ارسل ملاحظاتك حول موقعناFriday 18/01/2013 Issue 14722 14722 الجمعة 06 ربيع الأول 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

قال أبو عبدالرحمن: قبل استكمال ما بدأته عن التهريج حول الدستور المصري - وهو همّ مشترك بين أهل هذا البلد أمة ودولة وبين جمهور الشعب المصري المسلم الذي تتلمذ على علمائه أبناء الشعوب العربية والإسلامية-: استكمل التسييس الصهيوني من مركز (راند) أو (مركز البحوث الأمريكية) الذي اعتدى على هويتنا بالتدليس والتسييس معاً في تصنيفه دعوة الشيخ المصلح الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، وقد جرَّها بغمغمة إلى حظيرة (صنع الإرهاب) الذي هو اليوم الشعار العالمي في تضليل الشعوب، فكل الناس يرفضون الإرهاب، فالمراد إذن تأليب الكره العالمي على دعوة الخير والإصلاح باسم (الأصوليين المتشددين الذين قاعدتهم المذهب الوهابي في السعودية).. جاء هذا التصنيف صراحة، ومعناه ضمناً (قاعدة الإرهاب الوهابية في السعودية).. ولم يصطل نار الإرهاب مثل السعودية، ولم يتفرغ لمقاومتها وإطفائها غير الثمار المباركة للدعوة الكريمة التي أحياها الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهي مذهب جمهور أهل السنة والجماعة في أجيال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وليس لابن عبدالوهاب حرْفٌ واحد يمكن أن ينسب إبداعه إلى الشيخ، فيكون مذهباً وهابياً!!.. وعلى هذه الدعوة الإصلاحية الإحيائية قامت أول دولة في الجزيرة العربية على مدى التاريخ في ثلاثة أدوار أليمة نعيش دورها الثالث بأول (دولة إسلامية مدنية) على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى وشعبه الذي ضحَّى بالروح والمال من أجل هويته، وتحقق بالله ثم بذلك ما لم يتحقق قط في جزيرة العرب من وحدة واسعة الأرجاء ثابتة الكيان، ولكل دور من الأدوار الثلاثة ظروفه الأليمة في التعامل مع آلام الواقع وتغيراته، فكان الدور الثالث دور إنشاء (الدولة الإسلامية المدنية) بوعي ديني وعقل سياسي.. والدوران الأولان يواجهان إطباق الخرافة والوثنية في أرجاء العالم العربي والإسلامي، ويستميت في تكريس الخرافة الوثنية عسكرياً بطش الدولة العثمانية في آخر عهدها بعد أن تمكن تسلل الأغيار في تسييسها والتدخل في ملكها قرارها، فكان بذلك التناغم العجيب بين قادة الاستعمار منذ (سادلير) إلى (لويس بلي).. إلى.. إلخ، وبين مندوبي الدولة العثمانية الذين يحكمون بالتقاسم أجزاء الرقعة العربية والإسلامية، وكلا الطرفين يريدان إجهاض دولة الوحدة على شرع الله، والتبادل التحليلي بين الطرفين في جزيرة العرب أن تكون السيادة الاستعمارية على المياه وأقالمها، والسيادة على البر للباشوات.. والنية المبَيَّتة لإسقاط الخلافة الإسلامية يديرها دول الاستعمار والدولة الصفوية، ولهذا كان دور الدولة العثمانية حال ضعفها وقوة حلفائها الظلم الشنيع الذي وقع على جزيرة العرب منذ أول حملة لمحمد علي تتوجَّه بدعم استعماري، ويحمِّسها العزف والموسيقى والمستشارون من الإنجليز والفرنسيين.. وكان الأولى أن تستبقي الدولة العثمانية وجودها بمناصرة (دولة الوحدة على شرع الله) لا الاستعانة عليها بحلفائها الذين يكيدون لها في الخفاء حتى كان السقوط والتجزئة.. هذا هو البطش العسكري الذي يريد الإبقاء على إطباق الخرافة والوثنية، والجناح الثاني الذي يناصر البطش العسكري علماء السوء من أهل القبلة ومن غير أهل القبلة بالتضليل الفكري، والتغييب لهداية (المحَجَّة البيضاء لم تُشب)، فكانت الجماهير العامية ضحية هذا التضليل في التمسك بالخرافة والبدعة والوثنية، والمشاركة في البطش العسكري، فسقط الدور الأول، ولم يسقط طموحه، فتلقَّف الراية كتلقُّف الأخيار من الصحابة رضي الله عنهم الراية يوم مؤتة.. تلقَّفها بوعي ديني ووعي سياسي يظهر من مراسلاته الدويلات، وذلك هو الإمام تركي بن عبدالله رحمه الله تعالى، فبقيت الدولة على الألق الديني المدني حتى كانت الكارثة التي مات فيها غبْناً الإمام عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ الأزهري رحمه الله تعالى، ولم يخرج من أرحام آل الشيخ بعد محمد بن عبدالوهاب مثله ومثل ابنه عبدالله ومثل حفيده محمد بن إبراهيم رحمهم الله تعالى، وأرجو من الله عوضاً كريماً من أصلابهم، فتميّز الدور الثاني بآلام خاصة مختلفة عن الدور الأول، وذلك في بداية الدور الثاني كما تميز بآلام خاصة في نهايته، وسأعرِّج على كل ذلك بإيجاز إن شاء الله، وإن كنت اشرت إلى بعض الشيئ في كتابي (مسائل من تاريخ الجزيرة)، والجامع للآلام الأخيرة جهلٌ بالدعوة الإصلاحية أدخله بعض (المطاوعة) الذين هم أقرب إلى الأمية.. وغيرة إقليمية أذكاها علماء السوء من أمثال دوود بن جرجيس، ووجد سنداً من عبارات غير موفَّقة، وهي إما عبارة مؤرخ عامي كعبارات ابن بشر عن حصار المسلمين للبلدة النجدية الفلانية.. ويا ليت الشيخ عبدالرحمن بن حسن (لما وبَّخ ابن بشر على السجع المتكلَّف برسالة وجَّهها إليه) وبَّخه على ما هو خلاف دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب كهذه العبارات التكفيرية الجالبة العداوات والمِحن.. والفرع الثانيمن تلك الآلام فتاوى المطاوعة الجريئة على التكفير بالجملة حتى وصل الأمر إلى تكفير صبي التوحيد (الإمام عبدالله بن فيصل بن تركي) رحمهم الله تعالى، فعدل الميزان الإمام عبداللطيف الأزهري الذي كبح جماح العالم الرباني (حمد ابن عتيق) بلطف التعبير.. وكل الأعباء السالفة في الدور الأول والدور الثاني أنتجت أموراً غيركريمة في نهاية الدور الثاني.. إلا أن آلام الدور الأول أكاذيب لفَّّقها مربد التميمي وعبدالرحمن الوهيبي وغيرهما، وقد أقنعا الإمام ابن الأمير الصنعاني بأن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب على مذهب الخوارج، وكان تراجعه في قصيدته الدالية مشروطاً بأن يكون ما عُزي إلى الشيخ محمد بن عبدالوهاب صحيحاً (وهو غير صحيح)، وزاد في ترويج الأكاذيب حفيد للصنعاني اسمه إبراهيم لم يكن على مذهب جده السليم من البدع والخرافات، وقد حقّقْت هذه المسألة في كتاب خاص، فسحبته من المطبعة تلبية لرغبة سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله تعالى، ولن أسقط رغبته بعد وفاته وإن كان عصرنا الاليم يقتضي بيان ما هو مفترى على الواقع.. ولا أستبعد أن القصيدة الرائية بديوان الإمام الصنعاني في هجاء معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من دسِّ هذا الحفيد، فإن لم يكن هذا هو الواقع، وذلك احتمال بعيد: فالقصيدة إذن من شعر الصنعاني في بداية حياته العلمية، لأنها لا تليق بمؤلفاته السامقة في نصر أهل السنة والجماعة، وقد أزال اللبس بعده الإمام الشوكاني المتوفى عام 1250هـ المنافح عن دعوة ابن عبدالوهاب الإحيائية الإصلاحية.. والأمور غير الكريمة التي أسلفتها بدأت بأهواء تاريخية ودُحولٍ إقليمية ولَّدها مثل عبارات ابن بشر.. وهي أهواء تكابر في وجود ما هو واقع، وهو تفشِّي الجهالة والخرافة في جزيرة العرب -ولاسيما في المنطقة الوسطى- قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب- بدعوى كثرة العلماء!!.

قال أبو عبدالرحمن: في هذا (إضافة إلى رذيلة الهوى) خطآن جائران:

أولهما: الإسقاط التاريخي للمشاهد الوثنية المتواترة تاريخياً وبالرواية جيلاً بعد جيل، والتناسي لفقر المنطقة الوسطى منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحروب الردة إلى دولة تحكمها مباشرة بشرع الله.

وثانيهما: التدليس بدعوى إجمالية عن وجود العلماء قبل الشيخ محمد بن عبدالوهاب.. ووجه التدليس إهمال واقع الحال في ذلك الوجود، وهو أن أي واحد من أولئك العلماء الفضلاء لا يملك القضاء الملزم أمام تدَيُّكِ أي زعيم في قرية أو منطقة أو قبيلة، وإنما يملكون الإفتاء إذا استُفْتُوا، والخطبة، والتدريس، وعقد الزواج، والتأليف، والرحلة لمقابلة العلماء.. وليس فيهم من قاوم الواقع مقاومة تغيير ولاسيما المشاهد الوثنية، وليس منهم من سعى لإقامة دولة تحمي الشرع، وتعيد الأمر لقضاء العلماء وفتواهم.. ولكن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى صدع بالحق علناً، ومارس التغيير والإنكار، والتمس دولة تحكم بشرع الله وتحميه، ولم يطلب زعامة سياسية باسمه هو.. ووصْفُ دعوة الشيخ بالمذهب الخامس مما لا ينبغي أن يقوله منصف من المخالفين، لأن هذا الوصف كلمة عامي استوحاها مما يوجهه به سادته وكبراؤه منذ داوود بن جرجيس، إذ كان التلميذ صِفراً من العلم.. وقلت «عامية»، لأنها غير تاريخية، فإن أريد المذاهب المتبوعة غير الرسمية للدولة فهي كثيرة كمذهب فقهاء المدينة السبعة.. إلى الليث بن سعد.. إلى ابن جرير الطبري.. وإن أريد المذاهب المتبوعة الرسمية للدولة فهي أكثر من أربعة مذاهب كمذهب أبي عمرو الأوزاعي الرسمي مدة في لبنان ومدة في الأندلس، وكمذهب الظاهرية الرسمي مدة في خراسان والعراق، ومدة في الأندلس في عهد الموحدين، بل وجدتُ في الوثائق وثيقة عن عالم سفياني المذهب، خَلْوتي الطريقة، نجدي البلد.. وهي مما جلبه الدكتور يحيى بن محمود ابن جنيد إلى مكتبة الملك فهد الوطنية.. وإن أريد مذاهب أهل القبلة في العقيدة فالنحل كثيرة أحصاها المؤلفون في النحل.. ثم إن أتباع المذاهب السنية الأربعة الرسمية الباقية الآن رحمهم الله تعالى لم يتقيّد أكثرهم بمذهب إمامه السلفي، فكان منهم المعتزلي والأشعري والماتريدي.. إلخ، ومذاهبهم غير مذاهب الأئمة الأربعة في العقيدة كمالك رحمه الله قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة.. وباستثناء أفراخ اليهود من الباطنية القديمة والطارئة، وباستثناء الممارسة الوثنية العلنية في عبادة القبور مثل (نظرة عين يا حسين): فكل ذلك حراك علميّ كريم لم يخرق صفهم أمام عدوهم، فكلهم هم أهل القبلة.. وكلمة الوهابية والوهابيين التي أطلقها الخواجات -لو صلحت النية في استعمالها بعد ذلك- تعني نسبة إحياء مذهب السلف وإقامدولته في رقعة معيّنة إلى من صدع بذلك وتحمَّل الأذى فيه وهو محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، ولكن منشأ الإطلاق عن تعمّد تدليس وتضليل، لفصلها عن مفهوم السلفية وجعلها نحلة جديدة.. وأريد بدعوى أبناء العصر (السلفية) ما هو مذهب أهل السنة والجماعة الذين قد يصدرعن اجتهادهم الخاطئ ما هو غير سلفي.. وليست المعضلة في صحة الإطلاق اللغة، فالنسبة تكون إلى الاسم المركّب اختصاراً مثل عبدري وعبدلي، وتكون بالنسبة إلى آخر الاسم مثل قادري.. ولا مشاحة في الاصطلاح، وإنما الاعتداد بمعناها ومغزاها، ثم مدى انطباقها على المدَّعى.. ولو صح كتاب (الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية) عن سليمان بن عبدالوهاب لما كان في الأمر عظيمُ أهمية، لأن هناك من عارض ثم وافق، وهناك من استمرت معارضته بمقالاته الرخيصة، وإنما يكون المهم التاريخ لإطلاق كلمة وهابية، والعلم بمن صدرت عنه التسمية التي هي على قصد الصدِّ عما أحْيتْه الدعوة من سيرة السلف الصالح.. وما هذه الدعوة الإصلاحية إلا الظلال الوارفة لقادة الدعوة وحماتها الذين أظهر الله صدق نيتهم بتعاقب دولتهم على الصفاء خلال ثلاثة قرون، والله المستعصم أن يجمع أحياءهم وأعقابهم على ما أصلح الله به حال أسلافهم، وأن لا يكون لسموم التعددية متنفّس في وجودهم أمة ودولة.

قال أبو عبدالرحمن: ولا أعلم أي مصدر مكتوب قديماً التبست فيه دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى بالوهابية الإباضية، وما دُوّن قط هذا اللبس عند أهل المغرب سلفاً ولا خلفاً.. وبعض المنتسبين إلى القبلة -وهم أشد الناس بُعداً عن دين الله- يدعون إلى السلام والتقارب، ولا معنى لذلك إلا الدعوة إلى مسالمة أهل الحق لهم مع إبقاء أهل ا لسنة على أشد ما كانوا عليه من تفرُّق بسبب الذين ظاهروهم وباطنوهم على التصديق الهزيل، فكان ذلك غباء أمام تقيّة منافقة.. وأشد مظاهر هذا التفرق: إيذاء حرية الأكثرية من المسلمين، وتقصُّدٌ مخصوص يتناول هذه البلاد ديناً ودولة وعلماء ورعية.. وتعامل أمتنا دولة ورعية مع أهل القبلة كان بالحجة والبيان لا غيركما ورد في حوار القاضي أبي إسحاق الزرعي الإمام سعوداً الأول عن عدم استلزام إثبات الاستواء للجسمية.. والفصل في ذلك أن الاستواء لله سبحانه ثابت بنصوص القرآن لكريمة، وأما الجسمية فلم يرد باسمها نص، وما ينسب إلى الله سبحانه تفصيلاً فإنما هو على التوقيف، ولكن المنهج المحقَّق المُحكم ما قرره الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أن المراد إبرازُ المعاني، فإن أراد النافي نفي ما هو ثابت شرعاً لم ننفه، وإن أراد إثبات ما هو منفي شرعاً لم نثبته.. وكل ما ثبت لله سبحانه فله فيه الكمال المطلق بلا تحديد كمّي ولا تشبيه كيفيٍّ.. ويُحمد لبلادنا ودولتنا -وإن كان في ذلك تقصير إعلامي- خفوتُ ما يُباهي به بعض الأشقاء من مقاومة الاستعمار، والدعوة إلى الوحدة العربية الإسلامية.. وواقع الدولة السعودية منذ قيامها تحقيقٌ عمليٌّ للوحدة العربية الإسلامية، فلم تقم دولتها على أنقاض دولة موحّدة، وإنما أقامت الوحدة على أنقاض تجزئة كثيرة قروياً وإقليمياً وقبلياً.. وكانت في جهاد مستمر مع قوى الاستعمار -لا في رقعتها التي لم تعرف الاستعمار-، بل قاومت النفوذ الاستعماري في السواحل المجاورة، وكادت تحقِّق وحدة أكبر على الرغم من قوة العتاد الاستعماري.. لولا إحراجها بمعاهداتِ حماياتٍ أجنبية من دويلات التجزئة.. ومن التضليل وتبديع دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب تجديد النقد التهويشي غير العلمي الذي وُجّه إلى الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وهو أن تقسيمهما التوحيد ثلاثة أقسام بدعة غير معروفة.

قال أبو عبدالرحمن: هذا التهويش مثل تهويش من قد يقول: (تسمية من وقع منه الفعل فاعلاً، وتقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف وموضوع، وذكر تنقيح المناط، ولازم المذهب، وتقسيم الماء إلى طهور وطاهر ونجس، والكلام عن حدث أصغر وأكبر.. كل ذلك بدعة، لأن العرب لم تقله، ولم يقله الشرع!!)، وهذا أيضاً لازم ابن تيمية وابن القيم عندما حكما ببدعية التقسيم إلى حقيقة ومجاز.. وأما المحققون فيعلمون أن المعاني المستقرأة من لغة الشرع وأحكامه ومن لغة العرب تحتاج إلى اصطلاحات علمية تميّزها، وأن العبرة بثبوت معانيها عن العرب أو الشرع، ووحدانية الله سبحانه تم استقراؤها وفق أحكامها، فوجدت ثلاثة أقسام لا رابع لها، ولا ينقص منها شيئ:

أولها: توحيد ربوية يعني الاعتراف بأن الله هو الخالق الرازق المالك.. إلخ سبحانه، ويُسمى الإيمان بأفعال الله في خلقه.. وهذا من شروط الإيمان، ولكنه لا ينفع صاحبه وحده كما ذكره الله عن مشركي العرب.. وهو لا ينفع صاحبه وحده لو جُرّد لوحدانية الله في تلك الأفعال، فكيف إذا حصل مع هذا الاعتراف سلوكٌ بشري ينفي دعوى الاعتراف بالوحدانية.

وثانيها: توحيد الله بصفات الكمال، وهذا هو توحيد الله سبحانه بما يتصف به في نفسه، فله الكمال المطلق في صفاته، كما له الكمال المطلق في أفعاله الصادرة عن أسمائه الحسنى، ومن لا يعتقد هذا الكمال فلم يُوحِّده، لأن من اعتوره النقص فليس واحداً في الكمال، وليس إلهاً على الحقيقة.

وثالثها: توحيد الله بأفعالنا وأقوالنا ونيَّاتنا في أداء ما طلبه الله منا أداء، وتركِ ما طلبه منا تركاً، والتوسع في اختيار ما أباحه لنا، فهذا هو توحيد الألوهية، وهو مقتضى توحيدي الربوبية والأسماء، ومن صرف شيئاً من ذلك لغير الله فقد كفر، ومن صرفه لله ولغيره فقد أشرك، فوحدانيته سبحانه بأفعالنا تبع لوحدانيته في أفعاله وأسمائه الحسنى على الكمال المطلق.. وهذه نصوص الشرع حاضرة، وهذه الأقسام بيِّنة منصوص على معانيها.. ثم هل يوجد في نصوص الشرع توحيد رابع يخرم هذا الاستقراء؟.. إنه استقراء علمي لأحكام ومعان شرعية محصورة باصطلاح علمي من ضرورات بيان الدين وتعليمه.

قال أبو عبدالرحمن: ومن الجفاء تشديد بعض علمائنا الربانيين (بمحض التقليد) على هجر أهل البدع، وهذا والله ليس على إطلاقه وإن قال به جلّة من العلماء، لأن الاعتداد بالدليل لا بالمكانة العلمية للقائل، ولأن الهَجْر يحكمه المعادلة بين واقع قوة الدولة المسلمة أو ضعفها، ويحكمه المعادلة بين المصالح والمفاسد، بل الواجب أولاً على العالم والعامي أن يتعاملا مع البدعي بالحسنى، وأن يَدْعُوَا له بظهر الغيب أن يهديه الله، وأن لا يحصل منهما بغضاء ولا شحناء، وأن يكتفيا بما يقرُّه ولاة الأمر بعد معادلة دقيقة جداً بين المصالح والمفاسد، فإن كان عامياً اعتزل مجالس بدعتهم -لا مجالستهم بإطلاق-، خوفاً على نفسه لعاميته، مع حرصه على تحرير متفق عليه لا تناقض فيه ولا إحجام فيه من أحد الطرفين عن المعمول به في السيرة العملية، وتحرير ما هو ثابت عن الشرع لفظاً ودلالة بيقين أو رجحان.. وإن كان عالماً جالسهم في بدعتهم بمقدار ما يعلم به حقيقتها، حتى لا يظلمهم بنسبته إليهم ما ليس عندهم، فإن أفاد الحوار العلمي والفكري والوعظ استمر في موادّتهم، وإن رأى عناداً وحمية انسحب برفق، ودعا لهم بهداية البيان، وهداية الفهم، وهداية التوفيق والمعونة، وتعامل معهم بما لأهل القبلة من حق التواصي على الخير، وما يقتضيه واجب العدل والإنصاف والقدوة الحسنة.. ولا يجوز الاستنكاف عن الصلاة خلفهم إذا كان بينهم ما ظلت الصلاة خالية من البدعة، ولا يضره مخالفتهم لمذهبه في الفروع، فيصلي خلف من يجهر بالبسملة في الصلاة، ويجهر معهم وإن كان مذهبه الإسرار، لأن الخلاف شر.. وواجب الطرفين حُسْنُ وصدق القصد في التعبّد لله بمراده، فلا يتمسك بنص شرعي ويُلغي نصوصاً شرعية، لأن دين الله يؤخذ من نصوصه مجتمعة لا بالشغب بنص واحد.. ومن تمسك في مذهبه بدليل فليحاسب نفسه تجاه الأدلة المقابلة: هل ما أخذ به من دليل يقاوم بصحة ثبوتٍ ودلالة ما تركه من أدلة؟!.. وجماع البدعة في الدين هو التعبد لله بغير مراد الله تحقيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وتحقيقاً لما أنتجته براهين الشرع من نتيجة ضرورية، وهي: أن الله لا يُعبد إلا بما شرع.. وجماع البدعة في الدين أيضاً كل ما نافى مدلول قوله تعالى قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31 سوة آل عمران)، فخلاف الاتباع ابتداع.. وقوله تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) سورة الأنعام)، فوصية الله أن خلاف سبيل الله افتراق ببدع متعددة، ولهذا كان لكل شيخ طريقة.. وقول جابر رضي الله عنه في صحيح مسلم وغيره: «خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»: قاعدة تُظهر أن نصوص الشرع والسيرة العملية لسلف الأمة هي الفاصل بين السنة ومحدثات الأمور من البدع، وأن البدعة بداية التفرّق والتجزية.. وأما تغيير المُنْكر فله شروطه مع التزام المعادلة بين المصالح والمفاسد، والتصميم على الدعوة السلمية ببيان الحجة والصبر على الأذى.. ولن يكون ذلك إلا بأهلية فكرية علمية ورفق وتودّد، فالداعية يحب الخير لأمته كما يحبه لنفسه.. وتقسيم البدعة إلى مستحسن ومستقبح كلام غير محقق وإن قال به جلّة من العلماء، وانظر على سبيل المثال كتاب البدع والحوادث للحافظ أبي القاسم عبدالرحمن بن إسماعيل المقدسي بتحقيق بشير محمد عون - ط1 بالطائف - مكتبة المؤيد عام 1421هـ ص82 - 33.. والعجيب أنه ذكر الاحتفال بالمولد النبوي بإربل، ثم عدّه من البدع الحسنة، وعدَّ من البدع الحسنة التصنيف في العلوم النافعة مع أن ذلك سنة مأخوذة من أمر الشرع بإبلاغ الدين، وبقاعدة ما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع.. وعدَّ من البدع المستحسنة أمر رسول الله بلالاً رضي الله عنه بصلاة ركعتين عند كل وضوء!!.. فكيف يكون أمر رسول الله بدعة؟.. وإلى هذا نهج محمد بن مقبول الأهدل في كتابه إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة - تحقيق عبدالله المنشاوي، ومحمد عزالدين الغرياني في نظرية البدعة - القاهرة - مكتبة القاهرة، عام 1417هـ، ص 51-91 (ضمن سلسلة النظريات الفقهية).. مع العلم أن البدعة في المعرفة الشرعية - بعين بعد الراء دون باء قبل الشين - محرَّمة بإطلاق، فمنها كفر، ومنها فسق.. والبدعة في المعرفة البشرية (بباء بلا عين) مستحسنة، لابتكار صُنْعِ، أو اكتشاف غائب، فإن فشل الابتداع كان في نصاب ما نفته التجربة، وكفى عن إعادتها.

قال أبو عبدالرحمن: ولا يحقُّ للداعية المسلم أن يحمل البدعة على سوء القصد ابتداء، لأن العامي يتلقى تلبيساً بتصحيح أحاديث باطلة، وتأويل نصوص صريحة، وتغييب نصوصٍ لا حيلة في تأويلها، وإشاعة منامات وحكايات لا يمسك منها الغربال شيئاً.. والداعية المسلم المحبُّ الخير لإخوانه يجب أن يكون صبوراً على الأذى، لحوحاً على طلب الصدق بأن يُظهر ذو البدعة الواقع الصحيح لممارسته، ولا يُخفي واقعها السيئ بظاهرة من التدليس، فلا حياء من عباد الله في إظهار واقع الممارسة بصدقٍ لا تقيَّة فيه، ومن ثمّ يتلقى ما عند الدعاة من بيان الدين عن حذق نصوص الشريعة ثبوتاً ودلالة، وجلاء السيرة العلمية لخير القرون، وعدم الشّغب بما أسقطه التحقيق العلمي والسيرة العملية من الوهم والاجتزاء كمعارضة الأخبار الصحيحة الصريحة عن تعليل صيام يومي الاثنين والخميس تعليلاً واحداً، فهل يكون صيام يوم الخميس لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد فيه؟. وهل مولده عليه الصلاة والسلام أبلغ من بعثته، ثم من إكمال الله له الدين قبل أن يلقى ربه بأبي هو وأمي وعليه أفضل الصلاة والسلام، وهل شرع الله لأمته الاحتفال بالمولد وبما هو أبلغ منه؟؟.. وهل ننافق بأننا أعظم حُباًّ له من أصحابه الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وهم لم يفعلوا شيئاً من الموالد، ولم يجعلوا المولد (جوقة)، ولم يزيدوا على ما شُرع لهم من عيدي السنة وعيد الأسبوع.. إن الداعية الصادق المحب الخير لبني أمته لا يقطع حبل الوصل، ولا يملّ من البيان والحوار، فإذا لم يجد إلا العناد والحمية واتباع الهوى: وجب عليه أن يعتزل مشكوراً، ويُعلي منار العلم والفكر في مؤلفاته بلا مجاملة ولا عُنف، ويُلحف في دعاء ربه بأن يهديه ويهدي إخوانه إلى العلم الصحيح والعمل به.. وليس من الصحيح تحميل المخطئ مسؤوليته، والتخلي عن ملاطفته، ومساعدته إن كان محتاجاً بما يقدر عليه، مع التحاور الودود بأن كل واحد يرجو استيضاح الحق والعمل به.. وليس من الصحيح دعوى أن «الحجة قد بلغت الناس بنزول القرآن الكريم فقط»، لأن بلوغ الحجة وصول النص ثابتاً نقله عن مُنزّله جل جلاله، وهذا حاصل لنقل القرآن الكريم بحمد الله إلا بعض القراءات غير التواترية، كما أن بلوغ الحجة أيضاً مشروط بفهم المعنى وصحة الدلالة على المراد.. ولقد قال أبو العلاء المعري -وصدق وهو كذوب فكرياً، لتناقضه عمداً، وهذه هي ديانة فرق الباطنية-:

وكم من فقيهٍ خابطٍ في ضلالةٍ

وحجته فيها الكتاب المُنزَّلُ

وما هو بحاجة إلى الكتاب المنزل ما دام قد هجا كلّ الأديان، وحكم بأنها قول زور سطّره الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنها مكرٌ من القدماء؟!!.. وقلت: (صدق وهو كذوب)، لأن هذا هو الواقع، وما اختلف أهل القبلة اختلافاً يجرح الملة إلا عن نصّ شرعي ثابت صريح قابلوه بصرف دلالته بحرية سلوكية لا يُقرّها العلم والفكر، فهذا ينسب إلى النص ما ليس فيه، وهذا يردُّ القطعيَّ بالظني، وهذا لما أسقط دلالة الصحيح الصريح اضطر إلى الاحتجاج بالحديث الباطل، فلا ينبغي للداعية المسلم الاتكالُ على مقولة: (القرآن بلغ الناس)، بل لا بد من صدر أريحي، وإصغاءٍ مؤدّب، وصبر على بيان الحق ودفع الشبه بقلب ودود ومشاعر هادئة، فإذا لم يبق إلا الانقطاع والعنادَ والحَمِيَّة فلينصرف عن القوم بسلام، ويُلحِفُ في دعائه ربه أن يهدي ضال الأمة.. والذين فهموا البدعة على أن منها حسناً وقبيحاً فإنما فهموا كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه على غير وجهه عن التراويح: (نعمت البدعة) كما في صحيح البخاري وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان.

هذه هُويَّتُنا (2-3)
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة