Al-jazirah daily newspaper
ارسل ملاحظاتك حول موقعناSunday 10/02/2013 Issue 14745 14745 الأحد 29 ربيع الأول 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

شاهد عيان

الجزيرة تنشر تقارير من داخل الأراضي السورية - الحلقة الرابعة
إدلب تبكي زيتونها.. وترثي أشجارها المقطوعة

رجوع

إدلب - سليمان الأسعد:

قصص حزينة تلك التي يعيشها السوريون كل يوم، يروونها كحاضر حي، ويعيشون تفاصيلها كجزء منها لا كمعاصرين لها فحسب، هي في الواقع تاريخٌ يُصنع لحظة بلحظة، شهوده أحياء مثقلون بالأسى والألم، يعانون يومياً أكثر من مرة ، ويبكون من فقدوا في هذه الرحلة الطويلة، يحاولون إكمال طريق لا يعرفون تماماً أين وكيف سينتهي، ولكن داخلهم إيمان راسخ بأن هذا الطابع الملحمي لحياتهم الحالية سيكتب لهم قصة حياة جديدة ذات يوم.

لكل سوري يسكن تلك البلاد قصة مع هذه الثورة، ولكل مدينة رحلة قطعها أبناؤها منذ صرختهم الأولى في سبيل الحرية الموعودة، إنها منظومة من المشاهد التي تغيرت بالكامل على مستوى المعيشة والمعطيات والواقع اليومي، فغيرت في ظرف أيام فقط طبيعة الحياة بفعل الظروف الصعبة، وعادت بالزمن إلى قرون ماضية حيث ليس ثمة غير خيارات بدائية تكفل الحد الأدنى الممكن للبقاء على عنق زجاجة الوجود، «الجزيرة» تنقل لكم في هذه السلسلة فصلاً من هذا التاريخ، بما يستحقه الأمر من تسليط الضوء على كواليس إنسانية وأخلاقية واجتماعية قد لا يطلع عليها المتابع للعناوين الرئيسة في الأزمة السورية، وكذلك تتبع المواقف البسيطة التي عايشها وتعايش معها الناس، والتي جعلت منهم أبطالا على طريقتهم في أسلوب تعاملهم مع مايحدث بشجاعة لا تقل عن شجاعة من تصدروا مشهد المواجهة العسكرية مع قوات النظام، في الحالتين لم يدخل المستحيل في قاموس التصرف، وفي الحالتين لا معنى لكلمة «استسلام».

لا يخفي أبو حسان حزنه وهو يتحدث عن شجرة الزيتون التي اضطر لقطعها في ليلة قارسة كي يلقي أخشابها الثمينة تباعاً في المدفأة، فيحمي أطفاله المرتجفين من لسعة برد لا ترأف بأجسادهم الصغيرة.

هي إدلب الخضراء، كما يسميها السوريون، وهي موطن الزيتون في البلاد التي تحتل المرتبة الخامسة عالمياً في إنتاج «الشجرة المباركة» التي يبالغ سكان المحافظة في تقديسها، كما نفهم من أبي حسان، وهو أحد سكان تفتناز بريف إدلب: «الزيتونة بالنسبة لنا كأولادنا، نحميها ونرعاها ونخاف عليها، وأنا اضطررت أن أضحي بأحد أبنائي كي أحمي الباقين!».

ولا يكاد الأدالبة (أهل إدلب وريفها) يتركون متراً مربعاً دون غرسه بفسيلة زيتون، فالبساتين الخضراء هي أكثر ما تقع العين عليه في تلك المحافظة التي اكتسبت صيتاً واسعاً في جودة زيتها الصافي.

والمصيبة الكبرى، كما يقول أبو حسان، أن زيت الزيتون، وهو الثروة الأهم في المحافظة، أصبح يستخدم للإضاءة: «وهي الطريقة التي كان أجدادنا يستضيئون بها في الليل».

وبسبب التعلق الشديد، اختار أبو غنّام ألا يقطع أشجار الزيتون في بستانه العامر، مفضلاً أن يلجأ إلى قطع أغصان يُمكن للشجرة أن تعوضها في العام المقبل: «مع أن هذه الطريقة لا تنتج حطباً كافياً، لكنها الأفضل كي لا أخسر ثروتي النفيسة التي أعتاش منها مع أولادي».

ويرى أبو غنام أن حاله أفضل من غيره: «أشكر الله أن لدي بستاناً، فهناك من يضطر إلى قلع الأبواب والشبابيك غير الضرورية في بيته، أو التسلل إلى الغابات وقطع الأشجار».

وبعد أن هجر السوريون، منذ زمن، مدافئ الحطب وبدؤوا يعتادون استخدام المازوت (الديزل) كوقود للتدفئة، عادوا الآن إلى الخشب الذي يبدو متوافراً بالمقارنة مع هذا المشتق النفطي الذي يقلّ وجوده في الظروف الحالية، كما يشق على رب الأسرة شراؤه مع وصول سعره - حال وفرته - إلى 180 ليرة (1.8 دولار تقريباً).

ورغم المعاناة التي بدت على وجهها حين شاهدتها تطبخ على الحطب خارج بيتها، حاولت أم أيمن أن ترقع تعاستها بتصنّع المرح: (أنا الآن أستعيد ذكريات طفولتي مع جدتي!)، وتضيف بحسرة: (الغاز أصبح نادراً، وهو سلعة مكلفة حين يتوافر، لذلك نحن مضطرات لاتباع الطريقة القديمة في الطهي).

وتروي أم أيمن أن المزارعين اعتادوا أن يطعموا المواشي بقايا الزيتون وأوراقه التالفة التي يسمونها (الشحالة): «الناس الآن يضنون بهذه النفايات ويلقونها إلى النار كي يوقدوا المدافئ».

وقبل أن أغادرها، تبتسم بزهو: «صدقني.. الطعام يصبح ألذ حين يطبخ على الحطب، فهل لديك الوقت لتنتظر نضجه؟».

ولم يطل بي الوقت حتى ندمتُ على الاعتذار عن دعوتها حين توقفت لتناول فلافل في مطعم يعد وجباته على الحطب بعد أن شقّ عليه تأمين الغاز يومياً، فرغم أن الوجبة كانت لذيذة ومختلفة المذاق، تملّكني اعتقادٌ أن طعام تلك السيدة الطيبة سيكون أشهى!.

وفي منطقة بين الريفين الإدلبي والحلبي، بدت الغابة الطبيعية (الأحراش) التي زرتها قد شهدت «مجزرة شنيعة» أتت على معظم الأشجار التي لم تجد من يرحم عمرها الطويل وشيبتها الخضراء، إذ يقدّر عدنان، الذي يسكن في قرية مجاورة، عمر بعضها بمائة سنة: «تلك الأشجار المعمّرة كانت تؤنس المنطقة، والناس اعتادوا أن يتنزهوا هناك في نهايات الأسبوع.. أتحدث عن أيام الرخاء!».

ويشير عدنان إلى أن حادثة الغابة هذه تشير إلى نية الاتجار: «إذ لا يعقل أن يقتطع هذا العدد كله في ليلة واحدة على سبيل الاستخدام الشخصي».

وفي إحدى القرى القريبة، أرى حزمة من الحطب معقودة بحبلٍ محكمٍ يجرها طفل (في العاشرة) أنهكه السير الطويل من الغابة وهو يحث خطواته كي يبلغ البيت قبل حلول الظلام ويشحن المدفأة بغلة الحطب التي تكفي يومين مع قليل من التقشف وترشيد الاستهلاك.

وتلك حال فئة عريضة من سكان الأرياف الشمالية الذين لا يملكون بساتينهم الخاصة، فلم يجدوا حيلة يقاومون بها البرد في هذا الشتاء العصيب إلا أن يتجهوا إلى الأحراش المحيطة كي يقتطعوا أشجارها، كما يقول أحمد، أحد سكان معرة مصرين في ريف إدلب: «نعلم أن هذه الأشجار ملكية عامة وأن قطعها محرم في الإسلام، لكننا مضطرون، والله يبيح للناس المحظورات وقت الضرورة».

لكن مهند عيسى، قائد لواء شهداء إدلب التابع للجيش الحر، يأسى على المنظر المريع الذي انتهت إليه بعض الأحراش، على حد قوله: «رغم تقديرنا لهذه الثروة الوطنية، لكننا لا نملك أن نمنع الناس من الاحتطاب في حدود الاستخدام الشخصي، فالظروف التي يمرون بها قاسية جداً».

لكن سعر طن الحطب بلغ أكثر من 11 ألف ليرة (110 دولارات)، وهو سعر مغرٍ جداً قد يدفع البعض إلى امتهان الاحتطاب الجائر، لذلك يقول عيسى إنهم عازمون على مكافحة التكسب من الحطب قبل أن يتحول إلى ظاهرة، مع نيّتهم تقليص معدل الاحتطاب الفوضوي عموماً.

ويوضح عيسى أن هناك كتيبة أمنية تابعة للجيش الحر تتولى، ضمن مهامها الأخرى، حراسة الأحراش: «أقمنا محرساً في كل غابة، ويفرّق الحراس بين المحتطبين الأفراد الذين يحملون كفايتهم، وبين أولئك المتكسّبين».

وأشار عيسى إلى أنهم قبضوا أكثر من 30 شخصاً متهماً بالاحتطاب الجائر، وأحيلوا جميعاً إلى القضاء: «فالكتيبة الأمنية تتولى ملاحقة المحتطبين وتسليمهم للقضاء الشرعي، وغالباً يتجنَّب القاضي حبس الجناة بأن يفرض على أحدهم «عقوبة بديلة» تلزمه بزرع شجرتين عوضاً عن كل شجرة قطعها».

أما في حال تكرار هذه الجنحة من الشخص نفسه، فإن القاضي يحكم عليه بزرع 10 شجرات ودفع غرامة مالية مع حكم بالحبس قد يمتد شهوراً، كما يضيف عيسى.

وإضافة إلى المرارة التي يشعر بها الأدالبة تجاه الزيتون المهدور، يتألم الناس أيضاً لظاهرة الاحتطاب الجائر التي تهدد الغطاء النباتي للمحافظة، لكن التفكير في البيئة يصبح ترفاً حين يغزو البرد مضاجع الأطفال في هذا الشتاء الطويل.

* * *

الزيتون ومحافظة إدلب

* تقع محافظة إدلب في شمال سوريا، وهي منطقة حدودية مع تركيا.

* يطلق عليها إدلب الخضراء لكثرة أشجار الزيتون (تقدر بثلاثة ملايين شجرة). .

* تبعد مدينة إدلب، وهي مركز المحافظة، عن مدينة حلب 60 كم وعن اللاذقية 132 كم وعن دمشق 330 كم وعن حمص 168 كم وعن حماة 105 كم.

* عدد سكان المحافظة 1.5 مليون نسمة، أغلبيتهم من المسلمين السنة، ويسكنها أقليات من الدروز والشيعة والمسيحيين.

* اكتسبت المحافظة شهرة واسعة في عصر زيت الزيتون الذي تحتل سوريا المرتبة الخامسة عالمياً في إنتاجه.

* تضم المحافظة عدداً من المدن التاريخية والمعالم الأثرية المهمة.

* من أهم مدنها: معرة النعمان، أريحا، جسر الشغور.

رجوع

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة