Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSaturday 16/03/2013 Issue 14779 14779 السبت 04 جمادى الأول 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

بسم الله الرحمن الرحيم

قال أبو عبدالرحمن: إنني حريص بكل صدق وأمانة أن أفصل بين الهُوِيَّات والعلاقات المزوَّرة وبين الشعارات والمعايير؛ ليكون الموافِق والمخالِف أمام واقع ناصع؛ فأما هويتنا فأريد بها أهل القبلة عامة، ولا أخص بها بلادنا السعودية، ولا يدخل في أهل القبلة مُخالِفُنا في الملة ولا الطائفية ذات الدين الوضعي من الباطنيين المزروعين قديماً والمتجدِّدين في العصر الحديث؛ لأن مصادرهم غير مصادرنا، وإن تعرضوا لمصادرنا ادَّعوا عليها ما ليس من دلالة لغتها، ونتج عن ذلك ما يأباه أهل القبلة من عقيدة إلحادية وفقهٍ إباحي؛ بأكاذيب النقل، وتحرِيف الكلِم الصحيح عن مواضعه؛ فكل أهل القبلة مُبْتغاهم موافقة (مذهب السلف الصالح)، وقد أسلفتُ أنه لا سلف بهذا المعنى إلا لمن نص الله عليهم في سورة التوبة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهم القدوة حقاً؛ لأن خاتِمَتَهم بالخبر القطعي من سورة التوبة أن الله رضي عنهم ورضوا عنه، ووعدهم الخلود في الجنة بدءاً، وأوجب الله اتباعَهم بإحسان؛ وانتهت الإضافةُ إلى جيل السلف الصالح بفتح مكة؛ إذْ لا هجرة بعد الفتح، وبقي المتَّبعون الموزونُ اتّباعهم بإحسان إلى يوم القيامة؛ وإنما خصوصية السعودية بالمقارنة المشهودة أنهم طُلاَّب مدرسة أهل الحديث والفقه فيه الذين يُوصفون بأهل السنة والجماعة؛ فكان جانب الصواب فيهم أكثر، وكانوا هم أنفسهم الأكثر في واقع عالمنا الإسلامي المعاصر؛ ولا يعني هذا عِصمتَهم في كل مسألة فقهية أو عقدية؛ وإنما يعني أن صوابهم مغمور بأخطاءٍ قليلة لأفرادٍ منهم في عصورٍ متأخِّرة، وقليل منها في عصور متقدِّمة.. وقبل أن ألتفت إلى بقية أهل القبلة أبدأ بتحسُّسِ واقعنا نحن في هذه المملكة العربية السعودية؛ فأما في الفقه فقد أسلفتُ لكم أنهم أقلُّ تأثُّماً فيما كان خطأ في الاجتهاد لم يُصِب المراد؛ لصواب منهجهم في سلوك طريق الاجتهاد الذي هو صواب؛ ولا يلزم من صواب الاجتهاد إصابةُ المراد؛ لأن الله ميَّز العلماء المستنبطين على بعضهم درجات، ولا يلحق ذا الاجتهادِ الصوابِ وزر؛ بل له من ربه معذرة ومغفرة ومثوبة؛ وإنما يحصل الإثم لمن ملك صواب الاجتهاد في دين ربه؛ فعطَّل ذلك، وجعل اجتهاده في مذهب إمامٍ بعينه يتحرَّى مقاصده (وما جعل الله له العصمة ولا لغيره، ولا جمع العلم والفكر عنده؛ بل كل ذلك حظُّ مُشاع بين العلماء الربانيين)، وعلى هذا الواجب الذي أوجبه الله علينا لا ينبي مثلاً أن نأخذ بحديث عطية العوفي عند الخروج إلى المسجد - وإن كان لمعناه تعليل معقول -، ونعطِّل ما هو أصح منه وأزكى، وهو الحديث الذي رواه الشيخان في الصحيحين، ونصه: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً.. واجعل في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً، وعظم لي نوراً، واجعل لي نوراً، واجعلني نوراً.. اللهم أعطني نوراً، واجعل في عصبي نوراً، وفي لحمي نوراً، وفي دمي نوراً، وفي شَعري نوراً، وفي بشري نوراً)؛ فهجْرُ ذلك وهو قطعي الدلالة والثبوت بحديثٍ ضعيف اختاره الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى لا تفسير له إلا الحميَّة للمذهب؛ فلا يجوز أن تكون الحمية بهجْرِ الصحيح والأخذ بالضعيف.. مع أن الذي يذهب إلى المسجد بالدعاء الذي أسلفته من الصحيحين يجد لذة وطمأنينة، ويجد آثار دعائه بين الفَيْنة والفينة.. كذلك بعض المسائل القليلة الشاذة مما لم يُؤْثر فيه كلمة عن السلف وهو من أمور الغيب، وليس عليه دلالةٌ صريحة لا يعارضها معارض أرجح؛ فمنها بحمد الله ما رفضه أكثر أهل السنة والجماعة، ومنها ما رفضه المتميِّزون كدعوى أن الله خلق آدم على صورة الرحمن جل جلاله، وفي ذلك تعطيل السياق في الخبر عن آدم، وما يُتوقَّع من تبدُّلِ حاله عليه السلام منذ كان في الجنة إلى هبوطه في الأرض.. وهكذا مسألة القرآن التي صدعتُ فيها بما أرجو به رَحْب المنقلب من التوقُّف؛ لأن الله بالأمر الصريح الصحيح والنهي الصحيح الصريح أمرنا بردِّ المتشابه إلى المحكم، وأن نتَّبع دلالة النص بلا إضافة ولا إسقاط، ولا استبدال ولا تغيير.. ونهانا أن نجحد ما علمنا، ونهانا أن نقفوَ ما ليس لنا به علم.. ومثل ذلك اقتحام أحد أئمة أهل السنة والجماعة - في مضايق المناظرة فيما لا تجوز فيه المناظرة مما سكت عنه السلف من أمر الغيب - بأن تنكير (ذِكْر) لا يعني القرآن!!.. مع أن التنكير يقتضي العموم، والسياق عن جنس الذكر عموماً، وهو موصوف بأنه من الرحمن، والذكر في سياق {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} (1) سورة النمل، وهكذا في سورة الأنبياء؛ فالسياق عن ذكرٍ وصفوه بأنه سحر، وهذا هو معهود الكفار في وصف القرآن، بل هو الغالب، ولقد أصبح وصف القرآن بالذكر اسماً مرادفاً لاسم القرآن كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينََفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (سورة فصلت 41 -42).. ومثل ذلك ما كان عندنا من خللٍ في فهمِ العلم الصحيح من كُتِب أهل الاختصاص كمسألة الحقيقة والمجاز (وهي ركن ركين في فهم كلام الله على مراد الله)؛ فإذا خالف بعض غير ذوي الاختصاص وهم قلة، ثم جاء متأخر كالشيخ ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى وجعل لغة العرب ولغة الشرع في استعمال المجاز (طاغوتاً ثالثاً): فلا يحل لنا ألبتة أن نتبعه، ولا أن نسكت عن أخطائه لمجرَّد أنه أحسن في بعض المواضع، ولأن متأخري الحنابلة اقتفوا أثره وأثر شيخه؛ فهذا هو العدل والحق والخير الذي يحبه الله.. وثمة مسائل أخرى تقصَّيتها في غير هذا الموضع.. كما نلاحظ أن الإمام محمد بن عبدالوهاب افتُري عليه من بعض أتباعه من المطاوعة (الذين شبَّهتهم بالعوام) ما ليس من مذهبه جهلاً منهم، وقد لامستُ بعض ذلك في مقالاتي وكتبي؛ لهذا واجبٌ على علماء هذا البلد الذين أشاركهم التقرُّب إلى الله بحب مذهب أهل السنة والجماعة في الجملة، والاعتراف بالفضل الكبير للشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي أحيا ما اندرس في ممارسة الأمة أمورَ دينها، ولكنَّ هذا لا يعني أن يُهْمل العلماء واجبهم في تعقُّب ما استجدَّ بعد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في المسائل والرسائل النجدية وفي الدرر السنية وغيرها، وبالأخص مجازفات التكفير عند مثل ابن سحمان رحمه الله تعالى، ولا سيما في منظوماته؛ فقد كفَّر جزافاً الحامية العثمانية في الأحساء والدولة العثمانية عموماً وبعض مواقع من حائل، وهكذا ما حدث من تكفير الإمام عبدلله بن فيصل بن تركي آل سعود رحمهم الله تعالى؛ فتولَّد منهم وُعَّاظ عوام كأبي مُسدَّد عبدالرحمن ابن بطي رحمه الله تعالى - وهو زوج عمتي -؛ فحدث بذلك النقيضُ المؤذِي عند مثل ابن عمرو، وتَوالَى هذا الداء مستشرياً متوارثاً حتى قضى عليه الملك عبدالعزيز بآخر معركة حاسمة؛ لأنه أقام دولته على حقائق الدين والعقل السياسي المدني؛ فينبغي إعادة النظر في هذه الرسائل، والتعليقُ عليها بما تبرأ به الذمة، وردُّها إلى مذهب السلف الذي يتحرَّاه أهل السنة والجماعة ومن ضمنهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله تعالى.. ومن الحميَّة للرأي الفردي الأرعن الذي خطؤه أصلع أنني استدركتُ على شيخٍ فاضل هو أوسع علماًأرجح عقلاً: أن الاغتسال بالماء المقروء فيه في الحمام ليس ضرورة، ولا يحل؛ فانبرى ذلك الدكتور العامي - وليس هو مَعْنِيّاً في استدراكي - يُبيح مجازِفاً في دين الله الاغتسالَ بالماء المقروء فيه في الحمام؛ لأن الجسد يشرب الماء؛ فتعالى الله عما يقولون.. وما أقل فقهه، وما أبعده عن محل النزاع!!.. وأقول: أيها الغِرُّ البليد ما أفتيتَ به أنت حرام حرام حرام، وهو افتراء على دين الله القاضي بتقديس كلام الله عن الدنس؛ فما بالك بالنجاسة.. وشُرْبُ الجسدِ الماءَ يكون بعد مُدَّة مِن الغسل من حدث أو ضرورة نظافة.. ومحلُّ النزاع أصلحك الله ومنحك العلمَ قبل أن تتصدَّر للفتوى إنما هو صبُّ الماء المقروء فيه على الجسد ابتداء في الحمام؛ فكيف يشرب الجسد الماء وهو يجري من الإناء ومن الجسد دَفْقاً وسيولةً في مجاري الخبث؟!.. إن من واجب ولاة الأمر متابعةُ الفتاوى؛ فمن كَثُرَتْ أخطاؤه ومجازفاته فَيُعْفَى مع بقاء راتبه غير منقوص إلى أن يتعلَّم قبل أن يتكلَّم، وإلى أن يتورَّع قبل أن يُجازِف.. وإذا كانت هذه صراحتي مع مذهب أهل السنة والجماعة الذين وصفتهم بأن أخطاءهم النادرة مغمورة في جوانب إصابتهم؛ وذلك عند كلامي عن أخطاء قلة منهم: فمن العدل أن يقبل مني الأخ عمرُ كامل المصارحةَ فيما أبداه عن أهل القبلة، ولاسيما قولَته الشنيعة: (إن نصف مقررات التوحيد ليست من التوحيد)؛ فالذي أُبيِّنه أولاً أن أهل القبلة مسلمون بعضهم أولياء بعض، يَردُّون اختلافَهم إلى نصوص شرع دينهم بالمنهج الذي رسمه لهم ربهم، ولا يبتغون الهداية والإعانة ممن صنَّفنا من أعداء الملة الذين جعلوا مذهب أهل السنة والجماعة في خانة الإرهاب.. إلخ، وجعلوا بِدَع التصوف وعبادةَ القبور في حقل من يجب أن يُقَرَّ في برامج التعليم، وأن تدعمهم القوى المتنفِّذة المخالِفة لنا في المِلَّة إغراءً بالمال وتضليلاً بالفكر وترويعاً بالتهديد؛ فالأغيار يا عمرُ أصدقاء أَوِدَّاء لِعُبَّاد القبور ودراويش التكايا كما هم مع فِرق الباطنية سواء بسواء.. والفارق حفظكم الله أن الخلاف بيننا وبين عدونا الذي يكيد لنا في الخفاء والعلن وهو ليس على ملتنا خلافٌ يحكمه العقل البشري المشتَرك بمصادِرِه الحسية في إظهار براهين الحقائق المغيَّبة من شواهد الحس العام، والمأثور التاريخي للأديان، وآثار الهالكين على وجه هذه البسيطة.. والخلاف على هذا الشأن وبهذه الصفة يُلغي مفهومَ المفردَةِ التتلقيناها تلقيناً وتدليساً وتسييساً، وهي (الأُخُوَّة الإنسانية)، وهم لا يعترفون بهذه الأخوة؛ وإنما في ديننا علاقةُ التعاون البشري بالصدق والعدل، واستثمار عناصر الخير المشترَكة، والوفاء بالعهود والمواثيق وحق المعاهَد والمستأمَن بكل سُبِل التعاون في رفع الجوائح ودفع المضار التي تشمل البشرية، والمرحمةُ لمن هو مواطن في بلاد المسلمين إذا أدَّى حقَّ المواطنة.. وهؤلاء الأخيرون إذا أدَّوا حقَّ الوفاء؛ فإن بيت مال المسلمين يتكفَّل بإعانة الفرد منهم إذا عجز، ومواساته إذا افتقر تَقَرُّباً إلى الله لا تمظهراً عند البشرية، وهل أبلغ من قوله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ سورة الممتحنة (8 -9)؛ فأين هذا النور عن ظُلم البشرية الأرعن في العهد القديم المبدَّل وشروحه التي هي المصدرُ الأساس لأهل الكِتابَيْن؟!.. وأما الخلاف بيننا نحن أهل القبلة فهو اختلاف من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.. وكلهم جبهة واحدة في نحور عدوهم على مدار التاريخ الإسلامي، وكلهم يريد الحق، ويتفاوتون في كثرة الحق.. إلا أن عَدَمَ الإصابة يكون تبعاً للخلل في سبل الاجتهاد المشروعة؛ فالمبتغى من أهل السنة والجماعة وإخوانهم أهل القبلة الردُّ إلى الأمر الأول، وفهمُ شريعة الله على مراد الله؛ وهذا لا يحصل إلا بالتلاقح بين أهل الاختصاص؛ فكل مسألة شرعية فيها حكم من الله أو خبر لا يتأتَّى فهمُها إذا لم تكن محكمة صريحة إلا بالرجوع إلى أهل الاختصاص؛ فتأخذ من اللغوي والنحوي خبرته بأوجه الدلالة، ومن المؤرخ درايته بطرق التوثيق، وبتأصيل المفكرين واللغويين وأصحاب الدراية بعلل الحديث في علم الدلالة والثبوت؛ فيؤخذ مرادُ الشرع بيقين أو رجحان، ولا يجوز ادِّعاء أن حِذْق هذه التخصصات في مذهبٍ بعينه.. وحضورُ الفكر شرط ضروري عندما ترجع لأهل الاختصاص في كل فنٍّ؛ لأن العقل هو المخاطَب بالشريعة.. إلا أن العقل المخلوقَ عبدٌ لله الذي خلقه، متدٍ بشريعة ربه؛ فالذي نزَّل الشرع هو الذي خلق العقل ووهبه قُواه ومداركه.. وما جعل الله حصافة الفكر ورصانته عند أهل السنة والجماعة وحدهم؛ بل العقل نور الله المشتَركُ.. إلا أن شَرْطَ منزِّل الشرع خالقِ العقل أن يكون دورُ العقل في تلقِّي الشرعِ تحصيلَ مرادٍ شرعي لا أهواءً بشرية؛ ولهذا فدور العقل مع الشرع؛ (لإيمانه بعصمته وصدقه) أن يتلقاه بالفهم والتمييز، وبالمنهج الذي رسمه الله لنا كرِّد المتشابه إلى المحكم، وأن لا نُفسِّر شرع الله بغير دلالة تصحيحٍ من اللغة التي نزل بها ودلالةِ ترجيح على مراد الشرع من دلالة السياق ومعهود الشرع.. ولا دور للعقل في تعطيل النص، أو صرفه عن دلالته بلا بَيِّنة، أو الاقتراح عليه باستبدالٍ أو إضافةٍ أو نقص؛ وبمخالفة هذا المنهج عن دور الشرع مع العقل يكون البُعْدُ عن منهج الله، فيكثر الصواب عند طائفة ويقلُّ عند طائفة، وليس ذلك خمولاً في الذكاء والموهبة، ولكنَّ ذلك ببواعثَ الحمية للمذهب أو المجتمع والإلف والعادة، وكلُّ هذا يصرف العقل عن وظيفته؛ ومن هذا المنطلق فالوصاية الواجبة والتناصح والبيان والتعاون يكون بين أهل القبلة أنفسهم لا بتسييس عدوهم الذي يريد المزيد من تجزئتهم.. ورأيت في كلام أخي الدكتور عمر المطالبة بإلغاء أشياء إلغاؤها من باب المحال، فليس بقدرته ولا قدرة أهل الأرض أن يُلغوا ما في نصوص الشرع الصحيحة الصريحة من التكفير والتبديع والتفسيق لِمُعَيَّنٍ أو طائفة تتصف بما هو في الشرع كفرٌ أو فسقٌ أو بدعةٌ.. لا يمكن هذا من ناحية جحد الدلالة بضرورة اللغة والعقل ومعهود الشرع، ولست أعني إمكان إلغاء ذلك بالسلوك المجازِف؛ فذلك هو العِناد الـمُحرَّم.. وفي بعض هذه المسائل شُبَهٌ وإشكالاتٌ لا تَرفع معنى كفرٍ أو فسقٍ أو بدعيَّةِ المُعْتَقَدِ أو السلوك، ولا تحكم بذلك على من صدرت عنه هذه الأشياء إلا بعد قيام الحجة التي ينقطع بها المجادِل.. والذي يتولى هذه المهمة في إزالة الشُّبه هم أهل القبلة فيما بينهم؛ لأن الله أوجب عليهم التواصي والولاية فيما بينهم.. كما أنه ليس باستطاعة أهل الأرض كلهم أن يجدوا من الشرع ما يمنحهم تكفيرَ أو تفسيقَ أو تبديعَ شخصٍ أو فئة بلا برهان؛ فالتكفير والتفسيق والتبديع من حقِّ الله لا يحق لنا أن نُسْقطه، ولا أن ندَّعِيَه بغير بيان واضح من الشرع، وكل هذه الأمور ذات معانٍ في لغة العرب مِن المُحال جحدها.. ومن المحالات التي يطالب بهاأخيعمر إلغاء التصنيف الذي رَضِيه أهل القبلة فيما بينهم، وهو واقع الحال، ولم يفْترِه عليهم عدوُّهم؛ فالأشعري معتزٌّ بأشعريته، ولا يرضى أن يوصف بغيرها، وهكذا المعتزلي.. ثم ليعلم أخي عمر أن من نفائس مصادر أهل السنة والجماعة كُتُبُ فحولِ العلماء من الأشاعرة في الأندلس والمغرب والمشرق؛ فهذا العالم الرباني العابد النووي، والحافظ ابن حجر توجد كتبهم في الصدارة من مراجع المسلمين، وهكذا يَرْكنون لأمثال الباقلاني والجويني في مسائل أصول الفقه وعلم الكلام وكثير من مسائل العقيدة في علم الكلام رحمهم الله تعالى أجمعين، ولكن هذا لا يمنع من استدراكِ كل فريقٍ ما يراه خطأً في التأليفات والحوارِ بشرط الصدق والإنصاف والهدوء؛ فقد أمرنا الله بالمجادلة بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب؛ فكيف لا يكون الحوار أحسنَ وأحسن مع أهل القبلة؟!.. وليس بيدي ولا بيد الأخ عمر أن نُسْقط صفة القُبوريين من واقعنا المُشاهَدِ؛ فهذه الـمَشاهِدُ والمعابد الوثنية منتشرة في بلاد المسلمين وفي مساجد الأضرحة يدعونهم دعاء لا تَقِيَّة فيه بالشفاء والرزق؛ وإنما الممتنع أن نصف بالقبورية من لم يظهر من واقع حاله هذا الوصف.. وبناء التواصي بين أهل القبلة على الصدق؛ فلا نُظْهِر لإخواننا الناصحين لنا من نِيَّتنا ما لا يخفى على علَّام الغيوب جل جلاله؛ فندَّعي أننا نُسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ندعوه، وأننا لا نتقصَّد مقابلة قبره عند انتظار الصلاة.. ولا نشغب على شرع الله، فنردَّ الصحيح بغير الصحيح كإلغاء موقف أهل العلم بالنقل أن الاثنين والخميس قرينان في استحباب صيامهما؛ لأنه يكون فيهما عَرْضُ الأعمال، وكإلغاء رد الأئمة على الوهم في صحيح مسلم الذي جعل صيام الاثنين لأنه ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ومع التسليم بهذا فتلك واقعة رتَّبَ عليها الشرع سنيةَ حكمٍ شرعيٍّ واحد هو الصيام لوجه الله؛ فهل يحق لنا أن نزيد شرعاً آخر، وهل هذا مبيحٌ تشريعاً منكراً من الاحتفال بالمولد بما يعتقدونه عبادة لله بالأشعار الكَدِرة، و(الجوقة)، وتمايل الدراويش، والشهقات بل ضرب الرؤوس عند دعوى حضور روح رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعندي عشرات الشواهد من الموالد التي سجَّلتها من الداخل والخارج، وقد أعطيتُ صورة أمينة في كتيِّبي (مَلاعِبُ الوثنية) -؛ فهل على هذا برهان من شرع الله، وهل فَعَله مَنْ هم أصدق منا حُبّاً لرسول الله صلى الله عله وسلم ولا سيما الصحابة وتلاميذهم رضوان الله عليهم؛ فهم أقربُ عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشدُّ حُزْناً على فراقه الدنيا؟.. كلاَّ، بل المعهود ما بعضه بدعة بيقين، وما بعضه شرك بيقين.. وقد رأيت في سياق أخي عمر كلمة غير متصوَّرة وهي قوله: ((عدم صحة قياس التوسل على عبادة الوثن بجامع أن الدافع بينهم واحد وهو التقرب إلى الله تعالى؛ إذْ لا يستوي ما لا عبادة فيه لغيره تعالى مع ما فيه عبادة لغير الله؛ ولو كان غرض الفريقين واحداً، وهو التقرب إلى الله))؛ فهذا كلامٌ شديد الغموض ما فهمتُه إلا بمعاناةٍ شديدة؛ فالمعنى مُفاضَلةٌ بين أمرين مُحَرَّمين: وهما التوسُّل البدعي، أو الشركي - وسأذكر إن شاء الله التوسل المشروع -.. إلا أن الأستاذ عمر جعل التوسُّل معنى واحداً هو (ما لا عبادة فيه لغير الله)، وليس هذا هو محل النزاع.. والأمر الثاني هو عبادة الوثن، ولا فارق في الحقيقة، فكل ما عُبِد من دون الله فهو كفر، وكل ما عبد مع الله فهو شرك.. والفارق بينهما أن الأول جحد تتعدى فيه كَفَرَ مباشرةً كما في قوله تعالى: أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ (60) سورة هود، والثاني اعتراف بالله وإشراك في حق من حقوقه، وكلاهما كفر وشرك من جهة ما جحدوه من الاعتراف بالله أو من إخلاص حق من حقوقه.. ولا معنى للتقرب إلى الله إلا بما شرع، وقد أبطل الله الوهْمَ المضادَّ ذلك بإنكاره على المشركين بقوله تعالى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) سورة الزمر.. وحَلُّ كلمة الدكتور الغامضة ميسور إذا صدقت النية في تحرِّي مراد الله من غير حميةٍ للإلف والعادة؛ فلا أصْرحَ من قول الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) سورة الجن؛ فهذا نصٌّ قطعيٌّ دلالةً وثبوتاً على تحريم دعاء غير الله؛ فمن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلاً قبره الشريف أو غير مستقبل بأي نوعٍ من أنواع الأدعية (وإن كانت توسلاً) فذلك لا يجوز بعموم الآية الصريح الذي لا يوجد نصٌّ صريحٌ يَستثني منه، وإنما وُجدت النصوص الصريحة الصحيحة التي تُثبِّت عمومه؛ فنحن بصريح النص ندعالله أن يؤتيه الوسيلة والفضيلة، والوسيلة هي التي شرَّف الله بها عبده ورسوله بالشفاعة في المقام المحمود، ووهبها لعمومٍ من الخلق الصالحين في شفاعاتٍ جزئية، ولم يرد نص بأن ندعو رسول الله في دنيانا من أجل أن يتوسل لنا بالشفاعة.. وكيف يصح ذلك والنص الشرعي القطعي دلالةً وثبوتاً بيَّن أن الشفاعة في الآخرة بشرطين: هما إذن الله بالشفاعة، ورضاه عن المشفوع له؛ ولهذا لم تنفع شفاعة إبراهيم الخليل وهو أفضل الأنبياء والمرسلين بعد محمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه وبركاته في الشفاعة لأبيه آزر، ولم تنفع شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لقوم يُذادون عن الحوض؛ فقيل له بأبي هو وأمي: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك).. وليس غاية المسلم - بصرفه أكثر الابتهالات في التجمعات والمناسبات البدعية في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يذكر الله إلا قليلاً - أن يعتمد على طلب شفاعة لا يُدرَى هل يُؤذن بها في الآخرة أو لا؛ وإنما غاية المسلم أن يُزاحم بالعمل الصالح وترك المحرمات، وما يحصل له من شفاعة في أمور قَصَّر فيها فذلك خير ورحمة من ربه إذا أذن بالشفاعة؛ فذلك تَبَعٌ لإحسان المسلم الظن بربه.. فهل يحق لنا يا أخي عمر أن نُسْقِط الوصف بالقبورية بعد هذه النصوص الصريحة من أجل حكايات ومنامات كقصة الأعمى التي ذكرها ابن كثير عمَّن لم تقم به الحجة في تفسيره قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64) سورة النساء.. قال (وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه الشامل [هو عبدالسيد بن محمد البغدادي الشافعي (400 - 477 هـ)، وهو ثبت دين ذو خير وفقه رحمه الله تعالى] الحكايةَ المشهورة عن العتبي قال: كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64) سورة النساء، وقد جئتك مستغفراً لذنبي، مستشفعا بك إلى ربي.. ثم أنشأ يقول:

يا خير مَن دُفِنتْ بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهنَّ القاع والأكَمُ

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفافُ وفيه الجود والكرم

ثم انصرف الأعرابي؛ فغلبتني عيني؛ فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا عُتَبِى: الحق الأعرابي؛ فبشره أن الله قد غفر له))؟.. فهذا حفظكم الله وما يشابهه من المنامات والحكايات هل ترى أنه يجوز الردُّ به على الله في نصوصه الشرعية؟.. ثم لو صح السند عن الأديب العتبي فهل نجعل منامه وحياً نبني عليه حكماً يخالف قطعيَّ الشريعة، وهل مَحَلُّه الصدقُ فيما عارض الشرع، ولاسيما أن الآية عن المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم الذين وبَّخهم الله في أفعالهم وتقاعسهم عن الجهاد، وأنهم بدلالة {لَوْ} معتوبٌ عليهم؛ إذْ لم يأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حياته - لأنهم معاصروه - ليستغفروا اللهَ، ثم يستغفر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟.. ثم هل في نصوص ديننا أن من أذنب يذهب إلى قبره فيطلب شفاعته بغفران الذنب والشفاء من العمى، ثم يتم قبول الشفاعة في الحياة الدنيا؟!.. وبعد هذا فإن نصوص الفتنة في الدين كثيرة جداً، وقد يُفتن مَن أصرَّ على مخالفة نصوص الشرع بأن يتحقَّق عند دعائه القبر ما يظنه استجابةً من الميت وهو في الحقيقة استدراج.. ومن المعلوم أن مآل كل عبادةٍ إلى الدعاء؛ لأنه الوسيلة إلى مرضاة الله؛ فلا تكاد تخلو عبادة من العبادات من الدعاء.. وصرف العبادة لغير الله شرك؛ ولهذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يكون قبره وثناً يعبد من دون الله؛ ولما اقتضى قدر الله الكوني أن يُدخَل قبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي بعد توسعته في عهد الوليد بن عبدالملك: اقتضى تدبير الله الكوني في أجمل حقب التاريخ أن يكون للقبر حُماةً يمنعون بالتوجيه والوسائل المشروعة التوجُّه إلى القبر بالدعاء.. والأمر يا أخي عمر بعد هذا يسير، فمهما خفَّت حِدَّة الحوار بين أهل القبلة، أو اشتدَّت لعنادٍ فكري من أحد الطرفين في مثل دعوى مشروعية دعاء محمد في قبره أن يشفع له فالأمر يسير.. ومعنى يُسْرِ الأمر أن يَـخْلُوَ صاحبُ الدعوى مع نفسه أو مع مَن يصطفيهم من ذوي التمكُّن في الفكر والعلم، ويستعرض أدلة الطرفين، ويكون أميناً على نيَّتِه عند عَلَّام الغيوب، ويتجرَّد عن كل شيء إلا عن طلب الهداية إلى الحق بدعاء الله إخلاصاً وإلحاحاً أن يريه الحقَّ حقاً ويرزقه اتباعه.. إلخ، ويقارن بين الأدلة دلالة وثبوتاً عند ذوي الاختصاص في التوثيق التاريخي والدلالي.. وأما مصدر الاستدلال فلا يحتاج إلىمراجعة؛ فهو يعلم بالبداهة أن الإمامَ هو النصوصُ الشرعية الصحيحة الصريحة على المراد لا الحكايات عمن لا تقوم به حجة ولا بالمنامات، وليحذر من لقاء ربه على نية انطوى عليها مُعْتَقَدُهُ بالحمية والهوى والإلف مع وضوح الحجة، ثم أخفاها عن المناصِحين له بقطعيات الشريعة.. ثم بعد ذلك لا يُحدث الفرقة بين جمهور المسلمين بسلوك علني يرفضونه.

قال أبو عبدالرحمن: وههنا مسائل تحتاج إلى لمحات موجزة منها ما ذكره الأستاذ عمر كامل كالقياس في العبادة، والوسيلة المشروعة، ومنها ما تفرَّع عن ذلك كالتبرُّك.. وكلها تحتاج إلى بيان الوقائع بأمانة؛ ليرتفع الخلاف بين أهل القبلة، وأما إظهار الحكم فالاختلاف فيه بحمد الله معدوم إلا عند ذي هَوَى مُوبِق؛ فأما القياس الذي أُعطي أكثر من حجمه، وصار موضعَ خلافٍ عريض كثير الشُّعب بين علماء المسلمين: فلا ينبغي لعالم عاقل أن ينكره لا في الفقه ولا في العبادات ولا في الآداب، ولا ينبغي لعاقل عالم من مثبتي القياس الادِّعاءُ بأن القياس برهانٌ كاشفٌ الحكمَ الشرعيَّ؛ فكلا الأمرين هما منتهى الطرفين الذميمين، وهما اللذان جعلا هذه الأسفار الكثيرة الكبيرة في إثباته أو نفيه جدلاً بيزنطياً في غير محل النزاع لا ينتهي إلى غاية.. والذي أتدَيَّن لربي به أن القياس من طرق البحث الضرورية للعلم بأوجه الاختلاف والائتلاف بين أمرين، وهو يكشف عن الوقائع، ولا يكشف عن الحكم الشرعي، وليس برهاناً عليه؛ فالقياس الذي يحتاج إلى خبرة وتجربة علمية هو من أجل معرفة الفوارق في مثل الكلب والخنزير؛ وفي مثل الضرب والشَّتم؛ فالقياس الأول يُظهر الفوارق الحسيَّة بين الكلب والخنزير ككون الخنزير أشدَّ قذارة، وكون الكلب معكوفَ الذنب ويلهث بخلاف الخنزير.. ويُظهر القياس التساويَ في أشياء كالسَّبُعِيَّة، وحُرْمة أكلها في شرعنا؛ فإذا جاء النص الشرعي مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، وليعفره الثامنة بالتراب)؛ فههنا نصَّ الشرعُ على ثلاثة أشياء باسمها، وهي الكلب، وكل إناء، والولوغ.. ولم ينص على معنى كالسَّبُعِيَّة أو النجاسة؛ فهل يجوز لنا قياس الخنزير على الكلب في بعض الصفات أو الأشباه؛ لِنُجري للخنزير حُكمَ الكلب؟.. ههنا يقال لمن أراد التسوية بينهما في الحكم: (لا يكفي القياسُ المُظهِرُ التسويةَ الواقعية بينهما في مثل معنى السَّبُعيَّة)، بل عليك البرهان من الشرع على أن صفة السَّبُعِيَّة تقتضي الغسلات المذكورة؛ فإن لم تجد برهاناً من الشرع؛ فالقياس أَظْهَرَ لك ائتلافاً واقعياً بينهما في صفة من الصفات، ولم يُظهر لك برهاناً من الشرع على أن هذه الصفة هي الـمُقْتَضِيةُ الغسلات السبع والتعفير، فيبقى هذا الحكم للاسم فقط وهو للكلب والولوغ في الإناء، فإن سقط الكلب في الإناء بغير ولوغ، أو سقط الخزير في الإناء بولوغ أو بغير ولوغ فواجب تطهير الإناء بما تزول به النجاسة يقيناً سواء أكانت الغسلات أقلَّ من سبع أو أكثر، وسواء أرافق الماء ترابٌ أو غيره من المطهِّرات.. فإن ولغ الكلب في اليد فواجب غسلها سبع غسلات وتعفيرها بالتراب وإن كانت اليد لا تُسمَّى لغة إناء؛ لأن هذا الفارق غير مُؤثِّر؛ لكون اليد محلاً للولوغ كما كان الإناء مَحَلّْاً له.. فإن كَشَفَتِ الخبرةُ العلميةُ يقيناً أو رجحاناً أنه يصدر من ولوغ الكلب ما لا يزول إلا بالغسلات السبع مع التعفير بالتراب أو بمادة أخرى، ثم أثبتت الخبرة العلمية يقيناً أو رجحاناً أن حيواناً يصدر من ولوغه ما يصدر عن ولوغ الكلب: فإن الحكم الشرعي يتعدَّى إلى الحيوان الذي شارك الكلب؛ لأن الخبرة الحسية التجريبية العلمية أَظْهرت أن الغسلات السبع والتعفير من معقول النص الشرعي، وليست تعبُّدية خاصة بالكلب.. والقياس يُظهر لك الواقعة بأن الشتم كالضرب في التسمية اللغوية بالوصف، وهو الاعتداء، والنص الشرعي قضى بالمقاصَّة في الاعتداء، فاقتضاء المُقاصَّة موجود باسم الاعتداء؛ لأن الشرع جاء بالنص على الصفة لا على اسم الضرب أو الشتم، ولكنَّ وجود المقتضي لا يتمُّ إلا بتخلُّف المانع؛ فتكرار الضرب في عضوٍ مريضٍ يُفضي إلى الموت أو تعطيل العضو لا يُبيح المُقاصَّة في ذلك العضو؛ لأن المُقاصَّة الشرعية بالمِثْل لا بالزيادة، والشتم والقذف مُحرَّمان شرعاً؛ فلا قصاص في المحرَّمات، بل يُلْجَأ إلى العقوبة الشرعية للمحرَّم حدّاً أو تعزيراً.. وأما الوسيلة بمعنى التَّقَرُّب إلى الله بما شرعه الله فذلك مأمور به وهو لُبُّ العبادة كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) سورة المائدة، وجاء الأمر بالوسيلة في معرض النهي عن دعاء غير الله في قوله تعالى: قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا سورة الإسراء (56 - 57)؛ فَعُلِمَ أن دعاء غير الله ليس وسيلة إلى ما يحصل من التوسُّلِ بطاعة الله.. وعُلِمَ بالنصوص الأخرى أننابدعائنا نسأل الله الوسيلة لمحمد في الآخرة، ولا نطلبها بمناجاته في قبره، وأن العمل الصالح الخالص لله قد شرع الله التوسُّلَ به إلى الله لكشف البلاء كما في حديث أصحاب الغار.. وأما التبرُّك ففيه ما هو مشروع؛ فحب ُّ الفأل تبرُّك بخلاف التشاؤم، والصلاة في المساجد الثلاثة والمسجد العتيق تبرُّكٌ بزيادة الأجر.. وزيارة الصالحين والأولياء (الذين هم على منهج السلف في عبادتهم بخلاف من تُدَّعى لهم الولاية وليسوا على سنة الشريعة من أهل الدجل والشعوذة والأحوال التي لا تعرف عن أفضل الأولياء في أمة محمد ابتداءً بأبي بكر وإخوانه من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم) في حياتهم: تبرُّكٌ بدعائهم، وتَيمُّن بمجالستهم.. ولكنَّ الجدارَ الحادث المزخرف المبني على الحجرة التي فيها قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هل ورد في التبرك به وتقبيله إذن شرعي، وهكذا التبرك ببعض البقاع؟.. فإن وُجِد عليها دليل شرعي فعلى السمع والطاعة، وإن لم يوجد فهي بدعة مُحْدَثة، وهكذا التوسُّل بالأموات الأخيار إذا أتى قبر واحد منهم معلناً قوله: (جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي) فلا يشك فصيح ولا عامي في أن ذلك دعاء وطلب من الميت.. وأما مناهج التوحيد التي لا تمتُّ إلى التوحيد فعلى الدكتور أن يبرأ من دَمَامة الدعوى الكاذبة بأن يذكر مثالاً واحداً.. وأما بالنسبة لي فقد درَسْتُ مادة التوحيد في مراحل الدراسة بكتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب فما وجدت إلا خلوص الوحدانية للرب سبحانه في صفات الكمال المطلق الذي لا يقبل إضافة، والتنزيه المطلق عن النقص الذي لا يقبل سلباً في صفات الله (توحيد الله بأسمائه الحسنى)، وما يصدر عنها من أفعال (توحيد الله في ربوبيته)، وإخلاص أفعالنا وَفْق ما شرع الله لنا (توحيد الله بأفعالنا التعبُّدية).. ودرَّستُ ذلك متعاوناً في مدرسة ليلية مع شيخي محمد ابن داوود رحمه الله تعالى، ودرَّستُ ذلك مع الفلسفة الإسلامية مُتعاوناً بدعوة من الدكتور أحمد التويجري في جامعة الملك سعود للبنين بالكلية، والبنات بعليشة: فما وجدتُ إلا الرضا، وما وجدت حرجاً، وما كنتُ يومها مُتَمَشْيخاً، بل زِيِّي زِيُّ الظرفاء.. وأما التساهل في التبديع فقد كان لي شيخ فاضل يُدَرِّسني في معهد شقراء العلمي -؛ فلما انتقل إلى الرياض توشَّجت الصلة به في زيارته بديوان المظالم مع فضلاء آخرين كالشيخ محمد ابن هليل، والشيخ يحيى بن حسين، وكان يفركإبهامه بِمُسبِّحته، ويقول: (ابن قيم الجوزية دقيق) يعني في تحقيق العلم، وما كنت أستطيع يومها المُصارَحَة إلا عند أفراد لا ينالني من إنكارهم ضرر، ولا سيما أن شعرتي سوداء عند كبار المشايخ، وكنت أُجامِل، وأقول: إذا قال ابن قيم الجوزية: (قال أبو محمد) فاعلم أنه مُعْجَب بما سيسوقه من كلامه؛ فإن قال: (قال ابن حزم) فاعلم أنه سَيَمْحَطُ به)!!.. ففرح القوم بهذه التحفة -، والشيخ عبدالعزيز الهويش، والشيخ عبدالرحمن المحيميد، ومعالي الشيخ محمد ابن جبير رحمهم الله جميعاً، وفضيلة الشيخ محمد الهويش متعه الله بالصحة والعافية.. وكان بيني وبين بعضهم مناسبات اجتماع في البيوت على العشاء مرة في الأسبوع؛ فكان شيخي الـمُومَأُ إليه ينكر عليَّ بعنفٍ أن يُغَيِّر الإمام من صوته عند الجلوس لأحد التشهدين؛ ليعلم المصلون فلا يقومون، ويُؤَكِّد أن ذلك بدعة، وقال لي (أتجعل حِمْلَ الصلاة على الإمام؟.. لماذا لا يفطن المأموم لصلاته؟)؛ فقلت: (لسنا متعبَّدين بنغمة مُعَيَّنة)؛ فأصرَّ على أن ذلك غير جائز، وردَّد قولي بنغمة التعجب الإنكارية، وأنه قريب من البدعة؛ فسكتُّ لكونه شيخي، وهو أكبر سناً، وأنا بين مشايخ أُعَدُّ في سن أولادهم.. والواقع أننا نؤدِّي صلاتنا بلغة العرب في التكبير، وللعرب سُنَّةٌ في نطقهم من حيث يتلاءم الصوت مع ما رسم له أهل الإملاء علامات التأثير كالتعجب والسؤال الإنكاري، والإيحاء بالنبر، فإذا ألقيتَ (الله أكبر) دفعةٍ واحدة وأنت في النهوض عَلِمَ المأموم أن لا جلوس، فإذا تراخيتَ بالكلمة علم المأموم أنها تكبيرة للجلوس؛ وهذا من باب التعاون على البر والتقوى؛ وإنما البدعة أن يجرَّ الإمام المدَّ في {وَلاَ الضَّالِّينَ} (7) سورة الفاتحة؛ فتعدَّ بحركات الأصبع أكثر من عشرين حركة، وأعلى المد ست حركات، ولهذا كره الإمام أحمد وغيره هذا المد وأنكروه رحمهم الله جميعاً.. وفي الحلقة الأخيرة إن شاء الله أختم بحديث عن الدستور المصري عارضاً إياه مع همومنا المحلية على وقائع التسيس العالمي والتدليس؛ فإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان.

- عفا الله عنه -

هـذه هُوِيَّـتُـنـا (4-5)
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة