خلال أكثر من نصف قرن من الزمان مر على افتتاح هذه الكلية بدءا بعام 1374هـ إلى سنتنا هذه كم من شاب طموح متوقد ذكي لماح مر من هنا ؟! كم من فتى غريب متغرب فقير مهاجر من قرية نائية جدا أو من واد سحيق أو من قمة جبل شاهق لا يملك قوت يومه أتى يحمل على عاتقيه طموحا جثا على ركبتيه هنا يطلب العلم جادا مثابرا صابرا على الفاقة والفقر والغربة حتى تخرج في هذه الكلية ثم أصبح علما من الأعلام الكبار الذين يشار إليهم ليس بالبنان الواحد فحسب؛ بل باليدين كلتيهما تقديرا واحتراما!

مشاعر متأججة فوارة في داخلي أثارتها مطالعتي دليل كلية اللغة العربية الذي صدر قبل أشهر، مؤرخا مسيرة هذه الكلية، وحفيا بمن درسوا بين أفيائها، واحتضنتهم مقاعدها، وقضوا في قاعات درسها أربعا من السنين في المرحلة الجامعية، ثم زاد بعضهم على تلك السنوات الأربع سنوات دراسية أخرى في الدراسات العليا ؛ لقد أعادني هذا الدليل إلى ما قبل سبعة وثلاثين عاما حين وضعت خطوتي الأولى على عتبة باب هذه الكلية الرائدة المجيدة مطلع عام 1395هـ حين كان مقرها على ناصية شارع الملك فيصل المسمى بشارع الوزير مقابلة مسجد العيد وملتصقة بشقيقتها التي انفصلت عنها لاحقا كلية الشريعة، كانت الكلية آنذاك تتكئ على رصيد علمي وعملي رصين ومشرف خلال عشرين عاما من التألق والجد والرصانة وإقبال الدارسين واستقطاب العلماء وكبار الباحثين ؛ فكان اسم الكلية مقرونا بأحد خريجيها كفيلا بالثناء والإعجاب وإشعارا بالتفوق؛ لغزارة المناهج، وكثافة المادة العلمية، وشهرة الدكاترة وذيوع أسمائهم، وحزمهم ودقتهم وتشددهم في منح الشهادات والتزكيات والقبول أو الرفض .

جمعت هذه الكلية في تأسيسها العلمي الرصين بين أصالة الأزهر وحداثة كلية دار العلوم، ولمسات مبكرة من التطوير المتلاحق المتتابع الذي آمل ألا يخرج بتجربة الكلية عبر تاريخ طويل عن منحاها الأصيل الذي تميزت به إلى طرائق كليات أخرى تطبيقية عصرية ذات اختصاصات مختلفة؛ فمحافظة الكلية على نكهتها وتخصصها وأسلوب البحث الأصيل القديم فيها هو الذي يمنحها التميز والقوة والعمق والثراء ؛ وإذا أخذت بطرائق الكليات العملية أو النظرية الأخرى الميالة إلى التخفف من ثقل المادة العلمية وإلى إعانة الطالب بما يمكنه من اجتياز الاختبارات بأيسر الطرق؛ فإنها ستكون كلية مانحة للشهادات الوظيفية ليس إلا، وهذا لا يحقق الغرض العلمي الشريف الذي أنشئت من أجله ووضعت مناهجها الجادة الثرية.

ولعل ما يشفع لي في المناداة بالمحافظة على على أصالة مناهج الكلية ما أراه اليوم من تساهل غير مبرر، ومن عدم جدية في البحوث، وضعف لدى كثيرين من الطلاب، وانحطاط همم عدد غير قليل من الدارسين، وضعف تأسيسهم في مراحلهم الدراسية الأولى متبينا ذلك في أساليبهم وما حصلوه من معارف وثقافات وفي صحة كتابتهم من الخطأ اللغوي والإملائي، ولاشك أن هذه نذر خطيرة على خلل فاحش في مستوى التعليم ليس لنا مناص من أن ننبه إليه ونتنبه إلى خطورته على مستوى الأداء والإنتاج في كل مجالات الحياة في وطننا العزيز.

حين دلفت إلى رحاب هذه الكلية العظيمة مطلع عام 1395هـ رنت في مسمعي أسماء لامعة كان لها بريق أخاذ وحضور فكري وثقافي بهي ومشرق ؛ من أمثال أساتذتي الفضلاء مع حفظ الألقاب العلمية: بدوي طبانة، محمد عبد الخالق عظيمة، درويش الجندي، علي الجندي، سيد خليل، سيد حجاب، علي عبد الحليم محمود، عبد الله ربيع، عبد الرحمن رأفت الباشا، محمد محمد حسين، محمد علي الهاشمي، عبد القدوس أبو صالح، وكانت أسماء لامعة مجلجلة قد سبقتهم، مثل: محمود محمد شاكر، عبد الفتاح محمد الحلو، محمد عبد المنعم خفاجي، حسين فوزي النجار، محمد رجب البيومي، عمر عودة الخطيب، يحيى عبده الخشاب، أحمد الحوفي، حسين نصار .

وقد عاصرت وتتلمذت على نخبة من العلماء والأكاديميين السعوديين؛ مثل: محمد بن سعد بن حسين، عبد الله بن حمد الخثران، عبد الله بن علي الحامد، عبد الله عبد الرحيم عسيلان، عبد العزيز بن محمد الفيصل، ناصر بن عبد الله الطريم، عبدالعزيز بن عبدالله الفالح، عبدالعزيز بن عبدالله العواد، وغيرهم .

هذه الكوكبة الرفيعة من العلماء والباحثين امتداد لمراحل التأسيس الأولى التي حفلت بأسماء لامعة كبيرة ؛ فقد تولى إدارة الكلية إبان نشأتها في سنواتها الأولى نخبة مختارة ممن كان لهم حضورهم الثقافي والأدبي والإبداعي، وإن لم ينالوا شهادات دكتوراه ؛ فكان أول عميد لها هو الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ منذ إنشائها عام 1374هـ ثم الشيخ حمد بن محمد الجاسر ثم الشيخ عبد الله بن محمد بن خميس ثم الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن المسند ثم الشيخ عبد الرحمن بن محمد الدخيل ثم الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ثم تعاقب عليها إلى الآن عدد من العلماء والباحثين الأكاديميين الفضلاء، وهم مع حفظ الألقاب: محمد بن عبد الله بن عرفة، عبد العزيز بن عبد الله الفالح، ناصر بن عبد الله الطريم، معيض بن مساعد العوفي، عبد العزيز بن عبد الله العواد، محمد بن حسن الزير، أحمد بن حافظ الحكمي، حمد بن ناصر الدخيل، محمد بن عبد الرحمن السبيهين، أحمد بن عبد الله السالم، محمد بن علي الصامل، فهد بن محمد العمار (مكلفا الآن).

لقد تخرجت الدفعة الأولى عام 1377هـ بعد كلية الشريعة بسنة، وقبل كلية الآداب بجامعة الملك سعود بدفعتين ؛ فكلية اللغة العربية هي الأولى في المملكة في التخصص اللغوي والدراسات الأدبية، وهي الثالثة من الكليات في سياق نشأة وتطور التعليم الجامعي ؛ فقد سبقتها كلية الشريعة بمكة المكرمة التي افتتحت أواخر عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - عام 1373هـ ثم كلية الشريعة بالرياض التي افتتحت في عهد الملك سعود - رحمه الله - عام 1374هـ.

وعلى مدى هذه العقود الخمسة إلى عام 1430هـ خرجت الكلية ما يقرب من خمسة آلاف طالب، و718 رسالة علمية، منها 245 دكتوراه، و473 ماجستير، ومن ضمنها 113 رسالة علمية بين ماجستير ودكتوراه لباحثات . وسأشير في الجزء الثاني من هذا المقال إلى أبرز من مروا على عتبات هذه الكلية من مشاهير الأدباء والنقاد والمسؤولين..