ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Friday 23/11/2012 Issue 14666 14666 الجمعة 09 محرم 1434 العدد 

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الأخيــرة

      

شرف الآباء والأجداد هو إرث مستحق للأبناء، لأن ذلك من أقل الوفاء اللازم على المجتمع وأفراده الذي يجب عليه تقديمه لشرفائهم وأبطالهم على ما قدموه من خدمات لبلادهم وقومهم. ولكن هذا الشرف، وإن كان إرثا مستحقا للأبناء، إلا أنه مشروط بتعهده وصيانته بصيانة وتعهدا هو أعظم وأجل وأكبر من صيانة وتعهد إرث الذهب والفضة والزرع والماشية. فالشرف الذي حصل عليه الآباء والأجداد لم يأت رخيصا هينا لهم، بل جاء بدم بذلوه أو مال منحوه أو علم قدموه أو إصلاح فعلوه لمجتمعاتهم، «لولا المشقة ساد الناس كلهم، الجود يفقر والإقدام قتال». أما إذا ما أصبحت مُستحقات الشرف إرثا لا عملا، ثم يُجعل هذا الإرث من الشرف هو الشرعية اللازمة لأن يشرُف الجاهل ويُكرم البخيل ويقود الجبان ويُقدم الأناني ويُسمع للكذوب ويُصدق الحسود، فعندها يسود كل متكبر جهول ويغيب كل شفوق عليم، وبهذا تتدهور أخلاق المجتمعات وينتشر النفاق وتتوارى مكارم الأخلاق فتزول الممالك والإمبراطوريات فتضيع بضياعها الأنساب والأحساب التي كانت ويستخلف الله -جل شأنه- من بعدهم بمن شاء ابتلاء لهم وبهم.

وهذا ما أدركته المجتمعات المتطورة الحديثة اليوم، فتراها اليوم قد تقدمت تقدما هائلا في نبذ وهجر هذه الجاهلية المنتنة لأن عقلاءهم قد سبروا التاريخ والواقع، فتيقنوا يقينا أن الامتيازات التي يحصل عليها الفرد من مجتمعه -لمجرد أنه حصل وصدف أنه وُلد نسيبا لشرف أبيه أو جده- هو من أسباب تدهور أخلاق المجتمع وتعطل تطوره وتقدمه. والبشرية كلها من قديم، وليس المجتمعات الحديثة اليوم فقط- تدرك بالتجربة الماثلة أمام أعينهم، فضلا عن التاريخ، أن الواقع المطبق غالبا ما يؤكد أن إرث شرف النسب عادة ما يكون الأقل تعهدا وصيانة من بين الموروثات التي يرثها الأبناء فيما يرثونه عن آبائهم وأجدادهم، وفي هذا المعنى قال المتنبي «أرى الأجداد تغلبها كثيرا *** على الأولاد أخلاق اللئام».

والمجتمعات الحديثة المتطورة أقرب لروح الإسلام ومقاصده من المجتمعات الإسلامية. فهم قد اجتهدوا في تأصيل الفطرة الإنسانية السليمة الحميدة المتمثلة بأن النفس السوية تُحب من أحسن إليها. وأعظم الإحسان، الإحسان للأوطان. لذا تجد في أعرافهم وثقافتهم التأكيد على وجوب الوفاء بتشريف أبناء وأحفاد من استحق الشرف فيهم. ولكنهم حرصوا ألا يكون ذلك الوفاء على حساب تدهور أخلاق المجتمع وإعاقة تقدمه العلمي والاقتصادي بتقديم من لا يستحق شرف التقدم. وبالمقابل، فقد أدرك ساداتهم وشرفاؤهم أن المحافظة على إرث الشرف أشق وأصعب من المحافظة على إرث المال. كما أدركوا أن شرفهم هو مجرد مفتاح يفتح لأبنائهم أبواب فُرص الحصول على الشرف، لا شرعية مضمونة للسيادة القيادية والعلمية كما هي حال المجتمعات المتخلفة. فعلموا أبناءهم وبناتهم وبذلوا أوقاتهم وذكاءهم في تأهيل أبنائهم لحمل إرث الشرف من بعدهم. فترى غالب الجامعات العريقة مليئة من أبناء الشرفاء والسادة، التي لم يكن لهم أن يدخلوها غالبا لولا الفرصة التي وُلدت معهم بكونهم من أبناء الشرفاء الذين بذلوا المال والجهد لتأهيلهم علميا وعقليا لدخولها، ثم ترى هؤلاء الأبناء بعد ذلك، وهم يخوضون معترك الحياة في منافسة عملية شديدة في أرقى المنظمات التي ما كان لهم أن ينضموا إليها لولا أن اجتمع لديهم إرث الشرف مع ما حققوه من شرف بتخرجهم من تلك الجامعات العريقة. وبهذا تحقق العدل والتوازن (فلا يخفى على أحد أثر العلاقات في فتح أبواب الفرص لأبناء السادة والأشراف هناك، وفتح الباب للفرصة ليس كضمانها والخلود فيها). فلم تجحد تلك المجتمعات فضل الآباء والأجداد فتحرم الأبناء من إرثهم من الشرف، بل أعانتهم على الحفاظ عليه وذلك بعدم ظلم المجتمع بتسليط الجُهال أو السفهاء من أبناء الأشراف فتجعلهم على رؤوس الناس فتفسد البلاد والعباد.

الشرف خلق غير ملموس مادة ولا محسوب رقما، وأما المال فهو مادة ملموسة محسوبة، لذا كان الحفاظ على إرث الشرف أصعب من الحفاظ على إرث المال. وكلا الإرثين يخلق السفاهة والجهل والكبر في الأبناء إن هم أخذوه بلا مشقة ثم بعد ذلك أُعطوا ضمانا بعدم زواله، أو ظنوا كذلك.

والمسكوت عنه أن قياس الشبه هو سبب استمرار المجتمعات المتخلفة عبر الدهور في توريث الشرف للأبناء والأحفاد رغم مخالفة الخلف في السلف في مستحقات الشرف. فهذه المجتمعات المتخلفة شبهت الرجل بأبيه وجده لمشابهته في الشكل، وغاب عنهم أن علة شرف الآباء والأجداد هي أفعالهم الحميدة الناتجة عن عقولهم وعلومهم وحلومهم لا عن أشكالهم وأجسامهم وألوانهم، وفي هذا المعنى قال المتنبي: «وَما قَرُبَت أَشباهُ قَومٍ أَباعِدٍ *** وَلا بَعُدَت أَشباهُ قَومٍ أَقارِبِ».

hamzaalsalem@gmail.com
تويتر@hamzaalsalem
 

المسكوت عنه
إذا لم تكن نفس النسيب كأصله فماذا الّذي تغني كرام المناصب
د. حمزة بن محمد السالم

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة