ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Tuesday 20/11/2012 Issue 14663 14663 الثلاثاء 06 محرم 1434 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

تأكد السائق الأسيوي “رويو” أنه غسل السيارات بشكل لم يغسل مثله من قبل، سيارة مدام سيارة سير، ثم قام بتنظيف القراج وانتظر مدام لتخرج الساعة السادسة والنصف، مع زقزقة الطيور، بصحبة الأطفال لتوصلهم لمدارسهم ثم تذهب لعملها في تعليم أطفال آخرين مثلهم. يساعد رويو الأطفال في ركوب المقعد الخلفي للسيارة، وكأنه ولي أمرهم، ثم ينتقل لمقعده لا كسائق سيارة بل كقائد لمسيرة العائلة كاملة في هذا اليوم المتجدد.

انطلقت السيارة ليبادر رويو ربة الأسرة بقوله: “مدام في كلام لازم أنا انتي فيه معلوم”. انتفضت المسكينة لأنها أحست أن هناك خطبا ما، فقالت: “يالله صباح خير، يا فتاح يا عليم”. مدام أنا أخت فيه زواج ولازم يروح “رويوستان” علشان يساعد ماما في زواج. أنا يروح مدرسة يقفل”. تنفست المسكينة الصعداء لأنها تعرف أن أبو العيال قد بلغ الضغط والسكر منه مبلغاً لم يعد يحتمل معه أمور الاستقدام، والهروب، والانتظار. رويو،على الأقل هذه المرة، أستأذن للمغادرة لبلده ولم يهرب كسابقيه. وهو سيغادر في الإجازة حيث لا حاجة لتوصيل الأولاد للمدارس مع طلوع الشمس، وهي يمكن أن تأخذ إجازتها السنوية في غياب السيد السائق الذي تتمحور حوله حياتها، الشكوى لله.

غادر رويو، فانتشرت الزبالة في أرجاء القراج و محيط المنزل، وأصبحت مشاوير المدام وأولادها محسوبة جداً، وتعتمد على أجندة الأخوات والقريبات اليومية، أو تنتظر تواجد أبو العيال وروقان مزاجه. الأولاد يصطحبهم أصدقاؤهم للنزهة بين الفينة والأخرى، الأمور ليست كما كانت ولكنها مستتبة بالنسبة لهذه المرأة المكافحة. العمل، الأولاد، الزوج، حياة يومية “يقزدر” بها العمر الذي يفنى في خدمة الآخرين بلا تشويق أو متعة، كل يوم مثل سابقه سلسلة متلاحقة من الواجبات.

بعد أربعين يوماً، عشرة أيام طوال بعد الموعد المتوقع، عاد رويو، بعد أن دب اليأس في العائلة و راودتهم الشكوك والهواجس، هل يعود رويو؟ أو لا يعود رويو؟ الأب أستعد لاستخراج تأشيرة سائق جديد من قبيل الاحتياط، وأخذ يفتش عن دفتر العائلة المفقود بسبب عدم الحاجة إليه، فهو يلزم فقط للاستقدام. الأم انشغلت بالأب الذي بدأ ضغطه يرتفع لأنه أصيب باليأس من عودة متعهد المشاوير المكوكية في شوارع الرياض التي تزداد اكتظاظاً وفوضى مرورية بشكل مضطرد. لا بد من الاحتفال بعودة رويو، وعودة روح التفاؤل للبيت، الجميع أحتفل إلا رويو نفسه الذي لم يكن يعلم عن الاحتفال بمقدمه شيئاً، ولا يعلم أنه سببه.

بدأ رويو العمل كعادته فهو يعمل كالروبوت حسب روتين مقنن، وكان اليوم الأول لمشاويره أشبه بالاحتفال من أم العيال بعودة بعض حريتها إليها. بدأت تستجمع الزيارت والواجبات الاجتماعية التي قصرت فيها. وأخذت تعيد حسابات ذاكرتها باسترجاع من ولدن من زميلاتها، ومن خُطبت ابنتها، أو من مرضت من قريباتها لتعوضهم بزيارات مفاجئة لتبرهن أنها لا زالت سيدة اجتماعية تقدر الجميع. وبعد يومين من المشاوير المتتابعة، وذات مساء ساخن فور العودة من زيارة دورية غير عادية للزميلات، تكلفت فيها صديقة مقربة احتفاء بعودة المدام للزيارت القصيرة المتقطعة، واعترافا غير مباشر بمحورية دور رويو، وبعد أن ركبت المقعد الخلفي و ملأته بعبق العطر، ورائحة العود، التي ربما استثارت شهية رويو للحديث، بادر رويو قائلاً: “مدام أنا فيه كلام”. نزلت عليها عبارته كالصاعقة وبدأت تخاطب نفسها: “يالله خير توك جاي، وما صدقنا تجي، وفيه كلام بعد، الله يستر”. فاسترسل رويو: “مدام أنا ما فيه راتب ألف ومئتين”. فنهرته بلهجة توبيخية، أجل كم تبي؟ كله سواق ألف ومئتين. رد رويو بكل برود، وهو يعلم مدى حاجتها له واعتماد البيت عليه”.أنا يبي يطبق عقد حكومة رويوستان” جديد، راتب ألف وسبعمية ريال. أنا ما في مسئول، حكومة رويوستان مسئول”.

أسقط في يد المسكينة، وهي لا تعرف ما العمل؟ فالزوج سيصعق حتما من هذه الزيادة المفاجئة، 30% زيادة في أقل من سنة، كما أنها أصبحت تخشى من كثرة تقلبات مزاج رويو، اليوم زيادة في الراتب، وغداً ربما سيطلب تقليص ساعات العمل، أو تحديد عدد المشاوير”. خلاص أنا فيه يكلم بابا، وهو فيه إنتا كلام”. بقت صامتة ولم تحس بالطريق الطويل من فرط التفكير. قاتل الله الحاجة التي تجعل أمثال هؤلاء يتحكمون فينا.

رجعت للمنزل وأدارت جهاز التلفاز في انتظار الزوج فإذا بنقاش محتدم حول ضرورة الحفاظ على المرأة، وعدم جواز قيادة السيارة لأن ذلك مدعاة للتحرش بحرم المسلمين، وفيه مفسدة لبعض النساء الذي قد تسهل القيادة مهمة الشيطان في إفسادهن. فتنهدت متسألة: يسهل مهمة الشيطان في إفسادنا أو يسهل مهمة رويو وأمثاله في استغلال حاجتنا؟ إذا كان علمنا، وأخلاقنا، وتربيتنا لن تردعنا، فالركوب مع أمثال رويو لن يصون عرضنا. ثم عبرت في مخيلتها كم مرة صرخت فيه أن يرفع مرأة السيارة الخلفية، أو نهرته عن اختلاس النظرات كلما حاولت تعديل نقابها، فهي تعلم أن الرجال صنف واحد مهما تعددت جنسياتهم. كما أنه لم يكف عن محاولة الاختلاء بالخادمة. ورائحة الدخان التي تنبعث من ملابسه تزكم أنفها وأنوف أولادها، وتجعلهم يعتادونها. رغم ذلك لا تملك إلا التودد له خوفاً من هروبه، أو إضرابه.

عاودتها ذاكرة السائقين الذي سبق واضطرت لهم، وأحسنت لهم وهربوا، كان أولهم قبل ثمان سنوات عندما بدأت العمل كمعلمة وكان راتبه ثمانمائة ريال، واستقدامه بأربعة آلاف، ثم ارتفع راتب الثاني لألف، ثم لألف ومئتين، واليوم السيد رويو يطلب ألفا وسبعمائة حسب العقد الذي أكرمته به حكومته من جيب المواطن السعودي “المسكين”، والاستقدام ارتفع بمباركة شركاتنا الجديدة إلى ما يقارب العشرة آلاف. فهو عمليا يقاسمها راتبها ويأخذ نصف عرقها وهي شاكرة وممتنة له على أنه عمل سنة كاملة ولم يهرب ليعمل في تهريب الخادمات، أو صناعة الموبقات. والسؤال المورق هو ما سيحصل في المستقبل لو منعت حكومة “رويوستان” الاستقدام؟ أو سول لها الشيطان باشتراط ثلاثة آلاف ريال كحد أدنى لرواتب مواطنيها مساواة بالسعوديين؟ هل نحن مستعدون لمثل هذه السيناريوهات المخيفة؟

“من حدك على المر، قال الأمرّ منه”، فمن حدنا على استجداء رجال أغراب، لا نعرف عنهم شيئاً، ولا نعرف صالحهم من ساقطهم، هو خوفنا من أن تكافئنا نساؤنا ويتساوين معنا في حق بسيط وهو قيادة عربة بهيم، لا تعي ولا تحس ولا تختلس النظرات. نفضل أن نحشرهن مع أغراب في داخل السيارة مخافة نظراتنا، ولا نقول نظرات المتربصين الآخرين، من خارجها. إنه الرهاب الذي يمنعنا معشر الرجال من السماح للنساء بالقيادة خشية أن يطالبن بمزيد من الحقوق التي منحها ديننا لهن في أن يعملن ويعيشن بكرامة، فالمولى جل وعلا، أمرنا بغض الطرف، وغض الطرف لا يكون لامرأة خلف جدار بل لامرأة تسير في طريق، أو تعمل في مكان، ناهيك عن جلوسها خلف مقود سيارة مغلقة.

نعم الاحتياط واجب، ولكنه ليس الاحتياط من قيادة أخواتنا وزوجاتنا وأمهاتنا لأله صماء، بل الاحتياط من الأغراب الذي يستغلون حاجات لا وجود فعلي لها، بل اخترعناها لهم بمحض إرادتنا، الاحتياط من هؤلاء الأغراب ليس فقط على نسائنا، بل على أطفالنا، و بيوتنا وشوارعنا، ومجتمعنا ككل. أكثر من مليونين غريب نستقدمهم سنوياً حتى لا نضطر لغض الطرف، والالتزام بالمروءة في حق حرارئنا. فإذا كنا لا نستطيع صيانة أعراض بعضنا البعض الآخر فلن يحفظ ذلك رجال نستقدمهم من الخارج، ونجردهم في مخيلتنا فقط من رجولتهم وغرائزهم ونزج بنسائنا معهم في السيارات ليقضون معهن أوقات أطول مما يقضيه معهم أزواجهم. لا شك أن الاحتياط واجب ولكن ممن؟ ولمصلحة من؟

latifmohammed@hotmail.com
Twitter @drmalabdullatif
 

الاحتياط واجب
د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة