ارسل ملاحظاتك حول موقعنا Wednesday 12/12/2012 Issue 14685 14685 الاربعاء 28 محرم 1434 العدد 

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

      

حينما صرخ الطفل: “أمي ماتت.. أمي ماتت.. وهذا خاتمها..”.

لم تكن هذه مقدمة رواية رومانسية لألبير كامو أشبه بروايته الغريب والتي افتتحها “اليوم ماتت أمي” أو روايته الطاعون رعب التاريخ الذي أفنى دولاً وأباد شعوباً

ونكس حضارات وهزم وحده حملات عسكرية جبارة يقودها عسكريون محنكون لم تنفعهم حنكتهم في مواجهة هذا (الجنرال) المخيف كما قال خالص جلبي ذات يوم، صرخة لم تكن كصرخة مطلع قصيدة من قصائد محمود درويش إلى أمه التي يردد دائماً “أحن إلى خبز أمي” والتي شرب العرب قهوتها مع صباحات ابنها المهاجر أو شجون أم مظفر النواب أو مناجاة سميح القاسم لأمه الريح وهاجر المتعبة أو بكاء الفيتوري على أمه السوداء إفريقياً.. بل كان هذا صوت طفل عربي ظهر قبل يومين على إحدى الشاشات التلفزيونية ووجهه مضرج بالدم، يبكي ومعه خاتم أمه. كان الأولى بتلك القناة وهي تعرض هذا المنظر الموجع أن تصطحب أغنية فيروز من كلمات الأخوين رحباني حينما غنتها 1977م إبان الحرب اللبنانية:

(زغيري وما بتعرف بحرب الكبار، كانت عم تلعب أخدها النسر وطار بحرب الكبار، شو ذنب الطفولة؟ بحرب الكبار، شو ذنب الضحكات الخجولة؟ نحنا الحق ودمع الناس وأمل الناس والحرية وغناني الاجيال وضحكات الاطفال).

نعم أطفال يدفعون ثمن صراع الكبار، أطفال شغلوا عن مدارسهم وتعليمهم بالثورات والشوارع، أطفال ضحايا لم يكملوا تطعيماتهم ولم يحصلوا على الحليب الكافي، أجبروا في هذا الشتاء والزمهرير على قطع آلاف المسافات من أجل الانضواء تحت خيمة آمنة، مات بعضهم وتعقد بعض آخر القضية لا زالت في بداياتها، أطفال بهموم شيوخ لم يلعبوا في الملاهي ومرت الأعياد تلو الأعياد ولم يحصلوا على هديتهم بينما أطفال العالم يخشى عليهم من تأثير أحداث الشرق الأوسط على نفوسهم... شجون بلا نهاية، وحروب لا ينتصر فيها أحد، وواقع مرير عجزت كل حواسيب الإحصاء عن حصر جثثه وهياكله المجروشة حتى أصبحت رائحة اللحم البشري في الطرقات، والفراغ الأخلاقي في كل أروقة الحياة في هذا الشرق الأدرد مقرف حدا تجاوز الأغنية الفاسدة والنفاق السياسي السخيف، والحزبية القذرة، ونسي العالم المتمدن أن ما لدينا وما مر بنا في الفترة الماضية يكفي شعوب الأرض أن تعيش في مصحات نفسية قروناً، حال نسائنا وأطفالنا وشيوخنا يود المرء منها لو كان شجرة يابسة في صحراء، أو يستعيد ما قاله ابن الأثير حين تمنى لو أنه لم يولد كي لا يرى ما يرى حروبا تجاوزت شرف بطولات الفرسان ونبل الفروسية، وواقعا مرا لم يمر على بشر من قبل ولن يمر على أمة موعودة بالميلاد، وحوشا أكلوا الأطفال من غير جوع ومثلوا بالجثث من غير رحمة في زمن أسوأ مما كتبه ابن إياس في “بدائع الزهور” عن زمن حينما أكل فيه الجياع بغلة القاضي، واستُخْدمت فيه الخطافات للسطو على الأطفال وأكلهم أحياء.

كل من حولنا من القارات يتقدم ويرعى جمعيات الطفولة والعجزة والمسنين ونحن في هذا الشرق المتخلف من العالم نتأخر في الجوانب الإنسانية التي تخص ضرورات الطفولة وحاجات الشيخوخة، فنقتلهم ونجبرهم على الهجرة من بيوتهم في هذا البرد القارس، ونلزمهم بدفع ثمن الرصاصة التي نقتل بها فلذات أكبادهم أمامهم، ونرغم الأمهات بالزغاريد على فض بكارة بناتهن سفاحا، في هذا الشرق الأدرد كل شيء مستباح ابتداء من الروح وحتى العرض، وقد قطع السياسيون والحزبيون فيه أعناق العروبة من الوريد إلى الوريد، لا ينفع معهم قبعات الإخفاء كلها فسيجدونها وينتقمون منها على طريقتهم المتأصل في النفوس ولو تشبثت بجذوع شجرة في صحراء يابسة، تعيش زمناً غير مسبوق في الضغينة واللامبالاة والكيدية والمؤامرة، فثمة أساتذة يخونون أماناتهم ويزورون النتائج، وثمة قضاة باعوا ضمائرهم للدنيا ونخب فاسدة لا تنأى بدورها التاريخي ومثقفون مزيفون أشبه بالأطباء الذين ينسون قطع القماش داخل بطون مرضاهم بعد إجراء جراحة، ولكن الذي لا يمكن قبوله ولا تصوره هو تحول الرئيس إلى متوحش يكره شعبه حتى النخاع، فلا يرعوي نظامه عن الذبح بالسكاكين والسواطير والغازات السامة، والعالم المتمدن كله يرجو ويتوسط لدى الأخ ألا يذبح أخوته وينكل بأمه وأبيه وأطفاله، واقع موجع وحاضر مر، ومستقبل مظلم، وفوضى غير خلاقة، وحراك أصبح عراكاً وحوار أصبح خواراً، ثم يخرج علينا أحدهم ويحدثنا عما أثقلنا من مصطلحات الإستراتيجية لنفاجأ بأننا مسروقون في هذا الشرق الذي تعذر العيش فيه ولم يعد له سحره الذي كان يميزه ويستقطب المفتونين بالجمال والفن والحضارة، والأمر الوحيد الذي أفلح به ذلك الإستراتيجي سواء كان خبيراً أو جنرالاً أو زعيماً أو أستاذا أنه لا يملك ذهنية يستطيع من خلالها قراءة الواقع بما يتفق مع قوانين العدل والإنسانية، والرؤية التي نجح بها هي زيادة جرعات الموت والهلع والتشرد والفوضى، والحرب التي انتصر بها في مواجهاتنا المصيرية هي ما يكتمل بها نصاب التراجيديا التي تحولت إلى مهزلة وكوميديا والكارثة حينما يتحول الرئيس في أي نظام على وجه الأرض إلى قاتل محترف للزناد، ومتآمر مرتزق على نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته بأكملها، حينما يستبدل إنسانيته بسمكة قرش يسيل لعابها كلما شمت رائحة الدماء والأدهى والأمر أن تجد دولا وحكومات وساسة يدافعون عن ثقافة القتل والتهجير ويسوغون ذلك ومنهم روسيا التلا تخجل من موقفها ولو أمام شعوبها وأجيالها القادمين...

نعم، حينما قال شهيد وائل زعيتر لصديقه الروائي الإيطالي ألبيرتو مورافيا، كيف يمكن لحضارتكم الأوروبية التي أبدعت السيمفونية التاسعة لبيتهوفن أن تنحاز إلى قتلة الأطفال؟ حق لنا أن نقول لروسيا كيف يمكن لحضارة أبدعت سيمفونية بحيرة البجع للموسيقار الروسي العظيم تشايكوفسكي أن تنحاز لقتلة الأطفال...؟

عذراً لا زالت صورة الطفل الذي يبكي أمه وهو يحمل خاتمها حاضرة أمامي لتختصر تلك الصورة صور الشجاعة النادرة، لأنه استطاع بعفويته كشف عري الإمبراطور في قصة اندرسون، رغم أن الكبار كانوا يتنافسون في وصف ثيابه الأنيقة وصولجانه المزخرف، وحبذا أن الرئيس بشار فهم لغز الخلود والبقاء والحب والتضحية، وأدرك سر التاريخ في فرز شخصياته في قائمة سفر الخالدين كما خص سوار الذهب وأخرى إلى مزابله كما سيخصه وسيعرضه كما يعرض آل فرعون المستبدون والطغاة.. والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com
 

يا روسيا: كيف لحضارة سيمفونية البجع أن تنحاز لقتلة الأطفال؟
د. عبدالله بن ثاني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظارسل هذا الخبر لصديقك 

 
 
 
للاتصال بناخدمات الجزيرةالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة