Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناTuesday 23/04/2013 Issue 14817 14817 الثلاثاء 13 جمادى الآخرة 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

هذه هي المرة الأولى التي لم أدع فيها لحضور فعاليات الجنادرية منذ ربع قرن ونَيِّف.

وهي المرة الأولى التي أكتشف فيها الجنادرية على حقيقتها.

لقد ارتَبطْت بها منذ أن كانت أرضاً عذراء, محاطةً بِردْميات ومخيمات, حتى أصبحت مدينة تعج بكل مثير.

وكنت طوال ربع قرن مغموساً فيها، ومشاركاً في فعالياتها، وعضواً في مجموعة المشورة فيها.

ويكفيني فخراً أن خادم الحرمين الشريفين قَلَّدنِي فيها أشْرف وسام، وأن الأمير متعب بن عبدالله افتتح الموسم الثقافي الذي دُرِسَتْ فيه أعمالي الأدبية بوصفي شخصية العام، وأنها طبعت رسالتي العلمية.

وبهذا كنت [حُنْدُبُها] المدعو لِحِيْسِها اللذيذ. آتيها محاطاً بكوكبة من المرافقين والمنظِّمين، أتقلد بطاقتها، وأتحرك في مواكبها، وأذهب حيث يراد للضيوف الذهاب، وتربطني بكافة فعالياتها ورجالاتها روابط وُدٍّ وعمل.

في كلِّ موسمٍ ننطلق من مَقَرَّات الإقامة جميعاً على الحافلات، لحضور الفعاليات، هنا أو هناك، ثم نأوي إليها استِعْداداً لجولات متلاحقة.

فالحركة والسكون مفروغ منهما، ومَعْلُومَةَ المقدارِ والزمان والوِجْهة. كنت أظن أننا الأكثر حظاً، والأوفى مُتْعةً، والأحسن حالاً.

وفي هذا العام جئت إليها بمحض إرادتي، لم أضع في برنامجي موضعاً، ولا فعالية. ولم أرتبط بِمَوْكبٍ، ولا بمقابلة.

أتحرك متى أريد، وأذهب حيثُ أريد، وأَقْضِي من الزمان ما أُشْبع به فضولي، أختار المواقع، وأتذوق المُشْتَهى من المأكولات والمشروبات المناطقية، وأتحدث بصوت مرتفع مع من شئت من الأناسي وأسأل عَمَّا شِئْت.

لقد شعرت يومها أنني أتمتع بهذه المنجزات، وأتفاعل معها بحرية مطلقة. كنت من قبل أنظر إلى الجنادرية بعين رسمية:

[وعين الرضا عن كل عيب كليلة].

واليوم أنظر إليها بعين المواطن. وليسَ شرطاً أن تكون عين سُخْط، ولسان حالي يردد:-

[عَدَسْ ما لِعَبّادٍ عَلَيكِ إِمارَةٌ.. نَجَوتِ، وَهَذا تَحمِلينَ طَليقُ]

فشكر الله لكل الزملاء الذين غيروا النمطية، وأتاحوا لغيري ما أتاحوه لي على مدى ربع قرن، فذلك عين الصواب، وإن جاء متأخراً. فالجنادرية حق لكل مواطن، وعندئذ لم أكن كـ[أبي حَرْزة] الذي نادى، وهو محجوب عن القصر:-

[يا أيها الرجل المُرْخِي عِمامَته.. هذا زمانُك فاستأذن لنا عمرا].

لقد جئتها اليوم بمحض إرادتي، وبدون دعوة، ولا استئذان، وأحسست أنني أمام تظاهرة ثقافية، مليئة بكل جميل. والمحروم منها من يتعامل معها من خلال الرسميات. فالضيف محكوم بِحِلِّه وترحاله، وبمأكله، ومشربه، وتحركه، وسكونه. لا يستطيع أن يتخلص من هذا النظام الصارم.

وكيف لا يكون صارماً..! والذين يتولَّون تنفيذه نخبةٌ من الضباط المنضبطين الدقيقين في كل شيء. إن الضيف عزيز، مكرَّم، ولكنه مُقَيَّد ببرنامج دقيقً، فالضيوف يربو عددهم على ثلاثمائة مدعو، من الأدباء، والمفكرين، والسياسيين، وعِليْةِ القوم، ومن ثم لا بد من وضع برنامج صارم، تتوفر فيه الراحة، ولكن تقل فيه الحرية.

لقد أعطتني الجنادرية فوق ما أستحق. وأنا مدين لرجالاتها، الأحياء منهم والأموات، العاملين والمتقاعدين، المدنيين والعسكريين. لقد كانوا جميعاً في مستوى مسؤولياتهم تواضعاً، واستباقاً للخيرات، وحرصاً على راحة الضيوف، والتماساً للمفيد، ومبادرة في الاعتذار عن كل تقصير.

إن من نكران الجميل أن ننسى الراحِلَيْن الكبيرين: [بدر بن عبدالعزيز] بدماثة خلقه و[عبدالعزيز التويجري] برجاحة عقله، وبعد نظره، وحسن تصرفه، رحمهما الله. ومن التقصير ألا نتذكر [أبو حيمد] و[السبيت] و[أبي عباة]، وآخرين أبلو بلاءٍ حسنا، ولم يبق إلا ذكرهم الجميل:-

[والذكر للإنسان عُمْرٌ ثاني].

لقد كانت الجنادرية، ولما تزل كوَّةً يُطِلُّ منها الإنسان العربي، ليرى المملكة بكل ما تعج به من خيرات لإنسانها، ولكل عربي، ومسلم. وكيف لا تكون ملء السمع والبصر..! وهي قد جَسَّرت الفجوات بين النخب العربية، واستطاعت تصفية الخلافات الفكرية بينهم، وصنعت ما لم تَصْنعه سائر وسائل التواصل، إذ مكنت أدباء البلاد من التعارف، والتواصل مع أدباء العالم العربي، ومفكريه، وكانت لي كما كانت لغيري من الأدباء مصدراً ثراً، أرتوي من مَعِيْنه المتدفق.

وكم كان بودي لو دُرست آثارها، ومنجزاتها، الأدبية، والفكرية، دراسة [أكاديمية]. ولاسيما أن الرأي العام لم يتصورْها على حقيقتها، لقد واَكبْتُها منذ السنة الأولى، كنت واحداً من الفاعلين فيها، وأصحاب القرار، وكانت [مجموعة المشورة] تَجْتمع في العام مرة أو مرتين، يفتتح جلساتها سمو الرئيس أو معالي النائب، ثم يُخليِّ بين المجموعة وما تريد، فَتَدْرسُ المجموعةُ كافَة الفعاليات المقترحة، وتقترح الفعاليات المهمة، وتختار الضيوف، وتحاول التركيز على المفكرين الذين يختلفون معنا، وترشح الشخصية المكرَّمة. وكم من خلافات، ومشادات، تدور بين الأعضاء، حول قوائم الاختيار، وكان لرزانة كبار السؤولين في الحرس الوطني، وبعد نظرهم الأثر الفاعل في حسم المواقف، والتقريب بين وجهات النظر، وتبرير هذه السياسة الحكيمة في صناعة الأصدقاء.

وحين ينتهي الموسم، تعود المجموعة لتقويم الموقف، فتَبيْنُ لنا حكمة هذا التصرف القائم على الاحتواء، أوالتحييد.

والفعاليات المتعددة والمتنوعة يتم إعدادها، والإعداد لها بكل دقة وانضبط، ووفق شروط، تراعَى فيها متطلبات المرحلة، وخصوصية البلاد.

من الطائف هذا العام أن المنظمين يَعْرفونني، ويظن بعضهم أنني لمَّا أزل ضيفاً، ومن ثم يتسابقون لتهيئة الأجواء الرسمية، وحين أتغافلهم، أتَسَلَّلُ لواذاً، لأتنفس بحرية، غير أني حين رغبت مغادرة الموقع لسيارتي، قَبِلْتُ هذا الظن، وامتطيت إحدى السيارات الرسمية، وحين مررت بالمواقف، أخذت طريقي إلى سيارتي سَرَباً كـ[حوت موسى]، ليمضيَ كُلٌّ منا إلى غايته، فما شئت، ولكن شاءت الأقدار أن أمُجَّ من فمي الماء، وأبوح بما فِيَّ.

الجنادرية بدأت متواضعة، ومع الزمن أصبحت مدينة سياحية، تبدو فيها صورة [بانورامية] للمملكة، عبر مواقع المناطق التي صُمِّمت مبانيها لتحكي التاريخ والآثار، وتبدي الأزياء، والعادات، والمقتنيات، والمأكولات. وهي فوق هذا سوق اقتصادية، تباع فيه الصناعات المحلية من ملبوسات ومأكولات، وتنفذ فيها الفعاليات الأدبية والفكرية، وتلتقي فيها أطياف الأمة العربية، ينجزون من التقارب، والتعارف مالم تنجزه كافة المؤسسات التواصلية.

ومطبوعاتها المتنوعة وملفاتها المتعددة بلغت آفاق المعمورة، واحتلت رفوف المكتبات الخاصة والعامة، فكانت بمثابة تواصل آخر.

والبعض منا يتصور أنها شاخت، واستهلكت نفسها، ولم يعد باستطاعتها أن تضيف شيئاً. وآخرون يظنون ظن السوء، بحيث يتصورون أنها مجال للإنفاق الباذخ، ولست معنياً بالدفاع عنها، أو تزكية العاملين فيها، إذ من الطبيعي أن تتشعب الآراء، وتختلف التصورات.

كُلُّ الذي يعنيني بعد هذا العمر المديد أن تُشَكَّل لها هَيْئَةٌ رسمية من الجهات ذات العلاقة الوثيقة بفعالياتها كقطاع التعليم، والسياحة، والشباب، والإعلام، ونخبة من الأدباء والمفكرين والعلماء. وأن يتم تحويلها إلى مؤسسة مستقلة، ترتبط إدارياً برئاسة الحرس الوطني، وأن يقام فيها فندق وقاعات، بحيث تمارس نشاطها الأدبي، والفكري، والاجتماعي في موقعها. وبهذا تتحمل مسؤولياتها أمام الرأي العام، الذي يجهل كثيراً من إيجابياتها، فليس من الحصافة أن تظل بمعزل عن الناس طوال العام، مع أن فيها منشآت أُنفق عليها بسخاء، وبمقدور هذه المنشآت أن تفتح أبوابها طوال العام للسائحين والمتسوقين. لقد شبَّت عن الطوق، وحق لها أن تَسْتَقلَّ، لتواكب المتغير، وتُشْبعَ النَّهَم، وتَحْمِي نفسها من مراودة الأطياف، وتنازع الفئات .

ولقد يكون من الأفضل فتحها على الأقل في العطل الموسمية والأسبوعية. فالمطاعم الشعبية التي تمثل كافة المناطق، والمشغولات الشعبية، والحرف اليدوية، تعد وسيلة جذب لأهل الرياض، ولمن حولها وللوافدين عليها. والمدركون لإمكانياتها يودون تحويلها إلى منطقة سياحية، تمتص فائض الوقت، وتملأ الفراغ، وتُشْبِع الرغبات. ولاسيما أن سكان الرياض من أبناء المناطق، ويَحْلو لكل أبناء منطقة أن يُلموا بتراثهم، ولو ساعة من نهار. فلماذا تعطل هذه المقرَّات عاماً كاملاً، ليتدافع أبناء المناطق بالآلاف عند افتتاحها في موسمها المحدود؟.

لقد استوت الجنادرية على سوقها، واستكملت وضعها الطبيعي كموقع متميز، وصالح لاستقبال المواطنين، والمقيمين، والزائرين، وقضاء العطل الرسمية بمدينة أخذت زخرفها وازَّينت.

وبعد:- لقد اصطرعت في نفسي مشاعر محتدمة متناقضة.

فموسمها لهذا العام، واكبته مفاجآت غير سارَّة، حالت دون استكمالها لزينتها. فرجل الجنادرية الأول الذي صُنِعت على عينه، لم يُطِل على شعبه من خلالها. وحفلُها الخطابي حال دون تنفيذه وفاة الرجل الثاني في الحرس الوطني. والشخصية المكرمة لم تعد من رحلتها العلاجية. وضيوف الجنادرية لم يلتقوا بالملك عبدالله، وهو لقاء ميمون، يحسب له الضيوف كل الحساب.

ومع كل تلك المعوقات فقد تجلَّدت، وظهرت بمظهر مَشَرِّف، لِتُريَ الجميع أنها لريب الدهر لا تتزعزع.

فشكراً للأمير متعب بن عبدالله الذي بادر كُلَّ الأَزِمَّةِ، ومضى ثابت الخطو. وشكراً لكل الجنود المجهولين الذين لا يألون جهداً، ولا يدخرون وسعا.

وكل الأسف لتلك المعكِّرات الناتجة عن الضَّعف في إدارة الحشود من كل الأطراف، وهي معكِّرات عابرة ومحتملة، وإن نَفَشَتْ فيها ألْسِنة الفضوليين.

كانت لنا أعوام في الجنادرية..!
د. حسن بن فهد الهويمل

د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة