ارسل ملاحظاتك حول موقعناMonday 28/01/2013 Issue 14732 14732 الأثنين 16 ربيع الأول 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

متابعة

في نحو عام 1347هـ، وفي حي الخشع بمدينة أبها، رزق الله أسرة سالم بمولودة، وكانت باكورة ذريتهم، وجرياً على العادة في عسير تمت دعوة الجيران وبعض الأقارب بهذه المناسبة، وحضر المدعوون مهنئين ومباركين، وكان رب الأسرة سالم في غاية الفرحة والسرور وهو يستقبل ضيوفه ويرحب بهم، وعندما دعاهم لتناول الطعام قال أحد الجيران: لن أتناول طعامك يا سالم حتى تلبي طلبي؟ فأجابه: ما هو طلبك قال: أن تسمي المولودة باسم زوجتي (فريدة)، فقال له سالم أبشر، وبعد وداع ضيوفه أخبر زوجته بما دار بينه وبين جاره (التركي) وأبدى رغبته بأن يسمي ابنته باسم إحدى قريباته؛ لأن اسم فريدة غير مألوف في عسير، فما كان من زوجته إلا أن شجعته على الوفاء بوعده.

وتمر أعوام وأعوام وتكبر هذه (الفريدة)، وتتزوج وتنجب، وتصبح مضرب المثل في بر الوالدين وصلة الأرحام والجيران، ناهيك عن الكرم، والحكمة، ورجاحة العقل، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يتوفى زوجها (الوالد - رحمه الله -) وأولادها الأربعة في سن الطفولة، وأمها طاعنة في السن، وأخوها يعاني من مرض عضال، ومع كل هذا الفقد لرفيق دربها، ومع كل هذه المسؤوليات الكبيرة التي فاجأتها لم تيأس، ولم تتوان، بل توكلت على العلي القدير، وبهمة عالية قد يعجز عنها الكثير كانت الأنموذج الأمثل في البر بوالدتها، ورعاية أخيها، وتربية صغارها وكانت تتابع دراستهم، وتسهر معهم ليالي الاختبارات، وتشجعهم، وتوفر لهم البيئة المحفزة، حتى أن اليوم الأول من أيام الاختبارات أصبح يوم عيد حيث يلبسون الجديد من الملابس.

أما حكاياتها قبل النوم وتوجيهاتها فقد كانت مصدر إلهام وسعادة وأمل وترسيخ للقيم الفاضلة، وكانت - رحمها الله - تتابع التزام أولادها بالصلاة في المسجد، وتتابع سلوكهم، وتصرفاتهم حتى جعلت من هؤلاء الصغار مضرب المثل في الجد والمثابرة، وكم كانت فرحتها غامرة عندما كان أحدهم ضمن العشرة الأوائل في امتحان الثانوية العامة على مستوى المملكة حيث حصدت ما زرعت يرحمها الله.

ثم انتقلت الأم مع أولادها إلى الرياض عام 1391هـ ليكملوا دراساتهم الجامعية، واستمرت تحفزهم وتتابعهم وتحثهم على إكمالهم دراستهم العليا فكان لها ما أرادت.

وعندما حلت الوالدة في الرياض سرعان ما ألفت مجتمعها الجديد، وألفها، وغدت دارها مقصداً لأهلها ومعارفها وجيرانها، وكما هي عادتها استمرت في المبادرة بالتواصل مع الآخرين، وكان أولادها وأحفادها إشفاقاً عليها يقولون لها «يا أماه، أنت الكبيرة وأنت الأحق بالزيارة» فترد في حزم بأن «صلة الجار والأقارب واجبة، وحثنا عليها الدين، وما دمت أستطيع أن أصلهم فلن أتوقف»، وقد وفت بذلك حتى وهي على الكرسي المتحرك في سنواتها الأخيرة؛ حيث كانت تشارك الآخرين في أفراحهم وأتراحهم، تزور الجيران والمرضى، وتواسي المصابين والمكلومين.

وكانت - وهي لا تقرأ ولا تكتب - تحمل في حقيبتها مذكرة الهاتف وقلماً فتطلب منا دائماً تسجيل أسماء معارفها وهواتفهم، وتطلب الاتصال بأهلها وأقاربها وصديقاتها.

لقد كانت والدتي - رحمها الله - لا تتحدث عن القيم فقط، بل تطبقها قولاً وفعلاً، وتتمثلها في حياتها وحياة أسرتها؛ فكسبت محبة من عرفها ومن سمع عنها، حتى أن العديد من الأسر اختاروا لبناتهم اسم (فريدة) تعبيراً عن حبهم لها وإنسانيتها العظيمة، فأصبح هذا الاسم الذي كان غريباً يوم ولادتها اسماً محبوباً مألوفاً، سمى به الكثير تقديراً لها فكثرت (الفريدات)، وكانت تولي (مسمياتها) اهتماماً خاصاً، وتحرص على إكرامهن وإهدائهن والسؤال عنهن.

أما عن الضيف وإكرامه فحدّث ولا حرج، فمنذ يصل حتى يغادر وهي تعبر عن فرحتها به والترحاب به، ويشعر كل من قابلها صغيراً أو كبيراً بأنه الوحيد الذي ينال رعايتها ويحظى باهتمامها.

وكانت - غفر الله لها - تغرس فينا القيم وتعززها بالأمثال الشعبية قائلة «يا أولادي، العلم الطيب ما يجي بهون»، وتحثنا على تكوين الصداقات الصالحة، وتقول «يا أولادي، ابنوا لكم في كل واد قصراً».

ومن صفات الوالدة - غفر الله لها - أنها كانت تعتمد على نفسها في كل شؤونها، وتمقت كثيراً الاتكالية والكسل.

وقد حظيت الفقيدة - رحمها الله - بتقدير خاص من إمارة منطقة عسير - وفقها الله - ففي حفل مهيب لجائزة أبها للتميز كان موعد الوالدة مع (جائزة الأم المثالية)، وعندما تقدم أبناؤها الثلاثة لاستلام الجائزة من يد سمو الأمير خالد الفيصل - حفظه الله - غمرهم شعور بالفخر، والاعتزاز، لم يشعروا بمثله حتى وهم يستلمون شهاداتهم العليا، وستظل هذه الشهادة وساماً على صدورهم وتاجاً على رؤوسهم.

ماذا أقول عنك يا أماه، وعن سيرتك العطرة، ماذا أقول عن حبك، وماذا أقول عن فقدك وأنت من كنت تنيرين البيت والمكان والنفوس بروحك وخلقك، بصلاتك وصيامك.

لقد كنت يا والدتي فريدة اسماً ومسمى، لقد كنت مدرسة لكل القيم الفاضلة وعلماً للمثل الرفيعة وأنموذجاً يحتذى ليس لأسرتك ومحبيك، بل لمجتمعك.

وإن الحديث والقلم ليعجز عن رصد مآثرك وسيرتك، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ .

لقد كانت الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم الاثنين الثامن عشر من شهر صفر 1434هـ هي موعد انتقال روحك إلى بارئها، فرحمك الله رحمة الأبرار، وغفر لك، وأسكنك فسيح الجنة، وجمعنا بك في الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، وأعاننا وذويك على الصبر واقتفاء أثرك والاستنارة بسيرتك، وحسبنا أنك ربيت فأحسنت، وتحملت أمانة فوفيت، وضربت مثلاً حسناً لبنات مجتمعنا وأمهاته؛ فأثابك الله على ما قدمت وأخّرت وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة فنقول: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا أمي لمحزونون.

ابنك/ مستشار وزير التعليم العالي - وكيل الوزارة لكليات المعلمين سابقاً

عندما تكون الفقيدة.. فريدة
محمد بن حسن الصائغ

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة