ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Thursday 29/11/2012 Issue 14672 14672 الخميس 15 محرم 1434 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

لَمَّا انتقل العربُ من الأمِّيةِ إلى الكتابة حرصوا على تأصيل علومهم؛ فَقَعَّدوا لما يُخشَى ضياعُه بعد فساد السليقة من النحو واللغة؛ فيكون الكتابُ المُدَوَّنُ نائباً عن النُّطق سليقةً وبداهة.. وأصَّلوا ثبوتَ ودلالة ما دوَّنوه من النصوص؛

ليحقِّقوا نِسْبة القولِ إلى القائل، وليحققوا معنى النصوص حسب مراد قائلها، فتفرَّغ كلُّ ذوي الاختصاص في كل حقل علمي لتسجيل وترتيب أصوله وقواعده، وقرَّبوا إلى الأفهام تصوُّرَ كلّ بما سَمَّوه (مبادئ العلوم)، وهي عشرة مبادئ منها التعريفُ بالحقل، وتحديد موضوعه، وفائدته.. إلخ، ثم انبرى ذوو التخصص في أكثر من حقل لتحديد مصطلحات ما أتقنوه من معارفهم، وترتيبها كابن فُوْرْك في كتابه الحدود، والسكاكي، والفارابي.. إلى الجرجاني في التعريفات، وسبقه مَن توسَّع في ترتيب المعارف كالإمام ابن حزم رحمه الله تعالى؛ فألف رسالته مراتب العلوم مع لمحاتٍ ذكرها في كتابه التقريب، وذكر مالم يُقْسَمُ له نصيبٌ منها، وبعده بثلاثة قرون توسَّع في ذلك ابن سعادة في مقاصد العلوم.. إلى ابن خلدون في مقدمته.. إلى الكفوي في كلياته؛ فدونوا ما حذقوه من تخصُّصِهم هم، وأفادوا من تعريفات ومصطلحات الآخرين في المعارف التي لم يتخصَّصُوا فيها، واستمَّر هذا الجهد عند ابن رسول والتهانوي وطاش كبري زاده وصدِّيق حسن خان في أبجد العلوم.. ثم استجدَّت حقول علمية أخرى؛ فَوُجِدت لذلك كتبُ الموسوعات ودوائرُ المعارف؛ فأتت بالعجب العُجَاب الذي لا يُعْذَر بعده أيُّ كَسول.. ثم عاد الأمرُ أُنُفاً فتفرَّغ الفلاسفة لتدوين مصطلحات ما استجد في كل مذهب، وهكذا فعل علماء الاجتماع، وعلماء النفس، وعلماء الفيزياء حتى استقلت كتب مصطلحات العلوم.. وهذه المصطلحات ذات مَنْحَيَيْن.. المنحى الأول مصطلحاتٌ لشيئ استجدَّ بالتعريب أو الاقتراض، ولم يحصل للمسمَّى اصطلاح سابق.. والمنحى الثاني تراكمٌ ثقافي سَبَبُهُ اصطلاحُ كلِّ فرد على معنى يريده وله تسمية خاصة؛ فهو اصطلاح مذهبي، ويدخل في هذا التراكم الثقافي مصطلحات تغيَّرت معانيها على مدى العقود، وربما تحول الاصطلاح القديم إلى معنى قبيح جداً، كمصطلح الليبرالية والدوجماطيقية والميتافيزيقا، ويدخل في هذا التراكم أيضاً اصطلاحات تضليلية فُرِّغَتْ من مضمونها إلى مضمون عِدائي مُتَسَتَّرٍ عليه كما في الشعار الثلاثي لدى حزب البعث، ومن أدبيات هذا الشعار كتيِّب (الرسول القائد) لميشيل عفلق، فقد اغترَّ به القطيع العربي ردحاً من الزمن؛ فالمغرَّر به يظن أنه صادر عن شعار يوحي ببعثٍ إسلامي، والملمَّع والمرتزِق والأجير والطائفي المعادي للملة يعلَم أنه مَضْغٌ باللسان، وأن حقيقته مضمون عدائي؛ فلما نجحت ثورة البعث طرح بعض الُغرَّر بهم سؤالاً على ميشيل عفلق حول عنوان كُتَيِّبه، وأن الممارسة الحضارية بِزِعْمه لحزب البعث تنافي هذا المضمون، فأجاب عفلق بكل صفاقة وجهٍ وصراحة بأنه لا يريد بالرسول القائد المعنى الخرافي؛ وإنما يريد أن محمداً صلى الله عليه وسلم زعيم عبقري مُحنَّك أبْدع أيديولوجية وضعية سمَّاها الإسلام؛ فحصل لأمته بذلك أعظم دولة وأوسع رقعة عرفها التاريخ؛ فهذه مرحلة تاريخية أعادت للعرب كرامتهم، ومع تغيُّرِ العصر وتجَّددِ معارِفه احتاجت العرب إلى أيديولوجية جديدة وضعية يقوم بها زعيم عربي؛ فيُحَقِّقُ بها مكسباً حضارياً لأمته؛ فهذا هو البعث العربي المنشود، وهو الرسالة الخالدة في الشعار!!.. ويدخل في هذا التراكم أيضاً مصطلحات تقبل أكثر من مضمون بأسلوب فيه تَعْقيد كفلسفة هيجل؛ فقد طُبع باللغة العربية أكبر مجلد لمصطلحات فيلسوف واحد، وما كان هذا الانفلات عن غباء من هيجل؛ ولا عن عُقْم في علمه وفكره، ولكنه وضع ذلك لِتغْطيشِ الأفهام كاصطلاحه بالروح؛ فيستعملها في أكثر من موضع بمعانٍ متغايرة، وكان هذا الشتات مادةً خِصبة لكل مذاهب الفلسفة الحديثة التي سَلَّطت الجدل المتشعِّب للشَّك في وجود الله بصفات الكمال، والشك في النُّبوَّات والشرائع، والشك في إدراك العقل؛ فكانت فلسفته مرجعاً للماركسي والحسْياني والاسمي والوضعي، بل اتكأت عليه مدرسة كانط النقدية الثعلبية.. وأوضحُ شيئٍ في مصطلحاته ماكان عن التاريخ والنظرية الجمالية، وهي إلى السياق الأدبي المعقَّد ألصق منها بالسياق الفلسفي المنظَّم.. وأضرب المثال لذلك بمصطلحي الوجود والعدم؛ فهذان المصطلحان لهما معنى لغوي لا يقتضي الاصطلاح به لأمر مستقلٍّ عن عموم اللغة من حيث يكون المعنى الاصطلاحي جزءاً من المعنى اللغوي يُشْترط فيه أن يكون ذا دلالة جزئية من اللغة؛ ولهذا يصاب القارئ بالدوار إذا تتبع مصطلحات الوجود والعدم في السياق الفلسفي قديمه وحديثه؛ بل ألَّف سارتر أهم كتبه الفلسفية (الوجود والعدم) وفيه كل شيئ من العَفَنِ الفلسفي إلا معنى الوجود والعدم؛ فالتَّعَنِّي للإحاطة بهذا التراكم الاصطلاحي ليس هو المشاركة في كل العلوم التي أعنيها، بل هذا على الحقيقة في نفسه حقل تخصصي يكون موضوعاً تُحاكمه نظرية المعرفة؛ لأن الشتات أحكام وادِّعاءات وتحويرٌ لدلالات اللغات لا يعني مُسَمَّى مُعَيَّناً لا في الحس الظاهر ولا في الحس الباطن ولا في تصورات العقل؛ وإنما المشاركة من أجل أن يُلمَّ طالب العلم اليوم بالحقول العلمية من كتب دوائر المعارف والموسوعات الحديثة ومصطلحات العلوم؛ ليعلم العلاقات والفوارق بينها بالنسبة لما تخصَّص فيه أو شارك في معرفته، وأما ما لم يُفْتح له فيه كما أسلفته بالنسبة لي عن الجبر والبثِّ الأثيري.. إلخ فالمشارِك في العلوم مُشاركةً تُغَذِّي تخصُّصَه تدور مشاركته السَّمْحة السَّهْلة على أمور:

أوَّلها: تصوُّر الحقل العلمي وَفْق (مبادئ العلوم العشرة)؛ فيعلم موضوعه، وفائدته.. إلخ.

وثانيها: أن الحقول المُنْقادة لفهمه كالعلوم والثقافات النظرية من فقهٍ ولغة وتاريخ وآداب ستكون مشاركتُه فيها بثقافة واسعة تصقل خِبرته فيما تخصَّصَ فيه من معارف، وتُوَسِّع تصوُّراته الفكرية، وتُكسب وجدانه رهافة حس، وتُثري لُغته إن تحدَّث أو كتب.

وثالثها: أن صَقْل الخبرة التخصصية لمن كان له تخَصُّصٌ في الفقه واللغة والتاريخ ثم شارك مشاركة ثقافية في الآداب والألسنيات الحديثة والجماليات والفكر الفلسفي الحديث ستقِلُّ أمثلته في دائرة تخصُّصه بالأمثلة الافتراضية، وسيخلِّص الحقْل من الأمثلة التي غَطَش جمالها كثرة الاستعمال مثل (ضرب زيدٌ عَمْراً) في النحو، وسيجد الأمثلة الحيَّة الواضحة لما غاب عنه استحضارُه من واقعِ الحقل التخصصي أو عجز عن افتراضه.. وأوضح الأمثلة وألصقها بالذِّهن ما كان حِسِّياً في الظاهر أو الباطن كالأمثلة من العلم المادي؛ وإنك لتجد عُمْق الثقافة إلى ما يقرب من التخُّصص عند أمثال من نَذَرُوا أنفسهم لجمع المصطلحات وبيانها، وترتيب المعارف كابن حزم وابن خلدون والجرجاني والكفوي.. والإحاطةُ بتصوِّرِ المعارف، وإحصاؤها، ومعرفةُ مصطلحاتها يُحْدِثُ حقلاً علمياً لا مُسَمَّى له، وهو الحذق للفوارق والعلاقات بين المعارف، وبغير هذا الحذق لا تتأصَّل نظرية المعرفة، وبغير هذا الحذق بعد الله لا يمكن إبعاد التراكم عن المعارف.. ومن تخليص الحقول العلمية من التراكم أن تَرُدَّ المصطلح المذهبي إلى المعنى اللغوي المعروف، وتردَّ مذهب صاحب المُصْطلِح نفسِه إلى معناه اللغوي أيضاً كالحدس؛ فإن لكل مذهب فيها اصطلاحاً ينافي (سوى واحدٍ منها) المعنى اللغوي.. ألا ترى أنك إذا حذقت مادة الأدب نقداً ونموذجاً وتفسيراً وإن لم تكن مُتَخصِّصاً فيه تَخَصُّص تفرُّغٍ ستنفي عنه أوشاباً ثقافية عامة ليست من صميم المعرفة الأدبية ونظريتها كهذا التراكم عن الطبيعة في شعر الأندلس، والمرأة في الشعر الجاهلي، والأنَواء في الشعر العربي.. إلخ.. إلخ؛ فكل هذا إما استعراض تاريخي، وإما استنباط ثقافي من النصِّ الأدبي لا علاقة له بالأدب بصفته حقلاً علمياً جمالياً.. ومثل ذلك أصول الفقه؛ فإن تصنيفها عن وعي بخصوصية كل حقل يجعلك تُسقط أوشاباً أُلْحِقت بها كالمسائل اللغوية والنحوية؛ فهذه ثابتة في حَقْليها ترجع إليها عند التفسير والاستنباط، وهكذا تُمِدُّ علوم أصول الفقه بما يجعلها علمية لا نظرية؛ فيتضح حكمها العلمي؛ ويتعمَّق فهمها بالأمثلة الملموسة؛ وذلك بأن يأخذ من العلوم المادية أشواط التجربة ونتائجها، ويُبيِّن ما كان منها حتمياً وما كان منها مجرد ملاحظة ومَسْلَكاً للتحري؛ فبهذا ينجلي واقع ما يذكره أهل الأصول في القياس ومسالك القائس كالعكس والاطراد والدوران؛ فتعلباليقين من واقع تجارب العلم المادي أن الدوران مثلاً مشروط بأن يكون مراعى في الحكم؛ فيكون دوراناً مؤثراً في المراد، وهو أيضاً مشروط بتحقُّقِ نَفْي المانع الذي لن يجعله مطرداً إن وُجِد؛ وبذلك تعرف الفارق المؤثر والفارق غير المؤثر.

قال أبو عبدالرحمن: ومنهجي إن جعل الله فسحة في العمر، وأوصي أحبابي أن يسلكوا ما نويته من تخليص مصطلح الحديث وعلوم القرآن وأصول الفقه وعلم الكلام من التراكم والتكرار؛ وذلك بجمع كل هذه الأصول في حقل واحد هو (نظرية المعرفة الشرعية) بدون باء قبل الشين، لأن نصوص الشرع المطهر من القرآن والسنة بمواضيعها من فقه وعلم كلام هي الموضوع لتأصيل واحد هو نظرية المعرفة الشرعية وأصوله العامة تفسير النص بلغته، والاستنباط من كل النصوص في المسألة الواحدة مجتمعةً؛ لتحقيق صِحَّة الدلالة والثبوت، وتحقيق وجود المقتضي وتخلُّف المانع..لا فرق بين عموم تفسير القرآن وشرح الحديث، ولا فرق بين الفقه والآداب والعقائد.. ومعنى كون الأدب عِلْمياً أنه يجتَرُّ من علم النفس والاجتماع والتاريخ.. إلخ ما يُفسر سِرَّ الإبداع الأدبي، ويَجْتَرُّ من آداب العالَم (الأدب المقارن) ما يُعْرف به الإبداع والاجترار، ويأخذ من الفنون الجمالية والموسيقى والألسنيات ما يؤسِّس النظرية الأدبية عن الإبداع والأداء وَفْق التجنيح الجمالي، ويأخذ من الأديان والأخلاق ما يُرْسي به قيمة المضمون الأدبي؛ ليجتمع مع الجمال الجلال.. وههنا شيئ فاتني استدراكُه وأنا في فضلة العمر، وإنما أوصي شباب الجيل؛ ليستدركوا لأنفسهم ما فاتني في عهد الشباب إلى الكهولة؛ وذلك هو الدِّربة على جمال الأداء نطقاً؛ فإنني اليوم أجيدُ التجنيحَ الجمالي إذا كتبتُ، وأحذق البيان لغة ونحواً عند الكتابة أيضاً؛ لأنني أراجع ما أشكل عليَّ، وإذا كنتُ متكاسلاً عن المراجعة وأشكل عليَّ إعراب الكلام استبدلت الجملة بجملة أَحْذِق إعرابها بلا مراجعة مع أن ما تركته لإشكاله عليَّ أجمل.. وأما إذا تحدَّثْتُ فلا أكاد أُبِين؛ لأننا ترَّبينا نُطقاً على العامية والاختزال، ولم نتدرَّب على النطق بجماليات الأداء كالنَّبر في لغة العرب، والتفاعل مع علامات التأثُّر؛ لِنُظْهر دلالتها، وهكذا ما هو مُوْدَعٌ في علم التجويد - الذي نحذقه نظرياً، ولا نُطِيقه أداءً - من جمال النطق بإعطاء الحروف حقها وَهُوِيَّتها من مخارجها، وتناغمها في الوصل.. وأعترف بأنني مِمَّن تُحِبُّ أن تقرأ له ولا تستمع إليه؛ وليس ذلك من عوارض ما بعد الكهولة كسقوط الأسنان؛ فتظهركل حروف الهجاء من مخرج واحد مع الصَّفير والخُنَّة والبُحَّة؛ وإنما ذلك لسوء التربية من الصغر تلاوة ونُطقاً، ولكون الحذق للنحو واللغة والبلاغة والتجويد يحصلنظرياً لا تطبيقاً؛ ولهذا فإلقاء الشعر عندنا إما مُتَكلَّف، وإما خنخنة تَجْلب النعاس.. وَمَن بلغ سني وهو على هذه التربية فإن عنصر الحياء يُلْجمه، فطالما ترنمتُ بالشعر، وتأنَّقت في التلاوة في خلوتي فأجد جمال الأداء ولذَّته، فإذا حدقتني الأبصار في محفل، أو ظننتُ أن الأسماع تُصغي إليَّ في وسائل الإعلام المسموعة: عُدْتُ بغير اختياري إلى ما أنا عليه من النشأة العامية اختزالاً وسرعة واختلاطاً وكثرةِ تراجعٍ في الكلام من لحن سبق به اللسان إلى تصحيحٍ استرجعته الذاكرة.. وإنني وابنُ بيئتي لنحقر أنفسنا في جمال الأداء إذا سمعنا مثل هدير الجواهري وجمال الدين مصطفى، وتأنُّق حسين بستانة وفاروق شوشه وهدوء طه حسين بلا تكلُّف.. ومثقفو العراق عامة مِن أجود أهل البلدان العربية أداءً يوافق جمال وجلال اللغة الفصحى.. وَوُجِد عندنا نوادر آتاهم الله جمال الصوت وحسب كمطلق مخلد الذيابي إذا تحدث رحمه الله تعالى، وهكذا أخوه ياسر الروقي، ولي عودة إن شاء الله إلى فضيلة المشاركة في العلوم في أشياء يَظُنُّ أنه نسيها من القراءة العابرة، ولكن الواقع أنها تراكمٌ في الذاكرة نسي مصدرها، ولكنها لم تَنْسَ إسعافَه إذا تحدث مرتجلاً، أو أملى على غيره ما يريد كتابته، وإلى لقاء، والله المستعان.

 

كُنْ مُشاركاً في كلِّ العلوم (2-3)
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة