Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناThursday 21/02/2013 Issue 14756 14756 الخميس 11 ربيع الثاني 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

للكاتب جيرمي ريفكن كتابٌ قيمٌ سماه «عصر الفرص الثقافة الجديدة للرأسمالية حيث الحياة تجربة مكلفة» يرصد فيه العديد من التغيّرات البنيوية التي تشكِّل الخلفية الفكرية والقاعدة التنظيمية للعصر الجديد، وهو كتاب جديرٌ بالتوقف والمطالعة؛ فلقد

بدأ الإنتاج الثقافي بالتفوق على الإنتاج المادي في التجارة العالمية؛ حيث تفسح شركات عصر الصناعة العملاقة القديمة -مثل «إكسون» و»جنرال موتورز» و»يو أس أكس» و»سيرز»- المجال أمام شركات الرأسمالية الثقافية العملاقة الجديدة، مثل «فياكوم» و»تايم وارنر» و»ديزني» و»سوني» و»سيجرام» و»مايكروسوفت» و»نيوز موربوريش» و»جنرال إلكتريك» و»بيرتلسمان إيه جي» و»بوليجرام». وتستخدم شركات الإعلام العابرة للحدود الثورة الرقمية الجديدة في الاتِّصالات في ربط العالم، وفي غضون ذلك يدفع عالم الثقافة بقوة داخل عالم التجارة، حيث يتم تسليعه على هيئة تجارب ثقافية مفصلة حسب الطلب وعروض تجارية ضخمة وترفيه شخصي.

عندما كان إنتاج السلع أهم شكل من أشكال النشاط الاقتصادي في العصر الصناعي، كان التملك مهماً جداً للنجاح والبقاء الماديين.

وفي العصر الجديد، حيث يصبح الإنتاج الثقافي بصورة متزايدة الشكل السائد للنشاط الاقتصادي، تصبح أهمية ضمان النفاذ إلى العديد من الموارد الثقافية والتجارب التي تغذي وجود المرء النفسي بأهمية حيازة الملكية.

لقد بدأ الانتقال من العصر الاقتصادي القديم إلى آخر جديد قيد الإنجاز منذ وقت طويل؛ فقد بدأت العملية في وقت مبكر من القرن العشرين بتحول التركيز من السلع والبضائع الصناعية إلى توفير الخدمات الأساسية. أما الآن، فإنَّ عالم التجارة يوازي، من حيث الأهمية، الانتقال من كونه قطاعاً متعلقاً بالخدمات إلى كونه قطاعاً موجهاً بالتجربة. ويمثل الإنتاج الثقافي المرحلة الأخيرة لنمط الحياة الرأسمالي، الذي كانت رسالته الجوهرية دائما جلب المزيد من الأنشطة الإِنسانية إلى الميدان التجاري، ويُعدُّ التقدم في الملكيات الاقتصادية من السلع والبضائع المصنعة إلى توفير الخدمات الأساسية ومن ثم إلى تسليع العلاقات الإِنسانية وأخيراً إلى بيع النفاذ إلى التجارب الثقافية، شهادة ودليلاً على الإصرار الأحادي الهدف لعالم التجارة نحو جعل كل العلاقات علاقات تجارية.

يجلب تسليع الثقافة الإِنسانية معه تغييراً رئيسياً في طبيعة التوظيف؛ فقد كانت قوة العمل البشرية في العصر الصناعي منهمكة في إنتاج السلع والقيام بالخدمات الأساسية. أما في عصر النفاذ فالآلات الذكية، التي تأتي على هيئة برمجيات (sofware) وجمل عصبية صناعية (wetware)، تحل بصورة متزايدة محل قوة العمل البشرية في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات؛ إِذْ تتحول المزارع والمصانع والعديد من الصناعات الخدمية القائمة على قوة العمل البشرية الإدارية (المكتبية) بسرعة إلى الأتمتة (Automation). وستقوم الآلات المفكرة بإنجاز الكثير من الأعمال الجسدية والذهنية، بدءاً من المهمات الوضعية المتكررة وانتهاء بالأعمال الفكرية الاحترافية المعقدة جداً. ومن المحتمل ألا تكون العمالة الرخيصة في العالم أرخص من التقنية التي ستحل محلها. وبحلول العقود الوسطى من القرن الحادي والعشرين، ستتوافر لعالم التجارة القدرة التنظيمية والوسائط التقنية لتوفير البضائع والسلع والخدمات الأساسية للأعداد المتزايدة من السكان باستخدام جزء من قوة العمل العاملة حالياً؛ فربما تكون هناك حاجة، بحلول عام 2050، إلى أقل من 5 في المئة من السكان البالغين لإدارة عالم الصناعة التقليدي. وستكون المزارع والمصانع والمكاتب شبه الخالية من العمال هي الوضع الطبيعي في كل دولة. وستتوافر فرص عمل جديدة ولكن معظمها سيتركز في العمل الثقافي المدفوع الأجر في الميدان التجاري. ومع تحول المزيد من حياة الناس الشخصية إلى تجارب مدفوعة الأجر سيصبح الملايين من الناس الآخرين موظفين في عالم التجارة للقيام بخدمة الحاجات والمتطلبات الثقافية.

أما بالنسبة إلى رحلة الرأسمالي التي بدأت مع تسليع المكان والمادة، فهي في طريقها إلى الانتهاء نتيجة لتسليع وقت الإِنسان وفترة بقائه؛ فعملية بيع الثقافة على شكل نشاط إِنساني بأجر متزايد تؤدي بسرعة إلى عالم تحل فيه الأنماط المالية للعلاقات البشرية محل العلاقات الاجتماعية التقليدية. ولك أن تتخيل عالماً يُعدُّ فيه أي نشاط تقريباً خارج حدود العلاقات الأسرية والعائلية تجربة مدفوعة الأجر، عالماً تحل فيه علاقات تعاقدية على هيئة عضوية مدفوعة القيمة واشتراكات ورسوم دخول ومقدم أتعاب ورسوم، محل التطلعات والالتزامات التقليدية المتبادلة (التي تتجلى في مشاعر الإيمان والتعاطف والتضامن).

حسب الكاتب فإننا نقوم برحلة في عصر جديد يتم فيه شراء التجربة الإِنسانية بشكل متزايد، على هيئة نفاذ إلى شبكات متعددة الأوجه في الفضاء الإلكتروني؛ ويتم التحكم بهذه الشبكات -التي تمارس أعداداً متزايدة من الناس تجاربها اليومية فيها- من خلال شركات إعلامية متخطية لحدود القومية متنفذة ومحدودة العدد تملك القنوات التي يتواصل عبرها الناس فيما بينهم، والتي تسيطر أيضاً على الكثير من المحتوى الثقافي الذي يشكّل التجارب المدفوعة الثمن لعالم ما بعد الحداثة. ولا توجد في التاريخ سابقة لهذا النوع من السيطرة الهائلة للاتِّصالات الإِنسانية، وتصبح التكتلات الإعلامية العملاقة والشركات المزوّدة لمحتوياتها، تابعة لها كحارس البوابة الذي يحدد الشروط التي يضمن من خلالها مئات الملايين من البشر حرية نفاذ أحدهم إلى الآخر في العهد المقبل. إنها شكل جديد من الاحتكارات التجارية العالمية، وهو الشكل الذي مارسته طوال سنوات نسبة كبيرة من السكان على الأرض. وفي عالم يتم فيه تسليع النفاذ إلى الثقافة الإِنسانية بصورة متزايدة ومن خلال شركات عالمية تصبه الأسئلة المتعلقة بالسلطة مؤسسية والحرية أكثر بروزاً من ذي قبل.

إن استيعاب عالم الثقافة في عالم التجارة يدل على تغيير جوهري في العلاقات الإِنسانية مع ما يرافقها من نتائج مثيرة للإشكاليات بالنسبة إلى مستقبل المجتمع؛ فمنذ بداية الحضارة البشرية وحتى الآن كانت الثقافة تسبق الأسواق ويوجد الناس عموماً المجتمعات ويضعون القوانين المفصلة للسلوك الاجتماعي ويعيدون صوغ القيم والمعاني المشتركة ويبنون الثقة الاجتماعية على شكل رأسمال اجتماعي. ولا تنهمك المجتمعات في التجارة إلا بعد تطور الثقة الاجتماعية والتبادل الاجتماعي بصورة كبيرة. لقد كان عالم التجارة دائماً مشتقاً من عالم الثقافة ومعتمداً عليه؛ ويعود سبب ذلك إلى أن الثقافة هي المعين الذي تنبع منه مبادئ السلوك المتفق عليها وهي المبادئ التي تخلق بدورها بيئة موثوقاً بها يمكن أن تتم فيه الأعمال التجارية وعندما يبدأ عالم التجارة بافتراس عالم الثقافة فإنه يهدد بتدمير الأسس الاجتماعية بحد ذاتها وهي الأسس التي أتاحت المجال لظهور العلاقات التجارية وهاته هي الحكمة التي يدافع عنها الكاتب في الجزء الثاني من الكتاب.

ستكون استعادة التوازن المناسب بين عالمي الثقافة والتجارة -على الأرجح- واحداً من أهم تحدّيات عصر النفاذ القادم. ووجود الموارد الثقافية بين يدي التجارة يعرضها لخطر الاستغلال المفرط والاستنزاف تماماً مثلما حدث مع الموارد الطبيعية إبان العصر الصناعي. ويُعدُّ العثور على طريقة للمحافظة على التنوع الثقافي الغني وتعزيزه، والذي يعد شريان الحياة للحضارة في اقتصاد الشبكات العالمي الذي يعتمد بصورة متزايدة على النفاذ المدفوع القيمة للتجارب الثقافية التي تم تسليعها من بين المهمات السياسية الأساسية للقرن الجديد؛ هاته إجمالاً أهم محاور الكتاب وأظن شخصياً أن التعاليم الإسلامية فيما يتعلق بالوحدة الأسرية والعلاقة الزوجية وطاعة الوالدين والتضامن الاجتماعي قد تغني البشرية ويلات تسليع الثقافة المفرطة وهاته هي الحقيقة الغائبة في كتاب جيرمي ريفكن.

تسليع الثقافة
د. عبد الحق عزوزي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة