Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناMonday 18/03/2013 Issue 14781 14781 الأثنين 06 جمادى الأول 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

الأنثروبولوجيا نقله نوعية ساهمت في تشكل الفكر المعاصر وتحديد مسيرته على الطريق الصحيح نحو فهم الطبيعة البشرية والتعايش الإنساني وتحرير العقل من العنجهيات المذهبية والعنصرية والشوفانيات العرقية، بل إلى ربط الإنسان بالطبيعة بعدما كان ينظر إلى نفسه ككائن فوق الطبيعة.

هذا ما ذكره أستاذ الأنثروبولوجيا والكاتب المعروف الدكتور سعد العبدالله الصويان، في التوطئة وعلى الغلاف الخلفي لكتابه الجديد بعنوان “ملحمة التطور البشري”، الذي أهداه “إلى أجيال ستأتي لديها الجرأة على طرح الأسئلة ومواجهة الإجابات الصعبة”. الكتاب جاء في أكثر من ألف ومائة صفحة متضمناً توضيحات بالصور والرسوم والجداول وبفهرست تفصيلي للكلمات، وقائمة مراجع بأكثر من خمسين صفحة.

الكتاب من النوع الشمولي للأنثروبولوجيا، يقول المؤلف: “هذا الكتاب ما هو إلا خارطة طريق تلقي الضوء على تضاريس هذا العلم وعلى نقاط التماس بينه وبين العلوم الأخرى.” والكتاب يتمثل عنوانه بأنه سيرة ملحمية في تاريخ الجنس البشري. ولا شك أن هذا السفر الضخم تطلب جهداً جباراً وتنظيماً صارماً تحلى به الكتاب، إذ ينقل عن الصويان قوله إن فكرة الكتاب قد بدأت منذ ثلاثين عامًا، وابتدأ العمل عليها ككراسات ومذكرات لطلابه في الجامعة (كما جاء في موقع مجلة المجلة).

لعل أول ما يتبادر إلى الذهن هو الحجم الضخم للكتاب في زمن الإنترنت حيث ينصح الناشرون مؤلفيهم بالاختصار بل وبالاجتزاء إذا لزم الأمر، فالقارئ أصبح متوجهاً أكثر للمقطوعات المختصرة في الإنترنت منتقياً جزءاً محدداً من الموضوع الذي يريد، فأمامه معلومات متدفقة من كل حدب وصوب وفي كل طرفة عين. وتؤكد الاستبيانات العالمية: إن الغالبية يتوجهون إلى الإنترنت ولا يشترون الكتب، وأغلب من يشترونها لا يقرؤونها، ومعظم من قرؤوها لا يتجاوزون الصفحات الأولى (ميشيل ليفين 2010).

لكن الحجم الضخم للكتاب له مبرراته بالنسبة للمؤلف حين ذكر في الجزء الثاني من التوطئة: “حينما شرعت في تحرير هذا الكتاب ما كنت أتوقع أن يصل إلى هذا الحجم. ولكن إذا كانت تواريخ الأمم، بل سيرة حياة فرد واحد من البشر تصل إلى مئات الصفحات فما بالك بسيرة الجنس البشري.. وقد يصعب مقارنة أي علم آخر بالأنثروبولوجيا من حيث شموليته واهتمامه بكل ما هو إنساني وبالتالي ترابطه مع مختلف حقول المعرفة الإنسانية..”. وهذا ليس فقط قول الصويان كمختص متبحر في تخصصه بل هو رأي معروف حيث تذكر الموسوعة الألمانية للفلسفة بأن الأنثروبولوجيا يضم في طياته كل الأسئلة الفلسفية.

كما أن ما يشفع لضخامة الكتاب هو أنه يدعم المكتبة العربية المفتقرة لهذا المجال بهذه الشمولية التي تستلزم هذا الحجم. وكان المؤلف على وعي بذلك بتوطئته: “ما حدا بي إلى التوسع بحيث بلغ الكتاب هذا الحجم هو أن غالبية الأفكار التي يتناولها مبسوطة في مصادر أجنبية قد لا تكون متاحة لمعظم القراء العرب..”. وإذا اعتبرنا أن الكتاب مرجع شامل في مجاله فليس لزاماً أن يُقرأ كاملا، فكل فصل فيه هو بمثابة كتاب بحد ذاته.

وقد توزعت مواضيع الكتاب في ستة فصول بدءاً من نشوء الحياة وتشكل الأرض ومنتهياً بالبناء الاجتماعي، مرورا بالنسق الاقتصادي والديني. والفصول هي: التطور البيولوجي، التكيف الإيكولوجي والديموغرافي، النسق الاقتصادي، النسق الديني، النسق اللغوي، البناء الاجتماعي. هذا التوزيع يشير إلى ميل الكتاب لمنطق التحليل المادي للتاريخ، ويتضح ذلك في الجزء الأول من التوطئة حيث يرى المؤلف أن علماء الاجتماع صاغوا مسألة التفرعات والفروق بين الحضارات والمجتمعات وفق فرضية “أن القاعدة التكنولوجية تتفاعل مع البيئة الطبيعية ومواردها لتشكل الأساس الذي يقوم عليه النسق الاقتصادي، والذي بدوره يحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية وما ينتج عن ذلك من أنساق وقيم ورموز ثقافية متمايزة، لتشكل في مجموعها بنية فوقية، أي هياكل أيديولوجية وعقائدية توجه الفكر والسلوك وتحدد مسارهما.”

إذن بطبيعة الحال، أن يتبنى المؤلف المنهج العلمي، لكنه أيضاً تبناه بصرامة الأكاديمي العتيد وعلى الطريقة الموضوعية في العلوم الإنسانية التي تعتبر الواقعة شيئا خارجياً مستقلاً عنا، وكل ما علينا هو استخدام المنهج العلمي الذي أثبت كفاءته في تناول الظواهر الإنسانية والاجتماعية. هذا المنهج يتبع النزعة الطبيعية التي لا تميز بين نموذجين للعلم أحدهما للعلوم الطبيعية، والأخر للموضوعات الإنسانية والاجتماعية التي تعتبر الإنسان جوهراً يستعصي على مناهج علوم الطبيعة. بل إن هذه النزعة الطبيعية تعتبر منهج العلوم الإنسانية يحتذي نفس منهج العلوم الطبيعية لاسيما في الأنثروبولوجيا حيث تتضافر كافة علوم الطبيعة (خاصة الجيولوجيا والأركيولوجيا والبيولوجيا) لدعم مواضيعه.

والمؤلف كرر كثيراً في توطئته قناعته الراسخة القطعية بالمنهج العلمي، “بقدر ما ينطبق المنطق العلمي على العلوم الطبيعية فإنه ينطبق على العلوم الإنسانية والاجتماعية.” وبضرورة “سمة التجرد التي لا بد من توفرها في العالِم لمنع وجود أي ارتباط شعوري أو مصلحي بين الدارس والموضوع. لذا يلجأ العالم إلى توظيف أدوات المنهج العلمي ليحترز بذلك من الانطباعات الحسية والمشاعر الشخصية والنزعات الذاتية، ومن ترسبات القيم والتقاليد والإيديولوجيات التي قد تحول دونه ودون التوصل إلى الحقيقة المنشودة.”

هذا لا يعني أن الكتاب كان عرضه أكاديمياً جافا، فالمؤلف مفكر وكاتب بارع له إسهاماته العديدة في المشهد الثقافي العربي، ويتميز بصياغة خاصة ورشيقة في الطرح لا تخلو من طرافة، خذ مثلا في الجزء الثالث من التوطئة يقول: “قصدت بهذه المقدمة الاعتذارية أن أستدر تعاطف القارئ وتفهمه للمصاعب الجمة التي يواجهها كاتب يحاول أن يعرض بشكل يسهل استيعابه وتتبعه أفكاراً متشابكة رقابها تأخذ برقاب بعض...”

مواضيع الأنثروبولوجيا ليست من المواضيع التي يسهل استيعابها للقارئ العادي نظراً لتشابك الحقول المعرفية فيها، رغم أن المؤلف بذل حرصاً واضحاً في تسييرها، بل أن ذلك شكل هاجساً لديه حيث ذكر في توطئته: “كنت دائما أثناء الكتابة أحاول ما استطعت أن أضع نفسي مكان القارئ الذي يطلع على الموضوع لأول مرة..”. وفي تقديري أن المؤلف وفق في ذلك ما استطاع.. ليأتي هذا الكتاب كإضافة نوعية للمكتبة العربية، وأتوقع أن يصبح من أمهات الكتب العربية في مجاله.

alhebib@yahoo.com

الصويان يرصد ملحمة التطور البشري
د.عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة