ارسل ملاحظاتك حول موقعناFriday 01/02/2013 Issue 14736 14736 الجمعة 20 ربيع الأول 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

منذر بن سعيد البلوطي، عالم وأديب، ولد في قرطبة عام 273 هجرية، وتولى القضاء فيها سنة 339 هجرية، وتوفي سنة 355 هجرية، تراجمه موجودة في أمهات الكتب المعنية بالأندلس وتاريخه، ومنها: قضاة قرطبة، ومطمح الأنفسي، وبغية الملتمس، وتاريخ قضاة الأندلس، وجذوة المقتبس، وقد عاش في عهد عبد الرحمن الناصر، أو عبد الرحمن الثاني، كما يطلق عليه بعض المؤرخين لا سيما غير العرب وهو أشهر حكام الأندلس، وأطولهم بقاء في الحكم حيث حكم فترة زادت عن خمسين عاماً، كما أنه تولى أمر الأندلس وعمره واحد وعشرون عاماً، رغم أنه كان في وقته من أعمامه من هو أسن منه.

وقد نقل لنا ابن حيان، شيخ مؤرخي الأندلس، في كتابه المشهور (المقتبس) كما يذكر ذلك أبو يحيى ابن عاصم الغرناطي، قصة جميلة عن هذا القاضي الصلب في أحكامه، والقصة أيضاً موجودة في كتاب نفح الطيب للمقري، وكذلك كتاب مطمح الأنفس، وتناقلها بعدهم من شاء من المؤرخين.

وتقول القصة إنه وقع للقاضي المذكور موقفاً مع الخليفة عبد الرحمن الناصر، وتعرف بقضية أيتام أخي نجده، حيث توفي زكريا أخي نجده، وترك أيتاماً صغاراً، أضحى القاضي منذر مسؤولاً عنهم، وقد ورث لهم والدهم داراً تتصل بحمام للعامة له غلة وافرة، وأرادت إحدى حظايا الخليفة الناصر واسمها (تكرم) أن تشتري داراً ووقع اختيارها على دار هؤلاء الأيتام، وكانت تريد أن تملك الدار، وكذلك الحمام الذي سيعود عليها غلة وافرة. فأرسل الخليفة عبد الرحمن الناصر من قوّمها بثمن أقل من قيمتها الحقيقية السائدة في السوق في ذلك الوقت، وفاوض مندوب الخليفة الوصي على بيعها، فذكر أنه لا يجوز إلا بأمر القاضي منذر ومشورته، فأرسل الخليفة إلى القاضي بوضح فيه رغبته في شراء منزل الأيتام لإحدى نسائه قائلاً: إن البيع لا يجوز إلا من وجوه ثلاثة: منها الحاجة، ومنها الوهي الشديد، ومنها الغبطة، فأما الحاجة، فلا حاجة لهؤلاء الأيتام إلى البيع، وأما الوهي فليس فيها وهي، وأما الغبطة فهذا مكانها وقيمتها في السوق معلومة، فإن أعطاهم الخليفة ما تستوفي به الغبطة فلا بأس بالبيع، وإلا فلا، فنقل رسول الخليفة قول القاضي إليه، فأظهر الخليفة زهده في شراء الدار، لعل ذلك يجعل القاضي يتراجع عن رأيه ويبيعها بالقيمة التي تم تقويمها بها من قبل مندوبه، وخشي القاضي أن تلح محظية الخليفة عليه، وتؤثر فيه، فيتصرف تصرفاً قد يضر بمال الأيتام، فلا يحصلون على القيمة الحقيقية للدار، فما كان من القاضي إلا أن أمر وصي الأيتام أن ينقض الدار، ويبيع أنقاضها، وكانت قيمة أنقاضها أكثر من الثمن الذي قوم به مندوب الخليفة بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها، فذكر الوصي لحراس الخليفة أن فعله ذلك تم عن أمر القاضي فأرسل الخليفة للقاضي، منذر بن سعيد، وقال له: أنت أمرت بنقض دار أيتام أخي نجده؟ فقال له: نعم، قال له، وما دعاك إلى ذلك؟ فقال أخذت فيها بقول الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا}. ولم يقدرها مقومك إلا بكذا وكذا، وبذلك تقلق وهمك، وقد تحصل من أنقاضها أكثر من ذلك بكثير، وبقية القاعة والحمام زيادة على ذلك للأيتام، فصبر له الخليفة الناصر على ما أتاه من ذلك، وقال له نحن أول من ينقاد إلى الحق، فجزاك الله عن أمانتك خيراً.

أقول: في هذه القصة تجسيد لبعض التصرفات المجحفة والمحزنة، لمن تولى شيئاً من أمور الناس، فمال إلى إنقاص حق يستحقونه كما فعل مقوم الخليفة، وهذا يمكن أن يقع في زماننا هذا ممن أعطاه الله مكاناً يقضي به حوائج الناس، فإن من الصواب والعدل أن يتحرى الإنسان الحق، ويلتمس ما يبرئ ذمته، ويحفظ للناس حقوقهم، حتى وإن غلبوه في شيء يسير، فإن من العجب أن هناك من يعسر في أمور الناس أمراً ميسراً، ويضيف عليهم طريقاً واسعاً، ليس إلا لخلق جبل عليه، أو حسد كامن بين جنبيه، والأمر الآخر قوة القاضي وصلابته في الحق وتلمسه لمصلحة الأيتام ناسياً ما قد يصيبه من ذلك، والأمر الثالث انصياع الخليفة للحق، وانقياده له، وبوجود هذا الخليفة وأمثال هذا القاضي كانت الأندلس في زمنه في عصرها الذهبي حتى أن الوفود الأوروبية تتقاطر عليه تطلب وده.

نوازع
قاضٍ أندلسي
د.محمد بن عبد الرحمن البشر

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة