Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناMonday 01/04/2013 Issue 14795 14795 الأثنين 20 جمادى الأول 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

محاضرة

مقدماً شهادته على مرحلة مفصلية من مراحل الإعلام في الوطن العربي.. بحضور السفير السعودي وسفير الجامعة العربية وقيادات جامعة روما وطلابها:
رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك يحاضر في جامعة روما عن حرية الصحافة العربية بين الإطلاق والإغلاق

رجوع

رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك يحاضر في جامعة روما عن حرية الصحافة العربية بين الإطلاق والإغلاق

Previous

Next

إيطاليا - روما - إيهاب هاشم:

تلبية لدعوة من جامعة روما تور فيرغاتا بإيطاليا قام الأستاذ خالد المالك بإلقاء محاضرة أمام طلبة الماستر في الإعلام في الجامعة وطلبة الدراسات العليا في المعهد العالي للشرطة وذلك في 20 مارس 2013م، وكانت المحاضرة تحت عنوان (حرية الصحافة العربية بين الإطلاق والإغلاق).

وقد حضرها سفير خادم الحرمين الشريفين في إيطاليا سعادة الأستاذ صالح الغامدي، وسعادة السفير غانم طه الشلبي رئيس بعثة جامعة الدول العربية في إيطاليا، والأستاذ إبراهيم الغريب الملحق الإعلامي بسفارة خادم الحرمين الشريفين، كما شارك في الحضور كل من البروفيسور الأستاذ في الجامعة سيرجو كيروبيني رئيس قسم الماستر في الاقتصاد وإدارة الإعلام والصحافة والبروفيسور الأستاذ لويجي بانياتو رئيس مؤسسة الاقتصاد في جامعة روما تور فيرغاتا. والبروفيسور المشارك الأستاذة في الجامعة سيمونيتا باتوليا منسق دراسات الماستر في الاقتصاد وإدارة الإعلام والصحافة، والدكتورة أنا ماريا دي باولا رئيسة قسم الدراسات والتدريب في المعهد العالي للشرطة، والدكتور روبيرتا سغالا رئيس المعهد العالي للشرطة وغيرهم، وفيما يلي نص المحاضرة:

أنتمي في عملي إلى الصحافة، فأشعر بحنين لها كلما ابتعدت عنها، ويحرضني الغياب هذا على سرعة العودة إلى بلاطها، وأشعر براحة نفسية عندما أكون فيه، أعمل ضمن إطار رسالتها، ويخالجني الشعور بالخوف والارتباك عندما أجد في أسرة تحرير أي صحيفة من يغرد خارج سرب ما كان يفترض أن يلتزم به ضمن مسؤوليته نحو قرائه.

* * *

أفكر دائماً في حال الصحافة في الدول العربية، أجوائها ومستوى أداء من يعمل فيها، ويأخذني الخوف عليها ومنها بأمل ألا تخسر ثقة الناس فيها، أو تحيد عن التزامها بكلمتها النزيهة وأسلوبها الرصين، وحرصها على أن تكون منبر خير وحق، بحيث يفضي هذا التوجه الجميل من خلال ما ينشر فيها إلى ما يوصل القراء إلى ذلك.

* * *

كان هذا موقفي دائماً كأحد المنتسبين إليها منذ خمسين عاماً، سواء ضمن من يتابع خطواتها، ويقرأ ما ينشر فيها، أو حين كنت أحد من يعمل فيها دون أن يتأثر هاجس الخوف عندي بإنجاز محدود تقوم به بعض الصحف، بينما تبقى الأكثرية منها في وضع يثير ما ينشر فيها قلق المخلصين، وبالتالي، يبقى الموقف من الحالة الصحفية الراهنة والمستقبلية يشوبه الشك في أن تتخلص من أوجاعها وأمراضها المزمنة.

* * *

والحديث عن الصحافة العربية حديث ذو شجون، وبخاصة حين نركز على مضامين كثيرة من أوضاعها، وبينها إبراز عيوبها أو نقاط تفوقها، سواء بتفاصيلها أو حين نجتز منها ما يستجيب لاقتناعاتنا وينسجم مع تطلعاتنا، غير أن حديثي لن يكون بهذا التوسع، وإنما سوف أقصره على حرية الصحافة في العالم العربي، وحين نتحدث عن الحرية، فأنا أعني بها الحرية الملتزمة بأدبياتها التي تتفق مع الأهداف المرسومة لحريتها، بحيث لا تتجاوز هذه الحرية سقفها أو تشجع على انحرافها والتمرد على خطوطها تلك.

* * *

قد يساء استخدام مبدأ الحرية في الصحافة، وتحديداً حين تتحول هذه الحرية إلى فوضى وعبث ودون شعور بالمسؤولية، أو حين يستثمر هذا المناخ في غير ما رسم له أو قصد منه، بمعنى أن الصحافة في مثل هذا الجو غير الصحي قد تنحرف عن أهدافها فتأخذ من المواقف والتوجهات ما هو أسوأ مما كان ينبغي أن يكون هو الأفضل، وكل هذا مرفوض بالعقل والمنطق، لأنه توجه يبعد الصحافة وينحو بها بعيداً عن القيم والجمال والحرية الحقيقية التي تتوق إليها العقول النيرة وأصحاب الفكر الخلاق، ما يعني أننا في هذا أمام حرية أسيء استخدامها، وعلى النحو الذي جعل مناخها ملوثاً وبيئتها غير صحية.

* * *

أعرف وتعرفون أن الحرية في الصحافة تظل نسبية، وأنها تختلف من دولة لأخرى، وبالتأكيد فإنها تتأثر بالأحداث والمستجدات والتطورات وبالمناخ السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي في جميع الدول العربية، كما تتأثر سلباً أو إيجاباً مع شيء من التباين والتفاوت بنوع نظام الحكم الذي بيده إما تحرير الصحف من قيودها أو تكبيلها بحيث لا تقول إلا ما يرضي النظام السياسي في هذه الدول وينسجم مع توجيهاته.

* * *

وفي كل هذا، فالعالم العربي بمواطنيه يعيش حالة من التجاذب والاختلافات في وجهات النظر والمواقف والرؤى حول ما يريده من الصحافة، وتحديداً حول مفهومه للحرية التي ينبغي أن تتميز بها موضوعات الصحف، بما في ذلك تلك المقالات النقدية التي يفترض أن تعبر عن هموم الناس وتلامس ما يعتقدون أنها تصب في مصلحة دولهم وشعوبهم، وفي حدود الرأي والرأي الآخر، ليكون ما ينشر متوافقاً مع التعددية في الآراء ووجهات النظر.

* * *

ولا بأس أن تتباين السياسات والتوجهات والأسلوب المستخدم بين صحيفة وأخرى، سواء في نفس الدولة أو بين دولة وأخرى، بما في ذلك التركيز على قضايا محددة دون غيرها، فكل هذا يأتي وفق تقدير كل صحيفة لقيمة هذا الموضوع أو ذاك، وأهميته وتوافقه مع قراءة تقوم بها عادة أسرة التحرير في الصحيفة للأحداث والتطورات المستجدة، وتأثيرها في المجتمع، وهي بذلك إنما تلبي رغبة المجتمع وتستجيب لتطلعاته دون أن تتخلى عن رسالتها، أو تتنازل عن ما قد يكون ضمن أطر العمل الصحفي المتميز.

* * *

وإن رفع سقف حرية التعبير في الصحافة العربية أو خفضه، يجب أن يتم استخدامه بمرونة ومنسجماً ما تتمتع به القيادات العليا والوسطى في المؤسسات الصحفية من خبرات وقدرات وكفاءات، ضمن ضمانة التعامل مع هذا المناخ باستقلاليته ومسؤولية، وعدم الزّج بالصحف في متاهات هي في غنى عنها، حتى لا يكون ذلك سبباً أو مدعاة في خسارتها لثقة القرّاء وبخاصة حين تفقد مصداقيتها، أو حين تكون في حالة ترهُّل في حجم الأخطاء وعدد التجاوزات، كونها لا تتعامل مع الأحداث من منظور موضوعي وأمين.

* * *

ومن المؤكد أنّ أكثر ما يُعاب على الصحافة حين يتم نزع المصداقية عنها، أو عندما يختفي الفضاء الواسع من النقاش الحر فيما ينشر فيها، وكذلك متى ما فرغت مضامينها من المعايير المهنية والأخلاقية، أو كان خطابها الصحفي لا يتمتع بالقدر المناسب من استقلال الكلمة وحرية التعبير، لأنها عندئذٍ سوف يُنظر إليها على أنها صحف مسيَّسة، وهو ما يتعارض مع المزاج العام للقرّاء، كما يتعارض مع حرص الصحف الناجحة على مغازلتهم بالتزامها الحظ الذي يلبِّي رغباتهم، بصحافة حرّة تصدر دون أن تمر على مقص الرقيب.

* * *

ولكي نجيب عن السؤال إياه: هل تتمتع دول العالم العربي بصحافة حرَّة تعبِّر عن هموم الأمة، ضمن استشراف مستقبلي يضعها على مدى قريب ومسافة معقولة من الحرية التي ينبغي أن تتمتع بها الصحافة العربية، فإنه يمكن القول إن الصحافة العربية - مع بعض الاستثناءات - تظهر وكأنها مغيبة عن الوصول إلى حقها في التعبير الحر، وفقاً للدراسات واستطلاعات الرأي ووجهات النظر التي تتبناها دائماً النخب الفكرية والسياسية، وهو ما أضعف من دورها في أداء رسالتها على نحو جعلها عرضة للنقد وعدم الرضا من قرائها.

* * *

ذلك أن الصحافة الحرة -كما أفهمه- هي التي تصنع الرأي العام وتؤثر في الناس وتقنع المجتمعات بتوجهاتها وخططها وبرامجها وسياساتها، وهي مَن تجمع حولها وتحشد حول آرائها جمهوراً عريضاً من المواطنين، كما لو أنها صوتهم ولسان حالهم والمُعَبِّر عن ضمير كل واحد منهم، وهذا يتحقق حين تلتزم الصحيفة بالمبادئ فلا تضلل أو تداهن أو تمارس الكذب؛ لأنها بهذا إنما تخدع قراءها وتسرق حقهم في الحصول على المعلومة الصحيحة والرأي الصادق. والصحافة في دول العالم العربي - ومرة أخرى مع بعض الاستثناءات - هي في موقع قد لا يلبي بوضعها الحالي رغبة الغيورين عليها والمتطلعين إلى سمو كلمتها، وسيظل الأمر على هذا النحو ما لم تصطبغ صفحاتها بلون من الاعتدال والموضوعية والنزاهة والصدق، وهامش مناسب من حرية التعبير.

* * *

على أن انبهار المواطنين بمستوى إخراج الصحف وحسن طباعتها وجاذبية ألوانها وسعة انتشارها وازدياد مقروئيتها، لا يلغي ظاهرة تذمر المواطنين من غياب الصحف العربية عن الحراك الشعبي الذي انطلق مؤخراً وتحديداً منذ بداية العام 2011م مدفوعاً بمبدأ إصرار المواطنين على تغيير أنظمة الحكم، لأن مثل هذا الغياب كان خطأ فادحاً، لا يبرره الخوف من القمع من الأنظمة، فقد لوحظ أن انضمام الصحف إلى الشارع في تغطيتها لهذا الحراك قد جاء متأخراً، وتحديدا بعد أن تهاوت عروش تلك الأنظمة أو أوشكت، بمعنى أن المساندة لم تكن في وقتها المناسب حين كانت تلك الأنظمة تطبّق على مقاليد الأمور في بلادها، ولا تسمح لأي صوت يعلو أو يرتفع فوق صوتها، ولا لصحافة تتحدث بغير ما ينسجم مع تعليماتها، وهو ما يؤخذ عليها ويُنظر إليه على أنه حالة تؤكد - ضمن حالات أخرى كثيرة - على أن حرية الصحافة في العالم العربي كذبة كبرى.

* * *

وفي ظل هذه الأجواء المشحونة وغير الصحية فقد انقسم الإعلام المحلي - الصحافة تحديداً- لدول الربيع العربي بين مؤيِّد للأنظمة الجديدة ومعارض لها، وحاولت الأنظمة والمنظمات والأحزاب استقطابها للتأثير في المواطنين على ما ينبغي أن يكون عليه الحال بعد أن تم القضاء على أنظمة الحكم السابقة، فكان موقف صحف هذه الدول من هذه التطورات مرتبكاً ومتغيِّراً وغير قادر على ترجمة تطلعات وآمال المواطنين، فضلاً عن أن يكون الموقف عنصر إيجاب في ترتيب الأوضاع وتهدئة الشارع وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ما اعتبره المراقبون تعاملاً خطيراً وغير حكيم من الصحف في تعاطيها مع المستجدات والتطورات.

* * *

كما غلبت الرغبة بالإثارة الإعلامية في الطرح الصحفي، والاستجابة لإملاءات البعض على حساب مستقبل ومصلحة الدول، دون التفكير بخطورة المرحلة التي تمر بها المنطقة، وما يتطلبه ذلك من مساندة صحفية قوية وموضوعية نحو التوجه الصحيح والسليم في التعامل مع المرحلة الانتقالية لدولهم، حيث إن إخفاق الصحف في ذلك، إنما يعني دون لبس التأثير سلباً على حركة الشارع، وتفريغ الثورات من مضمونها ومن الأهداف والمرتكزات التي قامت عليها.

* * *

وليس بخافٍ على أي أحد ممن يتابع مسيرة الصحافة في العالم العربي على امتداد تاريخها، بأنها إما أن تكون جزءاً من منظومة أركان النظام، أو أحد أذرعة الأحزاب، وقد تكون ممولة من الخارج فلا تخرج عن طاعة ممولها، وفي مثل هذه الأجواء لا يمكن للصحافة العربية أن توصف بأنها صحافة حرة، تملك حقها في نشر ما يلبي تطلعات قرائها، أو أنها تتمتع باستقلالية في مناقشاتها واختيار كتابها وقول ما تعتقد أنه يتناغم مع مصالح شعوبها ويخدم دولها، حتى وإن ادعى من ادعى بأنه يلتزم بذلك ويحرص عليه وينافح من أجله، فيما أن الأمر غير ذلك تماماً.

* * *

إن مثل هذا التصوُّر يمكن لي أن أنظر إليه على أنه من الأوهام؛ وبأنه لا يمكن أن يؤسَّس عليه في تقديم صحافة عربية مؤثرة وحرة وتتمتع بالاستقلالية في هذا الفضاء الواسع الذي ينبغي أن يتاح فيه الحق في التعبير الحر، عوضاً عن أن تعيش الصحافة العربية حالة من الارتباك والتردد مع كل مستجد أو تطور أو حراك جديد، ودون أن تكون لديها القدرة في تحديد موقفها الحاسم وأسلوب تعاملها الواضح، وما يمكن أن تقدمه بصدق ونزاهة وموضوعية لقرائها ضمن إطار ما يسمى بحرية التعبير الذي سيبقى هاجسها في تعاطيها مع قرائها، وبخاصة حين يحدث من التطورات ما يمكن تصنيفه على أنه من الأولويات من حيث أهميته وتأثيره ومتابعة المواطنين لكل ما يستجد حوله، بينما لا تستحضره الصحافة، بل قد تحجِّم أهميته، وتتجاهل ما يحوم حوله من حقائق بالتعتيم أو التجاهل أو قلب الحقائق وتشويهها.

* * *

وإن الأصوات المطالبة بحرية الصحافة في العالم العربي مع احتفاظها ودون أن تتخلى عن التزامها بالموضوعية والصدق والنزاهة، والعمل على حماية المكتسبات الوطنية أمنياً واقتصادياً في كل ما ينشر فيها، هي أصوات عاقلة ومخلصة وذات أهداف ومواقف نبيلة، وتتمتع بحس وطني لا يُشك فيه، يقابلها من الأصوات الأخرى من يريد أن يأخذ الصحافة العربية إلى الخط المعاكس لسبب أو لآخر، منحرفة عن سمات ومقومات الصحافة الوطنية التي يطالب بها الغيورون والمحبون لوطنهم، ونحن مع الخيار الأول؛ لأن الثاني سوف يقود إلى الفوضى والإرباك وزعزعة الأمن والاستقرار، وتدمير كل ما هو جميل في دولنا العربية، وليس هناك من عاقل يقبل بأن يكون ثمن الحرية القضاء على منجزات ومشروعات أنفق على إنجازها البلايين من أموال الشعوب، ولا أحد من العقلاء يسمح لنفسه بتبني أي موقف يدمر وطنه باسم حرية الصحافة، فهذا عمل غير مسؤول ومطالب غير مشروعة، وحرية تفتقر إلى أي تعريف حقيقي أو مفهوم صحيح للصحافة الحرة التي ينشدها ويتطلع إليها الجميع.

* * *

وبالتأكيد فإن وعي الناس والارتقاء بمستوى ثقافاتهم وتعريفهم بقضاياهم وحقوقهم لا يمكن أن تكون هناك ثقافة بهذا المعنى سائدة في المجتمعات العربية دون أن تكون هناك صحافة تتمتع بمساحة كافية من حرية التعبير، والمعنى أن الصحافة العربية المقروءة - الورقية - لا تزال في حاجة إلى التنفس بحرية دون أن تخاف أو تخشى من الأنظمة والقوانين التي تحد من انطلاقتها بما للرقيب من دور في التضييق على كتابها وصحفييها ضمن تدخله فيما يكتب أو ينشر فيها؛ ليقتل بذلك كل إبداع أو تميز ينتظر منها، وكل هذه الملاحظات مع غيرها إنما تلامس الشعور بالإحباط لدى من بلغ لديه اليأس مع طول الانتظار بأمل أن تشرق شمس الحرية وحق التعبير على الصحافة العربية.

* * *

نعم إن حرية الإعلام - كما يقول حمدي قنديل- تتطلب بالضرورة ممن يتمتعون بمزاياها أن تتوافر لديهم الإرادة والقدرة على عدم إساءة استعمالها، والالتزام الأدبي بتقصي الحقائق دون انحياز، ونشر المعلومات دون تعمُّد، وهو شيء يشكل أحد القواعد لحرية الإعلام، وأعتقد - من جانبي - أنه لا أحد من المواطنين العرب يطالب بحرية لصحافته تتجاوز هذا المفهوم الذي عبَّر عنه حمدي قنديل وعممه على كل وسائل الإعلام، أو ينادي من يتمتع بمزاياها بإطلاق الفرصة وإتاحة المجال له كي يسيء استعمالها، سواء بالانحياز أو بعدم تقصي الحقائق، لأن هذا - إن حدث - يشكل تقويضاً لمفهوم الحرية والاستقلالية في ممارسة حق التعبير، وسيُنظر إليها من الجميع على أنها حرية مشوهة وناقصة منذ ولادتها، وستبقى كذلك ما لم يتم الالتزام بقواعدها المهنية الصحيحة.

* * *

إن سلطة المنع لحرية التعبير، واستخدام الرقيب لسلطاته إلى حد المبالغة، هو كمن يمنع عن الصحافة أهم مقومات نجاحها، ويعيقها عن أداء دورها، ويحول بينها وبين أن تمارس حقها في نقد ما تعتقد أنه يدخل ضمن إطار مسؤوليتها، وهي - مع بعض الاستثناءات - تعد حالة لواقع الصحافة في العالم العربي ما لا يمكن إنكاره حتى وإن حاولنا تجميله بشكل أو بآخر.

* * *

ومهما قيل من أسباب عن الحرية المفقودة في الصحافة العربية، فإنه لا يمكن القبول بأن ذلك يأتي ضمن السياق العام في الحرص على المصلحة العامة، بما في ذلك عدم المساس بالأخلاق والتقاليد، بينما كان على الدول العربية أن تعطي للقيادات الصحفية فرصة مواجهة هذه المسؤولية بوعي يفترض أن يكون قد تشكل في الأوساط الصحفية ولقي مساندة من المجتمع والحكومات لو أن هامش الحرية المتاح كان في حجم أهمية دور الصحافة في تشكيل هذا التوجه العربي الذي يفترض أنه يعمق الشعور بالمسؤولية، ويلقي بظلاله على الصحفيين كشركاء في خدمة أوطانهم ومواطنيهم، وصولاً إلى تمكين الأفراد والمجتمعات من التمتع بحقوقهم.

* * *

في كتاب بعنوان (حرية الإعلام في العالم العربي والغرب) وهو أحد إصدارات (سلسلة براعم) وشارك فيه عددٌ من الباحثين بدراسات حول الإعلام العربي في ندوة (حرية الإعلام في العالم العربي والغربي بتاريخ 12-12-2003م) يتحدث الدكتور هيثم مناع عن أن حرية التعبير في العالم الذي قد تكون معدومة أو شبه معدومة، وهي إن وجدت في بلدين أو ثلاثة، فإنها ما زالت في طورها التكويني، ما يعني أنها ما برحت ضعيفة التأثير في فضائها الوطني الخاص، وفي الفضاء العربي عموماً، ويضيف أن التعبير الحر يحتاج إلى دورة زمنية طويلة نسبياً حتى يستقر ويصبح قيمة بديهية، كما أنه يحتاج إلى قوانين وقواعد وإلى استقراء.

* * *

وبنظرنا فإنه ليس من المنطق أن تتمتع الصحافة العربية بحرية مطلقة، فقد يُساء عندئذ استخدام هذه الحرية، بأن تستغل بنشر ما يتعارض مع القيمة الحقيقية لحرية التعبير، ولهذا فإن وجود قوانين وأنظمة تضمن الحق لجميع الصحف في التعبير الحر ربما يكون مطلباً معقولاً، شريطة عدم الاستخدام السيئ لهذه الحرية، فاحترام الأديان والأخلاق وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين يجب أن تكون ضمن برنامج ملزم لترسيخ حرية التعبير في النشر الصحفي، حتى لا تتحوّل الصحافة من معاول بناء وتثقيف ودفاع عن حقوق المواطنين وشريك في الرقابة والحرب على الفساد إلى معاول هدم لكل ما هو جميل في حياة الناس أو حرب على كل ما هو حق يجب أن يتمتع به المواطنون.

* * *

وفي رسالة مشتركة من الأمين العام للأمم المتحدة السيد بانكي مون والمديرة العامة لليونسكو السيدة ايرينا بوكونا بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة في 3 مايو عام 2012م أشارا إلى أن حرية التعبير حق من أثمن الحقوق، فهي الركيزة التي تقوم عليها كل حرية أخرى، وأن وسائل الإعلام الحرة والمتعددة والمستقلة شرط أساسي لممارسة هذه الحرية، ويضيفان أن حرية وسائل الإعلام تفضي إلى التمتع بحرية اعتناق الآراء والتماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخر، وهذا الكلام وإن عمّم على كل وسائل الإعلام فإنه رأي ينطبق على الصحافة في العالم العربي - تحديداً - من حيث حاجتها إلى مساحة أكبر من الحرية في ممارسة الحق في حرية التعبير، ومعالجة ما قد يكون مؤجلاً لتحقيق هذا الهدف، في حين إن التحديات لا تسمح بالإبطاء أو التأخير في أخذ القرارات التي تستجيب لتحسين ما أشار إليه الأمين العام للأمم المتحدة والمديرة العامة لليونسكو في رسالتهما المشتركة.

* * *

وفي رأيي أن المطالبة برفع سقف التعبير في الصحافة العربية يجب أن يكون متدرجاً، وضمن خطة مدروسة تؤدي في النهاية إلى تحقيق رغبة المواطنين بصحافة حرة، ويجب أن يراعى في ذلك مستوى ثقافة المواطنين وقدرتهم على استيعاب وتفهم هذا التحول في الصحافة، وأن تتم معالجة البيئة الصحفية في العالم العربي لتكون قادرة على التعامل بمرونة مع قرائها وصولاً إلى كسب ثقتهم بمصداقيتها ونزاهتها وحرصها على مصلحتهم، لأن أي استغلال لحرية التعبير في غير ما قصد منه، ربما أدى إلى انحرافها وانفضاض القراء عنها لعدم ثقتهم بما ينشر فيها، وهذه وجهة نظر استباقية مني بافتراض أن هناك تقبلاً لمبدأ السماح للصحافة العربية بأن تمارس دورها في التعبير بحرية عن هموم وتطلعات وآمال المواطنين.

* * *

وإن المطالبة بإعطاء الصحافة العربية فرصتها لممارسة حقها في حرية التعبير من خلال آراء كتابها وأخبارها ضمن تبنيها لفضاء صحي يعتمد على الحوارات ذات المصداقية والنزاهة، والسعي للإصلاح وتلبية رغبات المواطنين، لا يعني التخلي عن مسؤوليتها في توفير قدر من التوازن بين ممارسة هذه الحرية وما يقابلها من التزام برسالة الصحافة في جوانبها الأخلاقية والمهنية، والحرص على عدم إساءة استخدام الصحافة فيما وجدت من أجله، لأن أي مساس بذلك سوف ينزع منها المصداقية وبالتالي سوف ينفض عنها القراء، ولا تكون عندئذ قد استفادت من مناخ حرية التعبير المفترض تحقيقه.

* * *

ومن المؤكد أن صحف العالم العربي المطبوعة (الكلاسيكية)، وهي تستعد كباقي صحافة العالم إلى التحول من وضعها الحالي إلى صحافة الإعلام الجديد (الإنترنت)، تظل حرية التعبير فيها هاجس المواطن العربي؛ أياً كان نوع الصحافة؛ سواء أكانت ورقية أم إلكترونية، وبخاصة أن المواطن العربي دخل على الخط مع الإعلام الجديد، وأصبح يصنع الخبر وينقله وينشره في الصحيفة، وكل أمله أن يرى في الدول العربية التي ينتمي إليها صحافةً مستقلةً ومتحررة من قيود الرقابة، حتى ولو كان ذلك في حدود المستوى المعقول الذي يتواءم ويتوافق مع ثورة الاتصالات التي هيأت له الحرية في إيصال همومه من خلال وسائل الإعلام الجديد بما فيها الـ(فيسبوك وتويتر) دون أن تكون لدى الرقيب قدرة السيطرة على مضمون ما يُنشر فيها، كما هي قدرته النافذة على ما ينشر في الصحف الورقية.

* * *

لقد تعمّدت -عن قصد- أن أحصر موضوعنا الذي نتحدث عنه بالصحافة التقليدية، ولم أشأ أن يكون ضمن كلامي عن حرية التعبير في الصحافة العربية شاملاً الصحافة الإلكترونية، ومثل ذلك تعمّدت ألا يكون الكلام عن الحرية في كل وسائل الإعلام في العالم العربي، لأن هذا يعني أن أتكلم عن الإعلام المرئي والمسموع والإعلام الجديد، وهي وسائل لا أعمل فيها، ولا أدعي بأني أعرف الكثير عنها، ولا يمكن أن يكون انطباعي دقيقاً فيما لو وضعتها ضمن كلامي عن الصحافة الورقية، فضلاً عن أن الوقت المحدّد للمحاضرة لا يسمح لي بأكثر مما يمكن أن يُقال (مختصراً) عن الصحافة الورقية، على أن ما يُقال عن حرية التعبير في الصحف الورقية لا أتصور أنه يمكن أن يكون بمعزل عن بقية الوسائل الإعلامية في العالم العربي أو أنها حالة استثنائية، كما لا يمكن أن ينظر إلى الإعلام الجديد على أنه يتمتع بسقف عال من الحرية اعتماداً على ما يُنشر فيه، لأن هذا وإن كان صحيحاً، إلا أنه يحدث لأن هذا النوع من الإعلام يمر حالياً بمرحلة تجارب، وبالتالي مع شيء من الارتباك والاجتهادات يُبرر له عدم التزامه بأصول المهنة وأخلاقياتها في كثير مما يُنشر فيه، وهو ما يفهمه ويتفهّمه المتابع ويلتمس العذر للمسؤولين عن أي خطأ قد يصاحبه، بخلاف نوع التعامل مع أخطاء الصحافة الورقية والموقف منها.

* * *

وعلي في نهاية كلامي عن حرية الصحافة في العالم العربي أن أسارع إلى وضعكم في صورة الصحافة السعودية من حيث تمتعها بحرية التعبير، كوني أعمل رئيساً لتحرير إحدى أشهر الصحف اليومية في بلادي، وأقول لكم صادقاً وعن تجربة ومسؤولية تمتد إلى قرابة خمسين عاماً: إن الصحف السعودية هي صحف أهلية غير حكومية تصدر عن مؤسسات صحفية يملكها مجموعة من المواطنين، ولا تقدّم الدولة لها أي دعم مادي أو غير مادي بشكل مباشر أو غير مباشر، كما أنها لا تشارك في ملكيتها، ولا يوجد أي رقيب من الدولة يسبق صدورها، وإنما ترك أمر ما يُنشر فيها لاجتهادات واقتناعات وتقديرات رئيس تحرير كل صحيفة، ولهذا فكل صحيفة تحفل يومياً بالكثير من مقالات النقد لأجهزة الدولة ولمسؤوليها، ويتناوب كتَّاب الرأي في نقل هموم المواطنين حول ما قد يكون مجالاً للحديث عن أي تقصير أو فساد من هذا المسؤول أو ذاك، وهناك تأكيدات من الملك عبدالله بن عبدالعزيز على حق الصحافة السعودية بأن تتمتع بالهامش المطلوب والطبيعي في ممارسة حرية التعبير في كل ما تنشره، على أن تلتزم بعدم الإساءة للأديان والأخلاق، وأن تنأى فيما تنشره عن التعرض للأشخاص بشكل شخصي دون وجه حق.

رجوع

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة