هذه هي المقالة الأخيرة التي أخصصها بمعية العلامة عبدالهادي التازي لتاريخ ودور القرويين؛ ولقد توقفنا في المقالة الأخيرة في القرن الثامن عشر حيث تعرض رجال القرويين منذ أواخر هذا القرن -على الخصوص- لحملة شرسة وجهها ضدهم

بعض الكتاب الأفرنج ممن وردوا على المغرب في “بعثات خاصة” نعتوهم بأنهم “يعادون كل تطور” وطعنوا في معارفهم وكفاءاتهم..! ولعل من يعرف “مركز القرويين” أيامئذ، والحظوة التي تنعم بها سواء من لدن القادة أو الشعب، يدرك سر التوجه إلى هؤلاء على الخصوص، وسر “الرثاء” على “مقبرة المفكر” بفاس ولقد بسطت الحماية الأجنبية نفوذها على المغرب وكان عليها أن تطمئن على ما يجري داخل القرويين التي تهيمن أفكارها على “المدينة المجرمة” كما دعاها الجنرال موانيي لا سيما وقد أعرب السلطان المولى يوسف بن الحسن عن رغبته في أن تطور التعليم إلى حال أفضل.

إن الحماية لا بد أن يكون لها “وجود” في القرويين أيضا وهكذا لأول مرة في التاريخ تفصل الإدارة عن نظر القاضي ويتكون “مجلس” بحضور المسيو مرسي، والقبطان ميلي يوم الخميس 21 جمادى الثانية 1332 (17 مايو 1914) وقد صدر في بداية عهد الملك (محمد بن يوسف) ضابط سنة 1931 ينص على أن أطوار التعليم بالقرويين ثلاثة: الابتدائي والثانوي، والنهائي، وهذا النهائي يشتمل على قسمين للتخصص الديني والأدبي..

لكن تقدم القرويين كان بالفعل أمر متعذر بل وغير مرغوب فيه! ولما كانت صرخة الاحتجاج ضد السياسة البربرية قد نفذت من زوايا هذه القرويين فقد تعرض “علماء الشباب” للحرمان من اعتلاء الكراسي العلمية سنة 1932م، وأدرك الطلاب أن الوضع الحاضر يسير بهم إلى النهاية فأضربوا عن الدروس سنة 1937م واستطاع العاهل سنة 1942 أن يحصل على “شبه وفاق” من أجل تعيين خريج من جامعة السربون وأحد قدماء طلبة القرويين معززا لشيخ جامعة فاس.

وقد شعر الطلاب كما يحكي العلامة عبدالهادي التازي الذي كان طالبا في تلك الفترة، أن “بعثا” ينتظر القرويين أيام المدير الجديد، لكن توقيع وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944م كان كافيا للزج بالمنتسبين للقرويين في غياهب السجن، فقد ذهبت سائر المحاولات أدراج الرياح من أجل الإصلاح الجذري للقرويين.. وعبثا أيضا كانت محاولات اللجنة الملكية للإصلاح سنة 1947م.. لقد توالت الأحداث وكان المشروع الجهنمي للجنرال جوان سنة 1951م فرصة للانتقام من القرويين باعتبارها مناهضة لمشاريع الاستعمار وانتهى الأمر إلى نفي الملك محمد بن يوسف إلى مجاهل الدنيا

واسترجعت المملكة المغربية سيادتها بقيادة الملك الذي أصبح يحمل اسم (محمد الخامس) العائد من المنفى فاستشرقت جامعة القرويين إلى ما كانت تتوق إليه، وقد فتح المغرب عيونه “بعد الاستقلال” ليجد نفسه فعلا أمام جيل مختلف التكوين: فريق قصرت ثقافته في الدراسات العربية والإسلامية بينما قطعت صلة الفريق الآخر المحافظ بمعطيات اللسان الأجنبي وكان الحل “المثالي الواقعي” الذي لجأت إليه اللجنة الملكية الجديدة سنة 1957م يتلخص في تقرير توحيد البرامج لجميع المدارس بما في ذلك أطوار التعليم بالمعاهد الدينية، وتم تأسيس “المجلس الأعلى للتربية الوطنية” فخطا الخطوات الحاسمة سنة 1960م وهكذا انصرفت الجهود إلى تحقيق مبدأ “التوحيد” في مرحلة أولى للتعليم تكون بمنزلة “جذع مشترك” تتفرع منه مرحلة ذات شعب في السلك الثانوي الثاني تؤدي حسب مدتها سواء إلى كلية الشريعة أو كلية اللغة أو أصول الدين، وهذه الكليات هي التي سوف تحتضنها جامعة القرويين المنبعثة، هذه القرويين التي ستنعكس عليها -دون شك- أمجاد تلك الاثنى عشر قرنا التي خطاها “المسجد الجامعة” منذ عهد الأدارسة، هذه القرويين التي من حق كل مغربي بل وكل مسلم على وجه الأرض، ومن واجبه كذلك أن يعتز بها وأن لا ينسى أن هذا الاسم الأغر الذي ظل منقوشا على قمم الجبال وفي تخوم الصحاري، وفي المدينة والقرية، ظل يغزو الجهالة والمروق في المجتمعات والأندية وفي كل مكان، ظل ويجب أن يظل في عداد تراثنا الأثيل المجيد.

وهكذا فبا لرغم من الفراغ الذي شعر ويشعر به الكتاب المعاصرون عندما يتعلق الأمر بتدوين التاريخ الماضي، فإن هناك عنصرا مهما خدم تاريخ المغرب خدمة جلية، وساعد على اكتشافه منذ بداية العصر الوسيط ونعني به أدب التراجم، وإذا كنا فقدنا -إلى حد ما- تاريخنا المكتوب، فإننا قد توفر لنا على ما هو أجل من ذلك التاريخ، ألا وهو كتب التراجم، تراجم الكبار، ومن حسن الحظ أن تملك أسلافنا اللاحقين شعور بأن نزول الرحمة يقترن بذكر السابقين!

والانطباعة الأولى أن جل أولئك الرجال تأثروا بطريق مباشر أو غير مباشر، بما كان يرد من المشرق من أفكار وكتب وعلوم وفنون، وأن الشرق كان وما يزال وسوف يبقى المنطقة التي يبدو منها الصباح أولا وإذا سمحنا لأنفسنا بأن نفترض للأندلس كيانا خاصا، فإننا سنقول - إضافة إلى ذلك - إن للمناخ الأندلسي تأثيرا في رجال فاس لم يستطيعوا حماية أنفسهم منه... مئات منهم رحلوا إلى المشرق، ومئات منهم أضافوا إلى تلك الرحلة إلمامة بقرطبة أو إشبيلية أو مرسية وغرناطة مثلا، وسنجد في أولئك الرجال قوما من أمازيغ المغرب، أو قوما من أقحاح العرب، وآخرين من فارس وغيرهم من الأكراد، لكن الإسلام استطاع أن يجمعهم في بوتقة واحدة، ويوحدهم على لغة واحدة..

سنقف على عدد من أعلام الفكر الموسوي والمسيحي والإسلامي كان لعلماء فاس أثر في تكوينهم وظهورهم، من أمثال:

- دراس بن إسماعيل 357هـ 968م وسيلفيستر359هـ 970م

- أبو عمران الفاسي 430هـ 1039م

- ابن باجه Avanpase 533- 1139م

- ابن العربي 543هـ 1149م عياض 544هـ 1149

-الشريف الإدريسي560هـ 1165م

- ابن ميمون الحاخام 567هـ 1172م

- ابن طفيل 581هـ 1185م

- ابن رشد Avérroes 595- 1198م

- ابن زهر Aveneoar 596- 1200

- ابن الياسمين 601هـ 1204م

- ابن سمعون (اليهودي) 623=1226

- ابن بطوطة 770هـ 1368-69م

-ابن خلدون 808هـ 1406م

- الخطيب ابن عبدوس عبدوس صاحب نظرية تنظيم النسل 848هـ 1414م

- ابن الوزان (ليون الافريقي) 926هـ 1520م الأسقف أندري 938هـ 1532

- القسيس كلينار Clenard 947- 1541

- المنصور الذهبي 1012هـ 1614م

- كوليوس Colius 1032- 1623م

- الروداني 1094هـ 1683م

- خناتة الفقيهة الأميرة 1155هـ1743م لوبليشLevlech 1218- 1803م

- ابن إدريس أحمد داعية الحجاز 1253هـ 1838م

- العباس التازي 1337

- القاضي ابن القرشي 1358- 1920

- القاضي السائح 1367هـ 1948م

وسنلقي -في رجالات القرويين- نوعا من العلماء المتجولين يعلمون، حصة من السنة، في هذه الجهة، وينتقلون إلى الجهة الثانية في حصة ثانية من الزمن.. وسنقف على نوع من العلماء كانوا يقضون مجالسهم مع الطلاب أكثر مما يقضون مجالسهم كحكام وقضاة.. وعلى نوع آخر من العلماء كانوا يؤثرون أن يحترفوا إلى جانب اشتغالهم بالدرس حتى لا يكونوا عبئا على الدولة، وحتى لا تتعرض كرامتهم للامتهان.. سنقف على عدد من القيمين على العلوم والكتب ممن كانوا علماء أعلاما.. سنقف على الظاهرة التي كانت تميز التاريخ الفكري المغربي في العصور الوسطى: لا حدود ولا قيود في التنقل، قاض بإشبيلية يصبح قاضيا بتونس ومراكش، إلى أن يصل إلى القمة: فاس.. شبكة محكمة الاتصال بين مدرسة فاس ومدرسة سبتة ومراكش وأغمات وتلمسان والقيروان وقرطبة.. إجازات متبادلة بين أولئك في بغداد أو في الاسكندرية وهؤلاء في فاس عدد من الصيادلة والأطباء والموقتين وأهل الهيئة..