Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناThursday 28/03/2013 Issue 14791 14791 الخميس 16 جمادى الأول 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

شاهد عيان

الجزيرة تنشر تقارير من داخل الأراضي السورية - الحلقة الأخيرة
صحافي في رفقة الجيش الحر: الخوف والجوع.. والأمل

رجوع

صحافي في رفقة الجيش الحر: الخوف والجوع.. والأمل

Previous

Next

ريف حلب - سليمان الأسعد:

قصص حزينة تلك التي يعيشها السوريون كل يوم، يروونها كحاضر حي، ويعيشون تفاصيلها كجزء منها لا كمعاصرين لها فحسب، هي في الواقع تاريخٌ يُصنع لحظة بلحظة، شهوده أحياء مثقلون بالأسى والألم، يعانون يومياً أكثر من مرة ، ويبكون من فقدوا في هذه الرحلة الطويلة، يحاولون إكمال طريق لا يعرفون تماماً أين وكيف سينتهي، ولكن داخلهم إيمان راسخ بأن هذا الطابع الملحمي لحياتهم الحالية سيكتب لهم قصة حياة جديدة ذات يوم.

لكل سوري يسكن تلك البلاد قصة مع هذه الثورة، ولكل مدينة رحلة قطعها أبناؤها منذ صرختهم الأولى في سبيل الحرية الموعودة، إنها منظومة من المشاهد التي تغيرت بالكامل على مستوى المعيشة والمعطيات والواقع اليومي، فغيرت في ظرف أيام فقط طبيعة الحياة بفعل الظروف الصعبة، وعادت بالزمن إلى قرون ماضية حيث ليس ثمة غير خيارات بدائية تكفل الحد الأدنى الممكن للبقاء على عنق زجاجة الوجود، «الجزيرة» كانت شاهد عيان في بعض المناطق السورية لتنقل لكم في هذه السلسلة فصلاً من هذا التاريخ، بما يستحقه الأمر من تسليط الضوء على كواليس إنسانية وأخلاقية واجتماعية قد لا يطلع عليها المتابع للعناوين الرئيسة في الأزمة السورية، وكذلك تتبع المواقف البسيطة التي عايشها وتعايش معها الناس، والتي جعلت منهم أبطالا على طريقتهم في أسلوب تعاملهم مع مايحدث بشجاعة لا تقل عن شجاعة من تصدروا مشهد المواجهة العسكرية مع قوات النظام، في الحالتين لم يدخل المستحيل في قاموس التصرف، وفي الحالتين لا معنى لكلمة «استسلام».

لم أتخيل أن المزرعة، التي كانت هادئة في ذلك الوقت من النهار، تبعد عن حاجز النظام أقل من 500م، لذلك بتُّ ليلتي الأولى دون خوف، مطمئناً إلى وجود سبعة من عناصر الجيش الحر يقضون ليلتهم في الغرفة نفسها، ولا يعقل -كما توهّمتُ- أن يعرضوا أنفسهم لخطر اقتحام عدوهم الرابض على بُعدِ «طلقات».

لكن الصباح جاء يحمل أخباراً أخرى، فجهاز الاتصال اللاسلكي ينقل صوتاً غاضباً يكرر عباراته بانفعالٍ: «الجيش يقتحم.. مؤازرة.. الجيش يقترب»، ومرت الثواني القليلة التي تلزم النائم كي يميّز الواقع من الحلم، وبدت لي الغرفة مزدحمة بأناسٍ يرتدون ملابسهم على عجلٍ ثم يحملون أسلحتهم دون أن يلتفتوا إلي، فخاطبت أقلهم حماسة: «ما الذي يحدث؟»، وكانت ابتسامته مصدر اطمئنان مؤقت: «سنذهب في نزهة لاصطياد الكلاب! ابقَ هنا إن أردتَ».

عبارة ساخرة كهذه ضمنتْ لي دقيقة من السكينة أبدد بها الذعر الذي تملكني، لكنها لم تكن كافية لاحتمال صوت القذائف المتتالية التي سقطت قريباً من المكان حين هممت بالخروج من بوابة المزرعة، فاحتميت بأحد الجنود الذي قادني إلى جدار قريب، ثم مضى إلى «المعركة»، ويمكن تقدير المسافة بين مكاني وموقع سقوط كل قذيفة بمقدار الارتجاج الذي أحدثته في الجدار.

كان جهاز اللاسلكي فعالاً في استدعاء العشرات الذين تقاطروا من بين أشجار الزيتون باتجاه (ساحة المعركة)، لكن أحدهم توقف متردداً في إدراك صحبه، ومشى نحوي وهو يخاطبهم: «لم أصلِّ الفجر.. لن أذهب دون أن أفعل»، ثم توقف خلف الجدار وصلى سريعاً قبل أن يلتحق بهم.

تركت وحدي بعد أن هرول الجميع إلى تلك المعمعة، وحجبتْ أشجار الزيتون الكثيفة رؤيتي، ولم أكن أعرف المنطقة جيداً كي أتقدم خطوات إلى مأمنٍ آخر كي أستوضح الموقف، وعزّيتُ نفسي أن التقدم دون آلة التصوير لن يكون ذا جدوى، فقد نسيتها في الغرفة حين خرجت مضطرباً ونصف نائم، لكني رصدتُ في لمحةٍ خاطفةٍ جنديين يتعاونان على إطلاق قذيفة نحو هدفٍ لم يكن بادياً أمامي.

استمرت المعركة ساعة تقريباً، مرت على خاطري خلالها كل الأسئلة اللوّامة عن سبب مجيئي إلى هذا «الجحيم»، وبدا لي الانتقال من فراشي إلى هذا الجدار أشبه بمشاهدة فيلم وثائقي عن حرب فظيعة، يتوقف خلاله جندي ليدعوني إلى الدخول في الشاشة ومرافقته كي أشاهد بوضوح أكثر!.

عاد الجنود من معركتهم مزهوّين بأنهم ردوا اقتحام قوات النظام التي حاولت أن تحدث اختراقاً في البساتين القريبة من معقل تواجدها، وكان الجو المرح مناسباً كي أعاتب صديقي حازم الذي أنزلني في هذا المكان القريب جداً من حاجز النظام، لكنه أجاب ضاحكاً: «سبعة من هؤلاء الوحوش قادرون على زلزلة المدينة كلها.. ولا تنسَ أن الله معنا».

هم سبعة من الوحوش حقاً رغم ما يبدو من رقة يتصنّعون إخفاءها في لحاهم الكثيفة، فأحدهم مضى إلى هذا الاشتباك وهو يحمل ثلاثين طلقة فقط، ما استدعى غضب زملائه الذين أنّبوه على خروجه معهم معتبرين أن هذا العدد الضئيل من الطلقات لا يكفي لتغطية انسحابه، فكيف يكفيه للقتال في معركة؟!

أغنية لفيروز تسلوا بترنيمها وهم يعدون الفطور البسيط مع إبريق شاي يغلي ماؤه على حطب المدفأة، وبدا الأمر كأنهم عائدون من نزهة فعلاً.

ورغم أن أي حديث جاد قد يفسد طقسهم المرح، لكني أردت استئناف الحوار حول شح الذخيرة الذي فسره (أبو ناصر): «معظم التبرعات تذهب للمنكوبين واللاجئين، ولا أحد يمدنا بمالٍ أو سلاح، فنحن مضطرون لاغتنام ذخيرتنا بأنفسنا حين نغزو إحدى ثكنات النظام أو مستودعاته».

حتى أصناف الطعام المحدودة توحي أنهم يتدبرون أمرهم اليومي بصعوبة بالغة، مع أن بعض الدول أعلنت عن نيتها دفع رواتب للمقاتلين، لكن أبا ناصر يؤكد ما سمعته حرفياً في أماكن أخرى من عناصر الجيش الحر: «لم نتسلم إلا مرتباً واحداً في أغسطس - آب الماضي فقط».

لذلك يضطر هؤلاء السبعة إلى التقشف في معيشتهم حتى تكفيهم المبالغ الصغيرة التي يرسلها أهلوهم وأصدقاؤهم: «وأحياناً تهدي لنا بعض الأسر وجبة غداء، وهذا يوم عيدنا!».

يهبط الليل بطيئاً على هذه البقعة من الأرض، ويحلو لعناصر النظام أن يشيِّعوا الشمس الغاربة بوابل من القذائف يلقونها اعتباطاً على المنطقة كي يكدِّروا هدوءاً استمر ساعتين أو ثلاث، فيصبح دويّها المتتابع بمثابة إعلان وجود يختم به النظام نهاراً حافلاً بالنار والدم.

يجمع العناصر السبعة ما يكفي من الحطب ليوقدوا المدفأة التي يتحلقون حولها، ويضعون زيت الزيتون في صحن صغير تحوطه عيدان رفيعة من الخشب يستضيئون بنارها مع الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، ويصبح السمر في كل ليلة مرهوناً بمزاجهم الذي يغلب عليه المرح والسخرية والضحك ما لم يكونوا قد فقدوا رفيقاً في معركة طاحنة خاضوها نهاراً مع سرايا أخرى.

فجهاز الاتصال اللاسلكي الذي كان سبباً في حشد المؤازرة لمعركة الصباح، يتحول في الليل إلى أداة للتسلية بأيدي الجيش الحر، يتناقلون عبر أثيره النكات والأغنيات التي تؤنس وحشتهم.

ويمكن لزائر غريب أن يقيس معنوياتهم خلال جلسة واحدة إن أحصى التعليقات المازحة التي يسخرون فيها حتى من أنفسهم، أو يستطلع الجو المرح الذي تبثّه نفسياتهم المقبلة على الحياة، كأن يقف أحدهم يرنّم أغنية تمدح بشار الأسد (رئيس النظام السوري) ليغيظ أصدقاءه الذين يرجمونه بكل ما حولهم من أثاث، أو أن يسرق أحدهم الولاعات يومياً ويخفيها في مكان يكتشفه الآخرون فينال نصيبه من الشتائم والصفعات، أو يتحول وصول التيار الكهربائي إلى مناسبة للاحتفال «تمجيداً للحكومة الرشيدة التي تسهر على راحتهم»، كما يحلو لهم أن يتهكّموا. (الكهرباء لم تعمل طيلة الأيام التي قضيتها هناك إلا ساعتين فقط لم تكن كافيتين لمتابعة الفيلم الكوميدي الذي بدؤوا في مشاهدته).

وقد تتخذ ملهاة الليل منحى حزيناً حين يتصل أحدهم بوالدته المقيمة في مدينة بعيدةٍ ليهنئها بيوم ميلادها، فتكون المكالمة فصلاً شجياً يقطع حبل الضحك الطويل، أو ربما يأتي أحدهم على ذكر صديقٍ قُتل في اشتباكٍ فيثير أسى الجالسين، أو يَهِيجَ شوقُ ثالثٍ لحبيبةٍ فارقها مضطراً ليلتحق بالجيش.

ويحدث أن يزورهم جندي زميل من سرية أخرى ليخبرهم أن هناك عسكرياً من جند النظام يرغب في الانشقاق، ويسألهم عن إمكانية تأمين هروبه من ثكنته، فيتفقون على خطة لتخليص الرجل ينفذها السبعة في سيارتين، إحداهما ليهرب بها الجندي الفار مع اثنين منهم، والأخرى كي تغطي على العملية بمشاغلة حراس الثكنة عبر معركة مفتعلة وسريعة.

ورغم المخاطرة التي تكتنف عملية كهذه، لا يتردد «الوحوش السبعة» في الإقدام عليها: «فقد كنّا في حالة كالتي يعيشها هذا الجندي ونتمنى أن يخلصنا أحد من ثكناتنا»، كما يقول (أبو اسكندر) الذي يضيف: «قد تكون مكيدة يدبرها النظام لاستدراجنا، وهذا محتمل، لكننا نتخذ تدابير سرية كثيرة نحتاط بها للأمر».

لكل من هؤلاء السبعة قصة يستمتع وهو يرويها بتفاصيل طويلة لا تفقد المستمع حس التشوّق، وأحداثٍ عبثية ومواقفَ جنونية تلائم مراهقتهم التي يقضونها محاربين لا عشاقاً كما يفترض أن يكونوا في مرحلة كهذه.

أكبرهم لم يحتفل بميلاده الثاني والعشرين بعدُ، فهم كانوا جميعاً عسكراً من جند النظام انشقوا في أوقات متقاربة، وينتمون إلى مدن مختلفة، لكن صداقة الطفولة جمعتْ بعضهم، وتجمعهم اليوم رفقة السلاح.

(أبو ناصر) أول من انشق منهم، ثم تقاطروا معه واحداً إثر واحد، فهو كان يؤدي خدمته الإلزامية مع الجيش النظامي حين اندلعت الثورة، واقتنع بأنه يقاتل في المعسكر الخطأ، ورسم خطة للهرب، أطلع (أبا اسكندر) رفيقه في الثكنة نفسها على تفاصيلها، ثم هربا معاً إلى هذه المزرعة النائية التي يملكها أقرباء صديق أبي ناصر، وهو (عبده) الذي ترك دراسته الجامعية وتفرّغ للقتال، فأصبحوا ثلاثة.

وبعد أيام قليلة، لم يقوَ (أبو اسكندر) على ترك صديق طفولته (أبي رائد) الذي يؤدي الخدمة نفسها في ثكنة أخرى قريبة من حلب المدينة، فاتصل به عبر وسطاء مهدوا له طريق الفرار واصطحبوه إلى وكرهم السري (المزرعة).

وفي الفترة نفسها، اتصل (أبو اسكندر) و(أبو رائد) بصديق مشترك يقيم في دمشق العاصمة، ليحرّضوه على الالتحاق بهم، ولم يتردد (أبو عنتر) المتشوق لقتال قوات النظام فتسلل إلى ريف إدلب ليمكث مع هؤلاء الأربعة في المزرعة التي ضمت كذلك (محمد) و(أحمد)، وهما من أقرباء (عبده)، فشكلوا جميعاً سرية صغيرة تتبع لواء التوحيد يقودها (عبده) الذي قُتل أخوه قبل بضعة أشهر في كمين نصبه أعوان النظام: «لن نبرح المكان حتى يسقط النظام أو نقتل دون ذلك».

اثنان منهم لا يواظبان على الصلوات الخمس، وخمسة يؤدونها بانتظام ويستيقظون بهمّةٍ عالية لأداء صلاة الفجر رغم البرد العاصف أحياناً، وأكثرهم تديناً يرى أن الانتخابات الديمقراطية ستفرز إسلاميين لا ينبغي أن يستبدوا بالعلمانيين ولا أن يحرموهم فرصة المشاركة في بناء الدولة.

الصباح التالي لا يشبه أخاه، فالعصافير الطليقة لا تقاطع شدوَها قذيفةٌ طائشة، وجهاز الاتصال اللاسلكي لم يطلق نداءات المؤازرة، لكن الغرفة خاوية على فُرُشها إلا مني، فأنهض مستطلعاً أوضاع الرفاق الغائبين الذين تصلني أصواتهم خافتةً من مكان قريب.

كانوا مجتمعين قرب غرفةٍ في أقصى المزرعة حول عشرات البراميل الملونة التي يبدو أنهم يوشكون على تحميلها إلى سيارة شحن كبيرة تقف على مقربة منهم، فيخطر لي أن أمازحهم مع تحية الصباح: «ما هذا؟ شحنة أسلحة جديدة؟!».

توقعت إجابات كثيرة لم تكن هذه من بينها: «اتفقنا مع صاحب المزرعة على تحميل براميل المخلل (الطرشي) لقاء ثلاثة آلاف ليرة (30 دولاراً بالسعر الحالي) لكل شخص».

نفد مصروفهم الشحيح الذي يرِدُ من ذويهم، فاضطروا إلى العمل كي يعيلوا أنفسهم، كما يبرّر (أبو عنتر) الذي أقفرتْ بندقيته من ذخيرتها: «بالنسبة لي، سأشتري بها رصاصاً».

ولم يكن أي منهم مبتئساً وهو يرفع مع رفيقه برميلاً يزن مائة كيلو غرام ليضعاه في مؤخرة الشاحنة، فالحيوية باديةٌ في المواويل الشعبية التي يتناوبون على ترديدها، لكن نبرة الشعور بالخذلان تكشفها عبارات (محمد): «يزعمون أننا نتلقى أموالاً طائلة من دول أخرى، لكن العالم تخلى عنّا كما ترى».

ويضيف (محمد): «هل تتوقع أن يهزمنا (الأسد) ونحن بهذه الهمّة؟ نعمل لنأكل ونحارب.. هل هناك شعب آخر حدث له ذلك؟».

أراقبهم في غمرة حماسهم، متفكراً في المستقبل الذي يحمل إجابة السؤال الأخير: «هل يمكن أن يهزمهم حقاً؟».

رجوع

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة