ارسل ملاحظاتك حول موقعناTuesday 15/01/2013 Issue 14719 14719 الثلاثاء 03 ربيع الأول 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

لا تدخل مجلساً إلا وتسمع فيه حديثاً عن الطب والاستطباب، إن شجباً أو ردحا. فالجميع يحتاج الخدمات الطبية ليس كضرورة فقط، بل تحول بعض الطب إلى نوع من الترف. بل إن بعض جوانب الترف الطبي، التجميل، التخسيس، التقشير صرفت بعض الأطباء عن مهامهم العلاجية، لأن

من يطلب هذه النوعية من الخدمات هم أصحاب النزيف النقدي. والجميع يصدق الطبيب حتى ولو كان مشعوذا، ولذلك شبه أحد الكتاب البريطانيين الأطباء بالسحرة في إفريقيا مع بعض الاختلاف طبعا. ولأهمية الطب، ربطه الجميع بأجل الخدمات الإنسانية في المجتمع. فالطبيب يسعدك إذا أحسن علاجك والتعامل معك، ويتعسك، أو ربما يواريك الثرى فيما لو أخطأ تشخيصك، أو أخطأت معاوله الجراحية مكانها في جسمك. والطبيب الوسطي هو ذاك الذي يشير عليك بأخذ رأي طبي ثان إذا شك في تشخيصك.

في أواخر التسعينيات، كان والدي -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- يعاني من بعض أعراض الكبر، باركنسون خفيف في إحدى يديه، وروماتيزيم عظمي في إحدى ركبتيه التي سبق وتعلم في تجبيرها طبيب شعبي قبل ما يقارب النصف قرن. المهم، ألحيّنا عليه، أنا وإخوتي أن يزور أسكتلندا حيث أدرس ليراجع بعض الأطباء، وبما أن في العائلة، ولله الحمد والمنة، عدد وافر من الأطباء، فقد كان أحد أهداف الزيارة تغيير الجو والسياحة أيضاً، إذ إن أعراض العوارض المذكورة سابقاً معروفة ولا تحتاج لتأكيد أو تشخيص استثنائي.

حضر الوالد لأسكتلندا، وأخذنا له موعداً في عيادة “بوبا” وهي عيادة خاصة معروفة، مع طبيب اسمه “كورت براون” اتضح بالصدفة أنه عمل في المستشفى العسكري ردحاً من الزمن. استقبلنا الدكتور البريطاني وبادر بكتابة أشعة، وميموقرامات، واختبارات وتحاليل عديدة رغم أننا اصطحبنا ملف الوالد معنا وبه جميع التحاليل. ثم وصف للوالد دواء مسكناً بديلاً، وعرض عليه عدة عمليات هي باختصار عمليات سمكرة مسامير تثبت المفاصل فلا يحس المريض بألم لكنه يفقد فائدة مفاصله. دفعنا فاتورة تستر على الوجه، وغادرنا ولاسيما ونحن من بلد عرف عنه أن بعض مواطنيه يحجز عيادات بكاملها.

ثم نصحني دكتور طبيب يمني يشرف على مركز أبحاث في أحد أكبر المستشفيات في أدنبرة أن أتصل بمعهد العظام في الجامعة، وبطبيب اسمه “ماك ماستر” طبيب ذي شهرة دولية. اعتذر “ماك ماستر” بلطف بأنه غير مختص بالركب وأنه مختص بالظهر فقط، وشرح ذلك بمنتهى المهنية. فاتصلت بمعهد العظام، ولحسن الحظ أجاب الهاتف مدير المعهد شخصياً بسبب مرض سكرتيرته. فبحث عن قائمة مواعيده ولم يجدها، فقال لي: والدك حضر من بلد بعيد، أحضره غداً وسألقي عليه نظرة في فترة استراحة الغداء. فقلت لنفسي، فعلاً، مصائب قوم عند قوم فوائد، وتمنيت للسكرتيرة الشفاء العاجل.

استقبلنا في المعهد رجل، طويل، مسن، مهيب يلفت النظر في مظهره كبر وجزالة عظامه، يعني طبيب عظام قلباً وقالباً. أخد جميع الإشاعات والأدوية، ثم وضع الإشاعات على اللمبة (المونيتور) ثم توجه لنا بالسؤال هل تجدون فرقا؟ أجبنا لا. فواصل: كان يجب ألا يكلفكم قيمة الأشعة لأن العظام لا تتغير في فترة بسيطة. ثم استغرب كيف غيّر دكتور بوبا المسكن من بروفين إلى فيلدن لأنه لا مبرر لذلك إلا إذا كان المريض يعاني من مضاعفات في المعدة. ثم كشف للوالد عن ساقه قائلاً: انظر يا عزيزي لركبتي، أجريت فيها عملية مثل التي تعرض عليك، أنا طبيب عظام وأقول لك إنني تحسرت على اليوم الذي أجريت فيه العملية. ثم أنتم مسلمون تركعون وتسجدون وأنت لن تتمكن من ذلك، -مخاطباً والدي رحمه الله- وربما أيضاً لا يخف ألمك. علاجك وأشعتك التي وصفت في بلدك ممتازة. ثم استمر في حديث جانبي. سألته وعرقي يتصبب في عز براد أسكتلندا، كم كلفك وقتك يا سعادة البروفسور؟ فلم أستطع أن أسأله عن قيمة الكشفية. فأجابني: أنا أعمل أستاذاً هنا، وسبق وعملت في أستراليا وعينت خير ولا أحتاج لمزيد من المال، هذا رقم حساب معهد العظام، وتستطيعون التبرع بما تجود به أنفسكم للمعهد. طبعاً، لا أحتاج أن أشرح بمن وثقت، ومن صدقت.

القصة لا تقف هنا، فبعد شهر أرسلت عيادة كورت براون رسالة تطالب بمبلغ إضافي جزل ذكر منه أنه قيمة التقرير وأمور أخرى. سألت طبيب العائلة في العيادات الأولية فأعطاني رقم الهيئة الطبية المسؤولة عن عموم الأطباء في بريطانيا قائلاً، اتصل بهم، واستفسر منهم. فاتصلت بهم، ودون توانٍ ولا إبطاء، ولا سكرتاريا، ولا المدير غير موجود، ولا المسؤول في اجتماع، أجابوا فورا. شرحت لهم الموضوع فقالوا لا تعطيه أي مبلغ إضافي عدى كلفة الأشعة والأدوية وخمسين جنيه قيمة العيادة، انسخ التقرير وأرسله له. بعد يومين تلقيت اتصالاً من الطبيب نفسه كان يرتعد وهو يعاتبني قائلاً ليتك لم تدفع شيئاً ولم تتصل بالهيئة، لو قلت لي لأرسلت لك كل شيء تريده مجاناً. عرفت أن هيئة الأطباء في بريطانيا لا تلعب.

بعد سنوات في المملكة، أرادت قريبة لي إجراء عملية تجميل في المملكة، وكان الوقت ضيقاً قبل سفرها، والعملية تتطلب تدخلين جراحيين متتابعين يفصل بينهما ما لا يقل عن شهرين. فتصدت لها طبيبة باطنية، وليست أخصائية تجميل، وقالت لها العملية ممكنة جداً، وسأجريها لك في العيادة الفلانية بمبلغ من الأعداد المركبة والأصفار الأربعة. أجرت الطبيبة العملية فدخلت المريضة في مضاعفات خطيرة جداً، ولم ينقذها إلا استشاري سعودي مختص عالج آثار العملية الأولى وهو يتعجب من الاستهتار الذي وصلت فيه الممارسات الطبية عندنا.

بعد فترة، حاولنا الاتصال بمالك العيادة، فإذا بها سيدة سعودية تقيم في الولايات المتحدة إقامة دائمة وقد وكَّلت إدارة العيادة لشخص آخر، فاتصل بنا مسؤولها في السعودية وعرض علينا إعادة مبلغ العملية فقط!! حاولنا الشكوى فدخلنا في المسؤول في اجتماع، المسؤول في انتداب، المسؤول في خبر غير متواجد. وعندما وصل مندوب العيادة أن المريضة تعافت سحب عرضه حتى بإعادة قيمة العملية لأنه لم يعد لدينا إثبات بمضاعفات العملية. ولا أعرف ما حصل بعد ذلك. ولكني عرفت أن الطبيبة الباطنية المستهترة فتحت عيادة خاصة للتجميل باسمها.

سقت لكم أعلاه قصصاً طبية حقيقية، تتحدث عن نفسها ولا حاجة لشرحها، وهي حدثت لنا ونحن تقريباً بيت خبرة طبية، فما بالكم بالجهلة المساكين. نعم الأطباء في غالبيتهم يحترمون مهنتهم، وكثير منهم يعي أنها مهنة إنسانية قبل أن تكون تجارية. ولا شك أن للطبيب مركزاً اجتماعياً يجب أن يمثله مادياً، ولكن أيضاً له مركز اجتماعي يجب أن يشغله إنسانياً.

فالأخطاء الطبية والاستهتار أهلكت العباد، وزاد الطين بلة، والإبالة ضغثا أنه ظهر اليوم تأمين ضد الأخطاء الطبية بحد أعلى هو دية المريض. وهذا يعني بلغة المستهترين، ادعس ولا يهمك، تعلم في المساكين قبل أن تتعلم مسك السكين. نحن لا نحتاج لتأمين ضد الأخطاء الطبية، والمسألة ليست مسألة مال، ففي الغرب إذا أحدث الطبيب خطأ طبيا واضحا سبب إعاقة لمريض، دفع تقدير إعانته على تجاوز الإعاقة حتى يموت. ما نحتاجه هو هيئة طبية صارمة تشطب من سجلاتها، وتمنع من ممارسة الطب، أي طبيب مستهتر أو غير مؤهل.

latifmohammed@hotmail.com
Twitter @drmalabdullatif

وجهان للطب
د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة