ارسل ملاحظاتك حول موقعناTuesday 15/01/2013 Issue 14719 14719 الثلاثاء 03 ربيع الأول 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

وبعد أن تجرّعت الشعوب ظلم ذوي القربى، الأَشدِّ مضاضة، جاءت الجولة الثالثة، ممثّلة بـ[الربيع العربي]، وبما يحمله من فوضى غير خلاّقة.

واستفتحنا بهذا الربيع خيراً، ولمَّا يأت الفتح بعد بما تشتهي الأنفس، وتلذّ الأعين. إذ البوادر

لا تبشر بالخير الذي كنا نأمله، ولا بالعدل الذي نتطلّع إليه.

والمؤكد أنّ الشعوب نجحت في كشف الزيف، وتعرية الخونة، ودفن الرِّجْس، وتكسير الأوثان مردِّدة:

[أُمّتِي كمْ صَنَمٍ مَجَّدتِّه

لم يكن يحمل طُهْر الصنم]

لقد أمنت الشعوب الخوف من بطش الطُّغاة، وتوفّرت على حرية التفكير والتعبير، وشارفت على حُكْم نفسها بنفسها، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع النزيهة، واستبشر الناس بإزاحة الكوابيس وزوّار الفجر، وغياهب السجون، وأخْذ المقيم بالظاعن. غير أنّ هذه الجولة التي صنعتها الشعوب بإرادتها، وتحمّلت تبعاتها بنفسها، واستبدّت في تصرفاتها، [والعاجز من لا يَسْتَبِد] وفاجأت العالم بنتائجها، كادت تحور رماداً بعد سطوع وتوهُّج.

لقد انبعثت المشاكل من مدافنها، كما تنبعث الهوامُّ والحشرات من بياتها الشتوي، لتفسد في الأرض، والله لا يحب الفساد.

إنّ لكلِّ شعب خلائقه، ومثبّطات عزماته. فما نشاهده من إشكاليات في [ليبيا] و[اليمن]، يختلف عمّا نشاهده في [تونس] و[مصر]، وما سيكون في [سوريا] بعد سقوط النظام.

وإذ يكون من المتوقع عند الفراغات الدستورية، أن تنسل الحزبيات، والطائفيات، والقبليات من جحورها، وأن تتنازع السلطة فيما بينها، فإنّ مصلحة الأُمّة فوق الجميع، وصوت صناديق الانتخاب، يقطع قول كل خطيب. فمن لم يذعن لهذا الصوت، فهو خائن لأمانته، موقظ للفتنة النائمة.

ومن غَلَّب صوت الطائفية، أو الحزبية، أو القبلية على صوت الأُمّة، فقد سَرَقَ الثورة، وأجهض الحرية، وخيّب الآمال، وأعاد الأُمّة إلى مرّبعاتها الأولى.

وحين نُسَلَّم بأنّ المرحلة الانتقالية كلحظات المخاض، لها آمالها، وآلامها، ومخاوفها، فإنّ على النُّخب أن تربط على أفئدة العامة، وأن تثبت أقدامهما، حتى تهدأ العاصفة، ويألف الناس ما يَجِدُّ من مسارات، وما يقوم من خيارات، لا أن يتحوّل النَّخْبويَّون إلى ريش في مهبّ الريح، أو إلى محرّشين يزيدون في الاحتقان. وما لا يدرك كله لا يُترك كله، وشاعر الحكمة يقول:

[إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى

ظمئت. وأيّ الناس تصفو مشاربه؟]

وحين لا يكون الرئَيسُ المنتخب معقدَ الآمال، فإنّ مُدَّة الرئاسة محدودة، وعندها يكون بإمكان الممتعضين التربُّص بالرئيس الفائز بأصوات حزبه، حتى تنتهي ولايته، ومن ثم سحب الثقة منه، واختيار من يتخلّى عن [أيديولوجية] حزبه، أو رغبة طائفته، أو شهوة قبيلته. والزمن كفيل بنفي الرديء، وغير المناسب، فصناديق الانتخاب متى كانت نزيهة، فإنها تنفي الانتهازيين، كما تنفي النار خبث الحديد. فليكن موعد المتخوّفين صناديق الانتخابات. وإذا جيء برئيس، ولم ترضَ عنه طائفة أو حزب، فإنّ إرادة الأُمّة فوق الجميع، ولا يسع المخالف إلاّ التسليم، احتراماً لإرادة الأُمّة، وتجنيباً للبلاد من ويلات الفتن، ولمتعشّقي [الليبرالية] أُسوة حسنة بأصحابها، فماذا كان من [ميت رومني] الأبيض، حين اكتسحه [أوباما] الأسود، لقد سلَّم للأمر الواقع، وهنأ الفائز عليه، ودخل حزبه في السّلم كافة. وتلك بعض أخلاقيات الإسلام، ونحن أحقّ بها.

أقول قولي هذا، رغبة في الحفاظ على مكتسبات الثورات العربية، وحرصاً على نجاح الانتفاضات المباركة، وقطعاً لدابر المؤامرات القذرة، إذ ليس لي هوى مع حزب أو طائفة، وإنما هواي مع الرأي العام، الذي تجسِّده صناديق الانتخاب.

هذه الجولات الثلاث التي أصابت الأُمّة بمفاصلها، لم تستفد من مواعظها، ومن ثم مَرَّت كالريح العقيم، تدمِّر كلَّ شيء أتت عليه. وخوفي ألاَّ تغني الآيات والنّذر، فالشعوب التي انتزعت حريتها بدم الشهداء، لم تجتمع على مبدأ، ولم تأتلف على غاية، ولم تحتكم إلى المبادئ التي جعلتها شعار ثورتِها، والنُّخب التي تُرِيق المداد، لم تُصِخْ للشهداء الذين أراقوا الدماء.

لقد تفرّقت بالجميع السُّبل، وتنازعتهم الأهواء، وأذهب ريحهم اختلاف الآراء، وأرداهم تدنيس المقدس، وهز الثوابت، والتشكيك بالمسلّمات. وأخوَف ما أخاف أن يكون تصدُّع الوحدة الفكرية سبيلاً لتصدّع الوحدة الإقليمية، ومن يتحسّس عن واقع الأُمّة بوعي، يجدها شيعاً، محققة تخوف الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: [لا تعودوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض]، إنّ النُّخب المُعَوَّل عليها، تحوّلت إلى معاول هدم، وكلُّ حزب يرى أنّ مبادئ حزبه لا معقِّب لها. فيما تظل الحاجات الأولية معطّلة. فالحكومات المنتخبة، تجالد، وتجاهد، لتهدئة الأوضاع، وإصلاح ما أفسدته الثورات، والثورات المضادة. والطوائف والأطياف تتنازع حول السُّلطة، ولا تبالي بأيّ وادٍ هلكت الأُمّة، وتختلف حول صياغة الدستور، والبلاد تتآكل، والفتن تنقصها من أطرافها، والأعداء يحوكون المؤامرات، ويحرضون البسطاء، ويغرون السفهاء. فلا الاقتصاد انتعش، ولا البطالة تقلّصت، ولا الأمن استتب، ولا البنى التحتية استكملت، ولا العلاقات الدولية حُسِّنت، ولا دول الجوار أمنت. وستظل الشعوب ثائرة مائرة، تحركها الحزبيات، والطائفيات، والدسائس، والمؤامرات. وحين تتفاقم الأمور، يتصوح نبت الربيع العربي، ثم لا يكون بد من رعي الهشيم.

إنّ على عقلاء الأُمّة من حَمَلَة الأقلام، والمقتدرين على الكلام، وذوي النفود، والعلاقات الدولية، أن يجنبوا أُمّتهم ويلات الفرقة والشتات، وأن يعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن يؤثروا المصلحة العامة، وأن يتجنّبوا الأثرة. فالتاريخ لا يرحم، ومن الخير للمقتدرين ألاّ يختاروا مزبلته التي فاض وعاؤها، [فالذِّكر للإنسان عُمْر ثاني]، ولن يُصْلح آخر هذه الأُمّة إلاّ ما صَلُح به أولها، مع مراعاة المتغيّرات، والمقاصد، والمباح الممكن وغير الممكن، وفقه الواقع والتمكين والأولويات، فالله لا يكلِّف نفساً إلاّ وسعها، والتقوى بالاستطاعة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: [إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم]، ومن ثم لابد من إيثار هَمِّ الجماعة على الْهَمِّ الفردي والفئوي. وعلى الأُمّة أن تبتدر الاشتغال في إطار قواسمها المشتركة، فذلك خير من تنازعها على لعاعة الحياة.

والتعاذر والتعايش خير من التدابر والتنابز، وخيرٌ من ذلك كله الحيلولة دون تدخُّل الغير فيما يقع بين دول المنطقة من خلافات إقليمية. ولنا في [دول الطوائف] الأندلسية موعظة.

وللتقريب بين وجهات النظر لا بد من العمل على تعزيز المؤسسات والمنظمات المشتركة وتفعيلها، واحترام قراراتها ما أمكن ذلك.

وتلك التطلُّعات ممكنة، ومقدور عليها، متى حسنت النوايا وسلمت المقاصد.

الوضع العربي أعيا الطبيب المداويا..! 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة