Al-jazirah daily newspaper
ارسل ملاحظاتك حول موقعناSunday 10/02/2013 Issue 14745 14745 الأحد 29 ربيع الأول 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

شاهد عيان

قصة قريتين في محيط ثائر

رجوع

ريف إدلب - سليمان الأسعد:

في الطريق إلى قرية الفوعة، تعترضك ثلاث صخرات وعبارة مخطوطة على جدار قريب: «أمامك الفوعة الشيعية.. ممنوع مرور أهل السنة»، وهي جملة صادمة ومثيرة للحساسية الطائفية لولا أن جذور القصة وتداعياتها قد تفسر الجنوح المستفز نحو لغةٍ فجّةٍ كهذه، كما يقول الناشط حازم داكل، أحد الإعلاميين الناشطين في إدلب.

نتوقف عند هذا المفترق الخطر الذي توحي تفاصيله أن التقدير الخاطئ قد يودي إلى التهلكة: «كتبناها للغرباء الذين يأتون من الحدود إلى ريف إدلب ولا يعرفون المنطقة»، ثم يشير إلى القرية التي لا تبدو بوضوح في الأفق: «على بُعد مسافة قصيرة من هذا الجدار، اختطف أهل الفوعة صحافيين أجانب، آخرهم ثلاثة أتراك».

وكان الصحافيون الأتراك القادمون من معبر باب الهوى الحدودي، متجهين إلى معرة مصرين القريبة، لكن حظهم العاثر قادهم إلى أن يسلكوا طريق الفوعة فوقعوا بأيدي شبيحتها.

لكن القصة لم تبدأ هنا، فسكان القرى المجاورة يسردون روايات مختلفة (ليست متناقضة بالضرورة) عن منشأ النزاع بين الفوعة وجيرانها، وهي روايات تتواطأ على اختيار عنوان واحد يستهل به الراوي حكايته: «عمليات الخطف»، ثم يحشر في ثنايا الحديث قصصاً فرعية عن التعايش التاريخي بين القرى المتجاورة على اختلاف انتماءاتها، ويضيف حقائق عن التداخل الجغرافي اللصيق بين الفوعة وبلدة «بنّش»، والمصاهرات التي جمعت شيعية من الأولى وسنياً من الثانية (أو العكس)، قبل أن تفصم الثورة عرى هذه العلاقات حين قبلت الفوعة أن تكون مصدراً للقصف على شقيقتها التوأم.

ومنذ بداية الثورة، لجأ النظام إلى تجنيد شبيحة من أبناء الفوعة نجحوا بسهولةٍ في قمع الحراك السلمي المحدود في قريتهم، فلجأ الأحرار من أبنائها (200 شخص تقريباً كما يقدّرهم حازم) إلى التظاهر في بنّش الملاصقة، لكن الملاحقة الأمنية التي سُلّطتْ عليهم وعلى أسرهم حبستهم عن المشاركة في الحراك الثوري.

وفي لحظة استذكار حزينة، يستعيد حازم مشهد صلاة الميت الغائب التي أقيمت على الرائد مازن فواز في بنّش: «كانت لحظة فارقة في تاريخ البلدتين، فهو ضابط شيعي من الفوعة انشق عن النظام والتحق بالجيش الحر، وحزن أهل بنش على استشهاده، لأنه كان يدافع عنهم في مرحلة ما قبل أن يلتحق بمدينة حارم التي توفي فيها».

ومع أن «كفريا» قرية شيعية أخرى تقع قريباً جداً من الفوعة، إلا أن شهرة الأخيرة طغت على الأولى: «لكن فئة من سكان البلدتين نصبوا - بالتعاون مع النظام- حواجز على الطرق التي تصلهم بالقرى المجاورة، وبدؤوا في اعتقال العابرين السنّة».

وهذه الرواية يسوقها حازم الذي يؤكد أن الخطف أصبح متبادلاً: «بدأ السكان السنة بخطف الشيعة لاسترداد المختطفين، وأصبح كل طرف يصطاد مدنياً ليبادله بآخر».

وفي المرحلة الأولى، لم يكن المخطوف يُقتل أو يؤذى، كما يقول حازم: «بل كان رهينة فقط».

وقبل تشكيل الجيش الحر، كان التوازن العسكري راجحاً لصالح الفوعيين الذين يتسلمون سلاحاً متطوراً من النظام، كما يضيف عبدالعزيز، وهو أحد المقاتلين في صفوف لواء التوحيد بإدلب: «لكن نشوء قوة مسلحة تدافع عن السنة، جعل الفوعيين أكثر رعباً، فشرعوا في القتل المباشر».

ويمضي حازم في استعراض مراحل تأجج الصراع: «أصبح الفوعيون يترصدون الناس في الطرق، وقتلوا عدداً من الناشطين في فترة قصيرة، ومنهم خيرو سرميني الذي قتل مع أخيه وابن خالته».

ثم قتلوا الشهيد مؤيد غفير الذي تلقفوه في كمين على الطريق إلى كفريا.

ورغم استمرار القتل العشوائي، كما يصفه عمر أبو الهدى، أحد إعلاميي الثورة في إدلب، حاول العقلاء من الطرفين أن يحتووا الأزمة قبل أن تستفحل: «وكان الوسطاء ينشطون في التفاوض لرأب الصدع بين المتناحرين».

لكن هذه الجهود الإصلاحية تهاوت حين أقدم جمعٌ من أهل الفوعة على قتل الشيخ عبدالله سيفو الذي كان يسعى إلى التهدئة ويذكّر جمهوره من السنّة بتسامح الإسلام ويعِظِهم بحرمة الدم، وفق رواية عمر: «لم يعد ممكناً أن يتحدث أحد عن الصلح بعد تلك الحادثة الفظيعة».

وكان أهل الفوعة اختطفوا شاباً وأرسلوا في طلب الشيخ سيفو ليعرضوا عليه مطالبهم مقابل الإفراج عن المخطوف: «فخفَّ الشيخ إلى لقائهم، لكنهم احتجزوه أياماً ثم قتلوه، وكانت جثته مكبلةً ووجدنا آثار التعذيب على جسده».

ودفعت هذه الحادثة المئات من الشيعة الذين يسكنون معرة مصرين المجاورة، إلى التفكير في مصيرهم، كما يضيف حازم: «لم يتعرض لهم أحد طيلة أشهر الثورة، وكانوا يعيشون في المدينة آمنين مطمئنين، لكنهم اختاروا الرحيل خوفاً من الانتقام».

ومع مغادرتهم المدينة، أُغلقت «الحسينية» الوحيدة التي كانوا يصلون بها دون أن تتعرض لإهانةٍ أو تخريب.

وأدى توسع المناطق المحررة التي يسيطر عليها الجيش الحر في ريف إدلب إلى أن تصبح الفوعة مصدراً للقذائف على المدنيين، كما يشير عبدالعزيز: «كانت مشكلتنا مع الشبيحة والمجرمين فقط، لكن استقبال منصات القذائف يجعل البلدة كلها في موضع اتهام، فالقرى الدرزية مثلاً رفضت أن تسمح للنظام باستخدام أراضيها لقصف القرى الأخرى».

وخلال أيام إقامتي قريباً من معرة مصرين، كانت القذائف تنهمر على أهلها من جهة القريتين (الفوعة وكفريا)، وهو ما أثار استياء عارماً في صفوف السكان، ونقمةً شديدةً في أوساط الجيش الحر من تلك الجارة التي كَفَرَتْ عشيرهم، كما يخبرني عزام، أحد المنتمين إلى لواء صقور الشام: «نحن لا نقصف القرى والمدن الآهلة بالسكان حتى لو كانوا معادين للثورة، لكن أهل الفوعة وكفريا جعلوا مساكنهم منطقة عسكرية».

وأوحى لي حديثي مع مهند عيسى، أحد قادة لواء شهداء إدلب، أنهم عازمون على اقتحام القريتين إذا استمر القصف، واكتشفتُ بعد مغادرتي البلاد أن عيسى أذاع بنفسه في مقطع مصور بياناً يعلن فيه «بدء معركة تحرير الفوعة وكفريا».

كنتُ حريصاً على زيارة إحدى القريتين أو كلتيهما للاستماع إلى رواية الطرف الآخر، لكنني أخفقتُ في إقناع الناشطين باصطحابي، فالجميع يخشى الاقتراب من هناك كما أخبرني كثيرون، وهو ما يفسّره حازم: «ما داموا تجرؤوا على قتل رسول السلام، وهو فعلٌ تمقته العرب تاريخياً، فلا يمكن أن يأمن أحد على نفسه هناك».

ولأن سكان القرية اعتادوا على اختطاف الصحفيين الأجانب التائهين، فقد جَبُنتُ عن الذهاب وحدي حتى لا أصبح «مشروع رهينة»، أو هكذا توهمتُ.

وفي معرة مصرين، التقيت بالصحافي لؤي دعبول الذي كان حزيناً على المصير الذي آل إليه جِوار القرى المتعايشة منذ قرون، على حد تعبيره: «النظام أفلح أخيراً في ترسيخ العداوة بين الطرفين».

ورغم صداقاته المتعددة مع الفوعيين، يعجز لؤي اليوم عن التواصل مع صحبه إلا عبر الإنترنت: «المسافة بيننا قريبة بالسيارة، لكنها بعيدة في الواقع!».

وتبدو نظرة لؤي للمستقبل مشوشة: «لا يمكن التكهن بما سيحدث، فمن كان يتخيل أن القطيعة ستبلغ هذا المستوى؟ لكني آمل أن يكتشف الجميع أن هذا النظام زائل، وأنهم مضطرون للتعايش، وأن أحداً لا يمكنه إلغاء الآخر».

رجوع

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة