Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناMonday 04/03/2013 Issue 14767 14767 الأثنين 22 ربيع الثاني 1434 العدد

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

متابعة

والدي فوزان الفهد.. أنّى للكلمات أن ترثيك

رجوع

لم يدر ببالي أبداً أن أجلس يوماً لكتابة مرثية في عزيز، فكيف بي وأنا أحاول منذ شهر بالتمام والكمال على فاجعة رحيله أن أسطر رثاء فيمن هو أغلى علي من نفسي ومالي وولدي، ولم يخطر بخلدي - وأنا مؤمنة وراضية بقضاء الله - أن تكون هذه الكتابة عمن علمني الكتابة والحياة والدي وسيدي فوزان بن فهد الفهد الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى منتصف يوم السبت30 صفر 1434هـ الموافق 12يناير 2013م.

أسابيع أربعة غير منقوصة هي الفاصل بين آخر لقاء لي بوالدي - رحمه الله - في بيته العامر، فكانت زيارتي له صحبة بناتي مساء الجمعة 1 صفر 1434 هـ، وكان كعادته يحيط الجميع بأبوته، يداعب صغيراتي ويتبسط معهن، ولا يحرمني من حنانه الذي يتجاهل عمري ويعيدني تلك الطفلة بين يديه، يسأل عن حالي، يأخذني في حضنه فأنسى أني أم لأربع زهرات، وأعود صغيرته التي التصقت بوالدها، وهو شعور يشاركني فيه إخواني وأخواتي فيضمنا صدره الذي اتسع لنا جميعاً وللآلاف من أقاربه ومعارفه وجموع من المحتاجين على امتداد وطنه الكبير، فيفيض وصلاً وبراً لكل واحد منهم وكأنه الأوحد.

فزعت بعدها لعلمي بتوعكه ودخوله المستشفى جراء التهاب في أحشائه يوم الأحد الذي تلى لقائي به - رحمه الله-، لتتوالى بعدها مضاعفات ذلك الالتهاب الذي واجهه صابراً محتسباً يوماً إثر يوم، نتأرجح فيه بين الألم والأمل، إذ لم يعرف اليأس لقلوبنا طريقاً، في وقت كان الأطباء ينفون أي خطر على حياته، بل وحتى في الأسابيع التي تلتها عندما بدأ المرض يتمكن منه والأطباء لا يملكون معه حيلة، وأنا أستحضر مقولة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد لنبينا صلى الله عليه وسلم: «كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» وأعلم أن والدي - وحاشا أن أشبهه بمن قيلت فيه تلك المقولة- كان يتأسى بنبينا صلى الله عليه وسلم، وتتحقق فيه كل تلك الأوصاف.

أتعلمون كيف - وأسأل الله ألا تجربوا - كيف يشعر من يرى روحه تخرج من بين أضلاعه ولا يملك أن يطبق عليها فيستبقيها، أو حينما تحاول الإطباق على آخر قطر الماء وأنت في الفلاة وهي تتسلل من بين أصابعك؟ تلك هي حالي وأهلي جميعاً وكل من أحاطنا ووالدي - رحمه الله - بدعواته ورجاءاته أيام مرضه التي تمطت بطيئة.

أتذكر الآن تلك النظرات القوية التي لم تلن لشدة المرض المطبق بمخالبه على أحشاء الغالي الذي لا يُنسى، وحديثه معي يجرجر كلماته مع أنفاسه التي حاصرتها أجهزة التنفس، قائلاً لي « كوني ذكية، أنا لن أخرج من هذا المشفى»، وتوصيته لنا كلما مكنه المرض من الحديث: «كونوا مجتمعين كما أنتم دائماً ولا تتفرقوا»، وتوصياته لنا بألا يشغلنا شيء عن فعل الخير الذي بدأه.

آه .. كم هو مؤلم أن نسمع منه أسماء أفراد وأسر، كنا نعتقد أنه يهذي بها من شدة مرضه، ولكننا سألنا عنها فوجدناها أسر تكفل بهم وأجرى لهم مصرفهم واعتنى بشؤون دنياهم، دون أن يخبر أحداً، وهو اليوم يخشى أن ينقطعوا إذا هو فارقنا وفارقهم.

كنت وإخواني وأخواتي لا نفتأ نفكر في كيفية استقباله في البيت بعد خروجه، رسمنا لذلك سيناريو مفصل، الهدايا التي سنقدمها له، تجهيز غرفة نومه، ومكان استقباله لعائديه، تحضيراتنا امتدت لإعداد ملابسه التي يحب، ورسم برنامجه في البيت.

تسارعت وتيرة مرضه في الأسبوع الأخير قبل وفاته - رحمه الله وقبله شهيداً، إذ أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن المبطون شهيد -، فبعد سلسلة من ثلاث علميات يفصل بين كل واحدة منها والأخرى يومين، أخبرنا الأطباء أنهم قد استنفدوا كل ما لديهم، ويبقى حبل الأمل مربوطاً بالله، مع كل مؤشر صغير باستقرار حالته نفزع للأمل، ونفزع للرجاء مع أي انتكاسة، كلمة يا رب هي سلواننا الوحيد وبابنا المفتوح الذي لا يغلق ولا نمله.

وفي صباح السبت30 صفر الماضي كنت أجلس في غرفته الملأى بإخوتي وأخواتي الذين وفقهم الله جميعاً لملازمته كل لحظة في مرضه - وليس كثيراً عليه وعلى ما ربانا-، وكانت مؤشراته الحيوية تضعف، النبض يتباطأ والضغط ينزل، وعينيه إلى السماء شاخصة، سبابته المقبوضة منذ عدة أيام التي يعيدها لوضعيتها مهما حاول الممرضون بسطها، وتمتماته غير المفهومة التي تخرج بعض الأحيان كلما سمع دعاء أو آية، ومن ذلك أنه في يوم وفاته قال له أخي أسأل الله أن يجمعنا بك في جنات النعيم، فأطبق شفتيه على جهاز التنفس يقول آمين.

كنت أجلس عند قدميه بين أذان الظهر والإقامة وقد استحال شيب رأسه إلى لون ذهبي، وأنظر لوجهه الذي نحل مع المرض ولكن وضاءته لم تخفت بل زادت، فرأيت نفساً يخرج منه تتجاوب معه تفاحة حنجرته صعوداً فنزولاً فصعوداً مرة أخرى ثم ثبات، ولم أدرك دلالة ذلك سوى أني سمعت أزيز جهاز قياس النبض الذي تحول إلى خط أخضر مستقيم، وأنا جامدة في مكاني أتمتم بدعواتي حتى سمعت صراخ أختي بالممرضة لتعيد وصل الجهاز الذي حسبته قد انفصل، ولم أعرف - أو لم أرد أن أعترف - أن ذلك مؤشر على خروج النفس الطيبة بسهولة إلى بارئها (كما تخرج القطرة من فم السقاء) كما في الحديث، حاولت تكذيب الأمر أو الهروب إلى الكذب:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر

فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

حتى إذا لم يدع لي صدقه كذب

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

وما الدمع بالذي يطفئ لهفة وداعه، ولو خرجت روحي ساعتها لكان الأمر أهون علي من لحظات فصلت بين وجود والدي ورحيله، تتحول فيها الهواجس بفقده إلى حقيقة، لم أحسبني - وأنا المؤمنة بحتمية الموت، وأن الله قضاه على الأولين والآخرين - قادرة على تحمله، كيف لي أن أغادر المكان لأواجه الدنيا وحيدة بلا والدي، وأنا أشتاق له إذا غاب عني في سفره أياماً، وأنى لعقلي أن يحتمل رحيله فلا أراه إلا يوماً أسأل الله أن يجمعنا به وجميع المسلمين في جنات النعيم، ثم جاء الوقت الذي ألقي عليه نظرتي الأخيرة - ويا الله.. كيف لك أن تنظر إلى وجه من تحب وأنت تعرف أنها النظرة الأخيرة في هذه الدنيا، والدي رمز القوة والمنعة الذي عرفته ملفوف بقماش أبيض ومستلقي على نعش ليس كسريره الذي اعتدت رؤيته عليه، شعور غريب كي أقبًله ولا يقبلني، أحضنه ولا يأخذني بين يديه كما اعتدت، أحدثه فلا يرد علي ولا يسأل عني، ذلك الدفء الذي أحسه في حضنه، وتقبيله يده التي أستمد منها قوتي لم أجدها اليوم، فيديه مضمومتان داخل كفنه، وجبينه البارد هو كل ما استطعت تقبليه قبل انتقاله للصلاة عليه.

سألت إخواني وزوجي بعد أن عادوا من دفن والدي كيف هان عليكم أن تحثوا التراب على جسد والدي، وعلمت أن فاطمة بنت محمد رضي الله عنها سألت قبل أكثر من أربعة عشر قرناً مثل هذا السؤال عن سيد البشر صلى لله عليه وسلم.

وفي الأيام التي تلت دفنه - يرحمه الله - ازدحم بيته بجموع المعزين رجالاً ونساء الذين رددوا دون اتفاق أنهم مفجوعون عليه كما نحن، وأنهم يبحثون عمن يعزيهم على فقده، لم يعرفوا أنهم زادونا وحشة وشوقاً، وزادوا حملنا لعلنا نسد مجتمعين ما تركه من فراغ، وأكدوا لنا مقولة شوقي:

الناس صنفان موتى في حياتهم

وآخرون ببطن الأرض أحياء

وشعرت بعدها بغربة كأتي أنا من رحل عن معارفه وأن الدنيا تغيرت علي فليست الحياة التي كنت أعرف، وبات غاية ما أتمناه أن أرى وجه والدي وأحدثه ويحدثني حتى ولو في رؤيا منام.

أسأل الله أن يجمعنا بوالدي (وأنتم بمن تحبون) في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فليس بوسعي اليوم تحمل فقده مرة أخرى، وأن يجعلنا بعض عمله الصالح، وأن يحفظ لي والدتي ويربط على قلبها ويوفقني لبرها.

- مرام بنت فوزان الفهد

رجوع

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة