Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناThursday 07/03/2013 Issue 14770 14770 الخميس 25 ربيع الثاني 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

قال الجرجاني رحمه الله تعالى في كتابه أسرار البلاغة (ص344-345): “إذا وقع المجاز في الإثبات فهو متلقَّىً من العقل، وإذا عرض في المعنى المُثْبَت فهو متلقَّى من اللغة”، وشرح ذلك في أسرار البلاغة ص345 بقوله: “اللغة لم تأت لتحكم وتثبت وتنفي وتنقض وتبرم؛

فالحكم بأن الضَّربَ فِعْلُ زيد أو ليس بفعل له شيىء يضعه المتكلم، ودعوى يدَّعيها.. وما يعترض على هذه الدعوى فهو اعتراض على المتكلم وليس إلى اللغة من ذلك بسبيل”.

قال أبو عبدالرحمن: إذن الأخذ بالظاهر أمانة لغوية، وحسٌّ بلاغي، وأناة فكرية.. كما أن عِلْم الإمام أبي بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن الجرجاني ينبوع من ينابيع الفقه في الشرع، والفقه في كلام العرب: بتنقية المدلول، والإحساس بجماله، وتنظيم مقاصد الخلق في عقودهم.. والأخذ بالظاهر (الذي هو عصمة لاجتهاد المسلم، وعصمة لتذوُّق الأديب من التحسير أوالتقصير) يقوم على بُعْدٍ عميق صلب في تَخَوُّمِ الوعي والفكر والإحساس والمعرفة، والأخذ بالظاهر يقوم على الأركان التالية:

1 - أن لا تنسب إلى أحد ما لم يقله.. أي لا تُحَمِّلْ نص كلامه ما لايحتمله من الدلالة، ولا تُحَمِّل معقول نصه ومقتضاه مالا يحتمله العقل بيقين أو رجحان.

2 -أن يجتهد المسلم أوَّلاً في نظرية المعرفة ومُحصِّلاتها؛ فَيُحْكِمَ اجتهادَه فيما يُحتاج إليه من المنطق والجدلِ والبحث والمناظرة؛ لأن الأخذ بظواهر العقلِ من النص الشرعي لا يتم بغير هذا.

3 - أن يُحْكِم الاجتهاد في لغة من يريد معرفة مراده؛ ليعرف مُرادَ المتكلِّم من اللغة وفكر النص، ومراد الله لا نعرفه من غير شرع الله، وشرع الله نزل بلغة العرب؛ فمنذ نسخ الإسلامَ جميعَ الشرائع فلا يجوز التماس مراد الله من غير الإسلام باللغة التي نزل بها، وقد جاء به عبدالله ورسوله محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- مبلِّغاً عن ربه وهو من صميم العرب وأشرفهم وأفصحهم وأبلغهم، وقومه من فصحاء العرب؛ إذن العقل ولغة العرب هما الوسيلة - لا وسيلة غيرهما - لفهم مراد الله... والعقل يعرف بقوىً فطرية.. أي بغرائز العقل تفكُّراً وتذكُّراً وتصوُّراً وتمييزاً وجِبلَّة، ثم تأخذ هذه القوى معلوماتها من المحسوسات.. ومن العلاقات والمفارقات تكون الأحكام الضرورية كاستحالة أن يتصوَّر العقلُ اجتماع متناقضين بعد أن اكتسب خبرته من الحس؛ فتكون معرفته معقولة بالفطرة.. والعقل يعرف بالحس: إما بحس العاقل نفسه، وإما بحس الأجيال وتجربتها إذا قام برهان حصولها وصدقها ببرهانٍ كبرهان التواتر؛ فتكون معرفته معقولة بالحس والخبرة والتجربة، والعقل يعرف بالحس معرفة صحيحة صادقة كعلمه في الطب والأحياء والفلاحة والفن، وهي معرفة من تعليم الله سبحانه بلا ريب، لأنه خالق العقل وهاديه، وخالق الحس والمواهب والمَدارك.. وهذه المعرفة الصادقة، تكون هي مراد الله الكوني كما سبق بيانه، وهي مراد الله الشرعي بشرط الله الشرعي - بأن تكون مُوَظَّفة في الحق، والخير، والجمال -.. وأما بيان المعرفة الشرعية, وتفصيل ذلك البيان بأن تكون المعرفة حاصلة من نص الشرع عليها، أو خبره عنها، أو تعليمه العبادَ إيِّاها: فمرجعها نصوص الشرع بالشروط التي أسلفتها؛ وإذن فالمعرفة الشرعية أخص من المعرفة البشرية، وغرض أصول الظاهر تمييز مراد الشرع عن مراد البشر.. ومن الظاهر صُوَر تسمى الدليل يجمعها أنها حتمية ضرورية كأن تكون دليلَ نصٍّ.. أي أن الفكر والضرورة حتَّما كونَ ذلك المعنى مفهوماً من النص، ففي سورة يس مثلاً قوله تعالى: وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة يس -22]، فههنا معنيان لم يُذْكرا نصاً، ولكنهما مفهومان فهماً حتمياً من النص: أولهما معنى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بضمير الواحد بدليل قوله وَمَا لِي لاَ وثانيهما معنى: (وما لكم لا تعبدون الذي فطركم) بضمير الجماعة بدليل وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .. وهذا الأسلوبن بلاغات القرآن التي تئب بالقلوب والأرواح، وقد حقَّق هذان المعنيان حتمياتٍ عجيبةً بديعة: أولها التعويد على حذق الاستنباط؛ فمن عبدَ الله فقد علم أن إليه الرجعى؛ فأغنى عن التنصيص على جملة (وإليه أرجع).. وثانيها الإلزام بالحتميات؛ فمن أُنذر بأن مرجعه إلى ربه لزمه أن يعبده.. وثالثها قدوة الداعية؛ فألزم نفسه بعبادة الله وهو يُعَرِّض بمن لم يعبده.. ورابعها التعريض الذي يكون أبلغ أثراً من المباشرة؛ فقد ألزم نفسه بعبادة الله مُعَرِّضاً بتفريطهم في هذا الجانب، وأخبرهم بأن مرجعهم إلى الله تعريضاً بغفلتهم عن هذه الحقيقة، وجعل الضمير للمخاطبين مُعرِّضاً بأن ذلك ليس محلَّ شكٍّ عنده.

قال أبوعبدالرحمن: وفي نصوص الشرع المطهر مئات الشواهد من هذا النوع؛ فالظاهر ليس هو الجمود على الحرفية؛ وإنما هو تحقيق الدلالة؛ فمالا تدل عليه اللغة من النص، ومالا يُحتَّم العقل مفهوميَّته من ملاحِن اللغة فليس دليلاً نَصِّياً.. ولقد رأيت الغالب عند طلبة العلم (بل هو المشهور فيما درسناه من كتب كانت مراجعنا في الدراسة المرحلية) أن الأخذ بالظاهر يعني الأخذ بالواضح وإلغاء الخفي.. أي أن المدلول عليه إذا كان خفياً لا يكون ظاهراً، بل لا يكون ظاهراً، حتى يكون واضحاً؛ وهذا وهم شائع مُضَلِّل سببه أن القوم لم يُطبِّقوا تأصيل أهل الظاهر في الاستدلال على مقتضى أصول اللغة العربية، وهم يُصيبون في التأصيل كثيراً ويخطئون أحياناً في التطبيق.. إن الظاهر يعني الواضح الجلي والخفي الذي لا يُدرك إلا بلطف، وأما غير الظاهر فهو ما أبى النص أن يدل عليه.. قال عبدالقاهر في أسرار البلاغة ص363 عن المسرفين في التأويل: “ فهم يستكرهون الألفاظ على ما لا تقبله من المعاني “؛ فهذه اللمحة من عبدالقاهر أذكى عبارة في تحديد الظاهر النصي؛ فما لا تقبله الألفاظ من المعاني ليس ظاهراً؛ وما قبلته فهو الظاهر سواء أكان جلياً أم خفياً.. والظاهر النصي ظاهران: الظاهر العرفي اللغوي الأعم الذي لا يخرج مراد المتكلم عن أحد أفراده، والثاني مراد المتكلم المتعيِّن.. والأول هو جميع الاحتمالات الجائز استعمالها لغةً كاستعمال العين للباصرة والنبع ونفس الشيئ والطليعة والذهب.. إلخ، وكل احتمال لمعنى لا يصح ارتباطه باللفظ لغة أو بلاغة فهو غير ظاهر، وهذا هو الشرط الأول في فهم النصوص، وهو وجود دليل التصحيح في لغة الخطاب.. والظاهر الأخص المتعيِّن الذي هو مراد المتكلم، وبرهان تعيُّنه هو الشرط الثاني في فهم الخطاب، ويُسمَّى دليل الترجيح؛ فهو مرجِّح بين دلالات اللغة، حاكم على مراد المتكلِّم بيقين أو رجحان؛ وإذن فمراد المتكلم أخص من عموم معاني اللغة؛ فإذا كان ما زُعِم أنه مراد المتكلم، وليس هو أحد أفراد الظاهر العرفي فليس ظاهراً، بل هو تقويل المتكلِّم ما لم يقله حقيقة، ويُحْمل على هذا التقويل كثير من كلام المتلاعبين بكلام الله كالصوفية والباطنية وبعض المتفلسفة والإنشائيين.. وإذا لم يقم برهان من سياق الكلام أو خارجه يُعَيِّن مراد المتكلم فالمدلول احتمالي وليس ظاهراً؛ وقد تفقَّه أولئك الأجلة في لغة العرب ومنطق الفكر قبل أن يتعرضوا لتفسير انصوص والاستنباط منها.. وقد ينطلق مفسرو النصوص منطلقات تُسهِب في تأويل الكلام تأويلاً يخرجه عن ظاهره؛ لظنهم أن الظاهر غير مراد في حين أن النص لا يتحقق فهمه بغير حمله على ظاهره، وأُقرِّب المثال ههنا بمسألة من خلاف النحويين، وهي مسألة الفعل الماضي (قال)؛ فهذا الفعل يدل على شيىء قد وقع ومضى وانقضى، وقد درجت السجية العامية والسليقة العربية الفصيحة على استعمال هذا الفعل لما لم يقع بعد؛ وإنما سيقع حالاً أو استقبالاً (وهو ما يسميه النحاة بالمضارع)؛ فابن جرير يقول: (قال أبو جعفر، ويقول الترمذي: (قال أبو عيسى)، وهكذا.. إلخ، والهتيمي الشاعر العامي يقول: (قال مشعان الهتيمي تِفَلْهَم)، وقال شيخ النحاة: (قال محمد هو ابن مالك)، ثم يأتي القول مستقبلاً بعد فعل قال الذي وقع ماضياً.. وهذا صنيع آلاف في مئات الأجيال، ولقد حاول ابن أم قاسم المرادي أن يجد لذلك تعليلاً فأورد التالي:

1 - أن يكون القول قد قيل فجاءت (قال) على ظاهرها.

2 - أن (قال) على بابها؛ ادِّعاء للقطع بتحقق المقول.

3 - أن مكان (قال) بعد الفراغ من القول؛ فتكون (قال) مُقدَّمةٌ لفظاً.

قال أبوعبدالرحمن: أما (قال) فلا إشكال فيها؛ فهي حكاية لقول قد قيل، ولكن لما جاءت (قال) قبل الكلام الذي قيل فإن لم يَرِدْ بعدها جملة فهي لَغْوٌ، وإن تراسل بعدها الكلام مثل (قال مشعان الهتيمي تفلهم)؛ فقد تراسل قوله منذ كلمة (تفلهم)؛ فهذا على البلاغة (النحو الثاني) محمول على أن ما سيسرده متحقِّق الوقوع حسب غَلَبَة ظنه، وأما في كلام الله فهو عن قرب وقوع فعل المضارع (الآتي بصيغة الماضي) حتماً.. وأما التعبير بالمضارع عن شيئ قد وقع مثل: (يقول الإمام ابن حزم) مع أنه مضى قوله من ألف عام إلا عِقْدين تقريباً: فدلالته واحدة، وهي استحضار الماضي لتقرأه الآن؛ فكأنه يخاطبك وأنت تقرأ نصه المكتوب منذ ألف عام حال قراءتك إياه.

قال أبو عبدالرحمن: ونمارس اللغة لنعرف معنى الكلمة، أو لنحيط بفكرها، أو لِنُحسَّ بقيمتها الجمالية؛ ففكر الكلمة لا يُؤخذ من مجرد تسمية المضمون الذي تدل عليه المفردة كدلالة مفردة العدم على معناها؛ وإنما يؤخذ من دراستنا الحِسيَّة والعقلية والخِبْرَة الفلسفية للمضمون نفسه.. إننا نعرِّف العدم لغة ببضع كلمات، ولكن فكر كلمة العدم لا يحصل إلا بتأليف مستقل.. وهكذا فكر كلمة أصولية كالقياس، وهكذا فكر كلمة نقدية كالالتزام، وهكذا فكر كلمة اجتماعية كالاغتراب.. وأما الإحساس بالقيمة الجمالية فشأن عُشَّاق الجمال الفني؛ وإنما يؤخذ مآلُ الإيحاءِ المحقِّقُ قيمةً جمالية؛ فيضم إلى حقل الدلالة على المضمون؛ فعندما يقول ابن الرومي مثلاً:

وَيْلَاهُ إن هي أقبلت أو أدبرت

وقْعُ السهامِ ونزعهن أليمُ

نعلم أن في قوله إيحاءً جمالياً نعشقه ونتذوقه، ونُنظِّر له لترسية القيمة النقدية، ونأخذ المآل - وهو مراد الشاعر غير المباشر - عن فاتنة تؤلم إقبالاً وإدباراً، فَنُصَنِّفه في نوعية من نوعيات الدلالة.

قال أبو عبدالرحمن: وجه كمال اللغة أنهافي نفسها علم، لأنها مقتضي علمي بالعقل والحس للتعبير عن أحاسيس وتصورات ومشاهدات البشر؛ ولذلك كان من أنواع اللغةِ اللغةُ العلمية، أو لغةُ العلم.. واللغة يُبنى عليها في نفسها علم فيقال: (علم اللغة).. ويكون علم اللغة علمياً في نفسه؛ لأن اللغة في نفسها علم.. واللغة كالرياضة وسيلتات علميتان تعبران عن علاقة بين العارف والمعروف؛ فالرياضة علم صوري يعبر عن معرفتنا ويحللها، واللغة علم صوري يعبر عن معرفتنا ويحللها, واللغة علم صوري يعبر عن معرفتنا ويحصيها.. إلا أن الرياضة الحسابية إحصاء؛ فهي بالإحصاء رمز عامي؛ ولهذا لا تُعَدُّ من أوجه البيان كالإشارة. ومن الأصول الظاهرية الجليلة النفيسة التي قررها الجرجاني رحمه الله تعالى أن الإضافة في الاسم كالإسناد في الفعل.. أي أن قولك: (قراءتي الجريدة مفيدة) تساوي قولك: قرأت الجريدة باستفادة.. وقولك: يقرأ زيد الجريدة فيستفيد.

ووجه التسوية أن صدق وصحة الاستفادة وهو الحكم الإسنادي لا يؤخذ من اللغة، بل يؤخذ الحكم من الواقع.. أي صدق علاقة الاستفادة بين الجريدة وقارئها.. وأما الذي يُؤخذ من اللغة فهو صحة تركيب الكلام في الإسناد من واقع استعمالهم؛ فيقولون (قراءتي للكتاب) ولا يقولون: (قراءتي يكتب إلا إذا أرادوا صورة الرسم لكلمة يكتب) في تعليم الأطفال من غير إرادة لتركيب الكلام؛ فيُقطَّع لهم الكلام في السبورة أو اللوح هكذا: قراءتي يكتب.

قال أبو عبدالرحمن: هذا الفرق مزلق يزلق فيه الجامدون في الحكم باللحن والشذوذ، ويزلق فيه الإباحيون الذين يأخذون صورة التركيب العربي ولا يراعون مقصد المتكلم؛ وإذن ليس كل ما صح نحواً يصح واقعاً كالتعبير عن المحال في قول القائل: (شربتُ كل البحر) وهو يريد حقيقة الكلام.. وهكذا قولك: (قبَّلتُ ليلى قُبلة حارة) ليس خطأ لغة وإن لم تكن القبلة حارة كالنار أو الفلفل؛ وإنما المراد حرارة أثرها في النفس.. وإلى لقاء قريب عاجل إن شاء الله، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

اللغةُ عِلمِيَّةٌ؛ لأنَّ فِكْرَها ظاهريٌّ:
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة