Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناTuesday 26/03/2013 Issue 14789 14789 الثلاثاء 14 جمادى الأول 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

عندما كنت أرتجل محاضرتي “تجاربهم في القراءة” في مكتبة الملك عبدالعزيز بالرياض، نَدَّتْ عن ذاكرتي أشياء كثيرة، أعفت رسومها عوادي الزمن. وألمحت إلى أشياء تَصَيَّدْت شواردها من مغارات الذاكرة الكلَّة، ووقفت على أخرى (وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمة).

ومن أهم المحطات القرائيَّة ذلك الشيخ الحضرمي الوقور، الذي جاء به ابنه العامل في أول بنك وضع للناس في بريدة، وكان يتعهد مكتبتها العلمية بزيارات منتظمة. ولما كنت من رواد المكتبة، ومن أصغرهم سناً، رغب في أن يسهم في صياغة ذهني، وكسر النمطية القرائية، لقد فجر في أعماقي أشياء، ما كنت أحتمل تململها، فضلاً عن تفجيرها.

وحين تفرقت بنا السبل، ظلت مقولاته الملغمة محفورة في أعماقي. لقد أيقظ عندي الشك والتساؤل، والبحث عن المضمرات، وقراءة ما تحت السطور، وروضني على التفريق بين الاختلاف والعداوة، ومكَّنني في وقت مبكر من الإلمام بكافة النظريات المعرفية عند الصوفيين والسلفيين والنصوصيين والعقلانيين وأصحاب الكشف والأحلام والتأويل، وتحررت عندي مسائل كانت غائمة عائمة.

فالمذهب العقدي، والانتماء الفقهي، والرؤية السياسية، وسائر الأنماط الاجتماعية التي أنتمي إليها شيء، والتواصل المعرفي مع المخالف شيء آخر. والتعصب الأَعْمى خَلِيْقَةٌ لا تمتّ إلى الانتماء السليم بِصلة، والأخذ بمحققات الانتماء تكون، وإن تفسحنا للمخالف، وأنْصَفْناه، وعرفنا له فضله، وغفلنا عما لا يعنينا من أمره. وفي هذا الخضم المتلاطم تمنيت لو بُعِثَ ذلك الشيخ الحَضْرمِي ليلقن المتخللين بأقلامهم وألسنتهم شيئاً مما تركه في أعماقي.

لقد أَقَرَّ في تصوري في وقت مبكر أن الاحتفاء بالمخالف، وتعقب ما يكتب، يعني تصور رؤيته كما هي، والكشف عن الثنيات والثغرات ومقارعتها بالحجة البالغة، والأخذ بأحسن ما يقول، إذ ليس في الكون شَرٌّ محض. كل ذلك عَدْلٌ يفرضه الشارع، ويدعو إليه، ومن ثم فاضت حقول مكتبتي بالكتب التي تُخالف رؤيتي، ولمَّا أزل أعْرف للمخالف فضله، ولا أجدني راغباً في مصادرة حقه، ولا تفضيل الصدام على الوئام، ولا الصراع على الحوار، ما أمكن ذلك، وإن اضْطَرَرْتهُ إلى أضيق الطرق، ونقضت غزله من بعد قوة أَنْكاثا، دون أن أتهمه بجهل، أو أَصِفَه بما لا يليق بمثله من مثلي. وحين يحتدم الخلاف بيني وبينه، أحَيِّدُ ذاته، وأفري بنات أفكاره، ولا أتيح له أي فرصة لاستفزازي، وحملي على فقد احتشامي.

- فهلا ارْعَوَيْنا، وأَدَرْنا أزمة الاختلاف باحترافية؟

وعيب المشاهد أن المستبدين بها يسلقون خصومهم بأقلام تقعقع كالشنان، وإذا بلي أحدنا بالبحث عن حقيقة واحدة في هذا النعيق، ليسْتَرْفِد بها، لم يجد إلا حشَفاً وسوء كيل. ذلك أنهم أجهل الناس بحقيقة المناوئ لهم، وأعجزهم عن دحض شبهه، وتفنيد آرائه، وظنهم الذي أرداهم زين لهم أن الإيجاف بالاتهامات كاف لانهاك الخصم، وهي ظاهرة تكاد تكون أزلية، فَمُقِلٌّ منها ومكثر، وناقل لم يتثبت، وكذَّاب أَشِرْ، يفتري على الناس الكذب. هذه الخليقة جعلتنا بارعين في صناعة الأعداء، غير قادرين على مقارعة الحجة بالحجة.

ولقد يؤدي الإيغال في الذم إلى تلبس خطابنا بالإقصاء، ومصادرة حقوق الآخرين، والضيق بالمخالف، وإن لم يترتب على مخالفته ضرر، أو مُعَوِّقٌ لمسيرتنا. ومنطق العدل والعقل أن لكل مُسْتَهمٍ في القرية الكونية رؤيته التي تخدم مصالحه، مثلما أنَّ لنا رؤيتنا. وإذ نكون أحراراً في موضعة الآخر، وتفكيك خطابه، والكشف عن نواقصه، فإن الحرية لا تخولنا التعويل على إصدار الأحكام، ومبادرة التصنيف، واستنزاف جاهزيات الأقوال المهترئة من الترديد، وملاحقة الكلمات القادحة، والتمترس خلفها. فبقدر اعتزازنا بمبادئنا، ومسلماتنا، وغيرتنا عليها، يكون المخالف كذلك، له مسلمات، ومبادئ، يغار عليها، وإذ لا يكون من مصلحتنا، ولا في مَقْدورنا تقويضها، نكون كـ(براقش) التي جنت بعوائها على أهلها، حين دَلَّتْ عليهم الأعداء.

وكم من مهتاج خال الوِفَاض، مَكَّن للعدو من رقبته، وشغل عشيرته بالمناكفات الملهية عن كل مكرمة، كما أنه بِهُرائه الفضائِحي يُشَرْعِن للخصوم إعداد القوة، لا لمجرد إرهابنا، ولكن لتحين الفرصَ، والانقضاض علينا في ساعة الغفلة، والاشتغال بالمفضول.

لقد جاء (الربيع العربي) بما لم يكن في الحسبان، فالمهمشون والمنفيون من الأرض، تسنموا المناصب، وتقدموا الصفوف، وكان القول ما قالوا، ومجيء هذه الشريحة بهذه السرعة، وبتلك المفاجأة، ربك المسيرة، وضاعف الأخطاء، وفَوَّتَ فُرص التقدير والتدبير. ذلك أن طائفة مِنَ المتسنِّمين للمناصب تنقصهم التجارب، وتعوزهم الخبرات. ومن ثم لا يذكرون العواقب، ولا يرقبون المشاهد، ولا يضعون حساباً للقوى المتحكمة بمصائر العالم. ولما لم يتدبروا تحركت المكائد، وفتحت الملفات، ونثرت كنانة العراقيل، وأشيعت الفوضى، ونشط الطابور الخامس، لإذكاء الطائفيات والأقليات، والحيلولة دون تقاسم الحقائب، وتداول المسؤوليات، وإنجاز الدستور، وتفعيل القانون، والفصل بين السلطات. وبهذا عادت حليمة إلى عادتها القديمة. حكومات تصل إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع، لتكون من الوطن وللوطن، فإذا بها تكون من الحزب وللحزب، ومن الطائفة وللطائفة. وفي ظل استحكام حلقات الفتن فإن علينا أنفسنا، إذ لا يضرنا من ضل إذا اهتدينا. وحين نقدم النصح، فإنه يجب علينا أن نَتَخَوَّل المتلقي، ونتلطَّفَ في التبليغ.

أما حين ينبري الخليون لتحقير مثمنات المخالفين، والنيل من رموزهم، وتسفيه أحلامهم، فإنهم يعيدون العداوة جذعة، ومن ثم يبادلوننا بالمثل، ثم لا نجد متسعاً من الجهد والوقت لتدبير أمورنا، والاشتغال بما يعنينا، وفي ذلك مخالفة صريحة لمبدأ (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). وعلى سبيل المثال نجد أن البعض منَّا يوغل في تجريح “الإخوان المسلمين” واتهامهم بأقذع الأوصاف، واستدعاء الأحياء منهم والأموات، وهم منتشرون في أقطار الدنيا، متفاوتون في مناطاتهم وممارساتهم.

ووصولهم إلى سدة الحكم بالاقتراع، يتطلب العمل على احتوائهم، فإن لم يكن، فلا أقل من تحييدهم، أما معاداتهم، واستعداؤهم، والتنازع معهم فخيار مفضول، ولاسيما أنَّهم لم يبادرونا بعداوة، ولم يستعدوا علينا أحداً، ونحن وهم نتفق في المرجعية، ونتحد في الهم، وإن اختلفت مفاهيمنا، وتنوعت أساليبنا. لقد عشنا معهم من قبل خلطة كادت توحد بيننا، فمنهم تعلمنا، وعلى كتبهم تثقفنا، ولكبارهم استضفنا، وعن مضطهديهم دافعنا، وتلك الوشائح تستدعي اتخاذ واحد من موقفين:

إما الاحتواء، أو التحييد. ولاسيما أن حزب الإخوان في مصر وصل إلى الحكم بإرادة شعبية، وحين لا يُحْسِن الحزب إدارة البلاد، فإن هذا شأن المواطن المصري، وليس من حقنا التدخل في شؤونهم الداخلية، وممارسة الهجاء المقذع. وإذا مسنا الضر منهم، أو اقترفوا خطيئة تصدير المذهب أو الثورة فإن علينا مواجهتهم بأخطائهم، عبر الوسائل المشروعة.

وإذا راق لبعض كُتابنا ومفكرينا موضعة الآخر، فليكن عادلاً، مهذباً بعيداً عن التجريم والتجريح. فالله يقول: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} ويقول: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. لقد كانت مواجهات البعض منا للمشروع الإخواني مدعاة إلى المبادلة بالمثل، وبلادنا قبلة المسلمين، ومهوى أفئدة الموحدِّين، وتَعَمُّدنا لخلق العداوات، وصناعة الخصوم، تحول دون تطهير بيت الله للطائفين والعاكفين والركع السجود. والذين يضيقون ذرعاً بدعوى الخصوصية، يجهلون تلك السمة، التي لم تكن لأي بقعة من ديار المسلمين. وخدمة المقدسات تتطلب تجسير الفجوات مع كل الأطياف والطوائف.

وإذ يكون من حق كتابنا ومفكرينا مشاركة النخب العربية في تشكيل الوعي السياسي والفكري والديني للأمة العربية، وإسماع الصوت، وطرح الذات بكل رؤاها، وتصوراتها، فإن ذلك لا يكون بالصراع والصدام، ولاسيما أن بلادنا طرحت مشاريع الحوار، وأكدت على التقارب والتعايش، ولقي ذلك قبولاً وترحيباً في الأوساط العالمية. وكيف يتأتى لنا تَمَثُّل هذه الرؤية، ونحن نستدعي بين الحين والآخر رموز الفكر العربي بأساليب غير حضارية، وغير معرفية، وغير إنسانية. فـ(سيد قطب) على سبيل المثال عالم جليل، وسياسي “راديكالي”، و(مناع القطان) وآخرون قضوا نحبهم، علماء أجلاء، يعلنون إخوانيتهم، وعلينا النظر إليهم على ضوء (تلك أمة قد خلت)، لقد ساءني ذلك الأسلوب العدواني، الاستعدائي. فالعلماء الذين امتلأت المكتبة العربية بكتبهم، وشاع ذكرهم، وتجذرت مكانتهم، وعرفهم القاصي والداني، لا يمكن التعدي على مكانتهم، والنيل منهم، مع أنهم قضوا نحبهم، وقَدِموا إلى ما قدموا. وإن كان أحد من أبنائنا قد حفل بهم، أو تقمص آراءهم، أو أشاع مذاهبهم، في زمن لا يحتمل مثل ذلك، فإن الأمور تعالج بأسلوب حضاري، بعيد عن التجريح، والتجهيل، والتقليل من الشأن. وكيف يبيح كاتب لم يبلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه لنفسه مثل هذا الأسلوب الهجائي. علماً بأن العلماء الأموات المنتمين لهذا الحزب، أو ذاك، لا يتحملون أخطاء الأحياء، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. ثم إن الصراع في النهاية (أيديولوجي) نعرفه من لحن القول.

وكم يحز في نفسي أن تصل المناكفات إلى حد القول:

(فغض الطرف إنك من نمير)، لرجل ينتمي إلى أسرة ندين لها بالفضل، وعسى أن يكون المتصدي قَصَدَ الانتماء الفكري، لا الأسري. وعلى أية حال فالخطأ لا يبرر الخطأ، والشاعر العربي يقول:

(إِذا جارَيتَ في خُلُقٍ دَنيئاً ... فَأَنتَ وَمَن تُجاريهِ سَواءُ).

أيها الموجِفُون بِشَبَا أقْلامِهم ارْبَعُوا على وطنكم..!
د. حسن بن فهد الهويمل

د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة