصدي: أنا لم أذنب، أنا لم أرتكب خطيئة، أنا كنت ممانعة أنا لم يكن لي حول ولا قوة، لن ألوم نفسي، لن استحقر نفسي، جسدي أطهر من الطهر، وقلبي أصفى من الصفاء.

إن فائدة تلك الخطوات الأربع واستحضارها حال الموقف الإغتصابي وبعده هو لأجل صد البدء في نشوء أفكار الدونية ومنعها من أن تتحول إلى جراثيم تهدم كيان النفس وتؤصل مشاعر الكآبة.

وما أن تمر مرحلة الإغتصاب وما بعدها دون أن تنتبه المغتصبة لتلك الإرشادات فإن الإضطراب النفسي والتألم النفسي سيكون عنوان حياتها، لأن أفكار الدونية انغرست وتعشعشت جذورها وسيستمر فكرها وذاكرتها تجتر خيالات المهانة، وسيعاودها بين الحين والآخر الموقف الإغتصابي: مع من تمت العملية، وكيف تمت، وفي أي مكان تمت، وما الكلام الذي دار حينما تمت، ومن كان موجداً حينما تمت، ولماذا لم أقم بكذا حينما تمت، وما شكل وهيئة الغاصب، ولماذا اغتصبني، وماذا يقول فيني الناس، وغيرها من أفكار مشابهه، وتصبح تلك الأفكار هي من يأخذ نصف فكر وذاكرة المغتصبة ويعطل نشاط ومتعة حياتها.

ولكي يتعالج هذا الاضطراب فلا بد من الدخول في برنامج علاجي معرفي سلوكي قد يطول كأن تتدرب فيه المغتصبة على تعديل أفكار الدونية الموغلة بأفكار معتدلة للوصول لخط التوازن النفسي، في الغالب أن هذه العملية تحتاج لوقت طويل، ولكن عوضاً من الدخول في متاهات الإضطراب النفسي ومشوار العلاج النفسي كان من الأفضل الوقاية من الإضطراب النفسي من خلال صد النفس في الاساس من اختراقات مشاعر الدونية والخطيئة أثناء الموقف الذي تم فيه الإغتصاب أو بعده مباشرة، وهذا ما نؤكده في هذه المقالة.

أخيراً، درهم وقاية خير من قنطار علاج، وحماية النفس من البدء في لوم ذاتها أسهل بكثير من علاج مشاعر لوم متورمة.

Samary5050@hotmail.com
جامعة الملك سعود
 

الملف النفسي للثورة السورية
د. خالد عبدالله الخميس

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة