Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناMonday 24/06/2013 Issue 14879 14879 الأثنين 15 شعبان 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

تنتشر الصور بالإنترنت والفضائيات، وتسيطر على انطباعاتنا عن الأحداث، حتى صرنا في زمن الصورة كما يقال، إلاّ أنّ بضاعة المصوِّرين أصبحت كاسدة، لأنّ أغلب الناس صار لديهم هواتف ذكية مزوّدة بكاميرات يلتقطون الأحداث ويرسلونها قبل أن يأتي المصوِّر الصحفي المحترف..

المصوِّرون المحترفون والمراسلون الصحفيون أصبحوا في مأزق، فلم يَعُد الاحتراف أساسياً إذا كان الشخص العابر في الطريق قد صوّر أهم ما في الحدث ونشرها في الإنترنت بتعليقاته الخاصة وشاعت بين الناس، قبيل أن يأتي المصوِّر ومعه المراسل ليلتقطا البقايا! ولم يَعُد هذا الشخص العابر مجرّد متلقٍّ للأخبار والصور كما كان، بل صار مرسلاً ومستقبلاً في ذات الوقت. ومن هنا بدأت تضمحل معادلة المرسل والمتلقِّي أو المنتج والمستهلك، فقد صار لدينا المستخدم (user) الذي يجمع هذه المعادلة بين أصابعه.

نحن الآن في بداية نهاية مفهوم المرسل والمتلقِّي واندماجها في المستخدم، مما يتطلّب معه إعادة تعريف مفهوم النشر الصحفي أو حتى النشر بشكل عام. الآن تتخلّى كثير من الصحف عن مصوِّريها المحترفين وتكلِّف بدلاً منهم صحفييها المحررين، وكان آخرها قبل أيام حين قررت صحيفة «شيكاغو صن تايمز» الاستغناء عن المصوِّرين العاملين لديها والبالغ عدهم 28 مصوراً وتكليف المحررين بذلك.. بل إنّ صحفاً عالمية بدأت بالتخلِّي حتى عن المراسل الصحفي وتتعاون مع «القراء» كمشاركين في تحرير الأخبار المدعومة بالصور..

هنا ستواجه مهنة التصوير خطورة سقوطها في الرداءة وابتعادها عن المهنية وانسياقها مع الشعوبية التي لا تعنيها الجودة ولا ترضي بالاعتدال الصحفي المبني على أُسس منهجية، بل على الصورة أن تكون فاقعة والأفضل أن تكون متطرفة وعنيفة كي تلفت الانتباه.. أصبحت صور من كاميرا بيد عابر تهزم أكبر المؤسسات الصحفية لأنه سبقها بالنشر ولأنّ بها مظاهر حادة قد لا تقبل بها الصحف الرزينة.. وأصبحت الصورة هي الأساس التي يتشكّل منها الخبر وليس مجرّد مظهر توضيحي للحدث..

هذه السيطرة الباهرة للصورة على الأحداث تنذر بخطورة اختلاط الحقائق وقدرة البعض على التزييف.. حيث يتراجع دور المعلومة من المراسل الصحفي المحترف ومعه الأدلة اللاحقة فتغدو الصورة مع بضع كلمات هي كل شيء: المعلومة والأدلّة والتحليل والاستنتاج والقرار.. أي طغيان الحالة المشهدية على الأحداث.. لتغدو الرسالة الصحفية ضحية لحرب الصور بين الأطراف المتنازعة، تختزل فيها الأحداث عبر الصور التي يقتنصها كل طرف ضد الطرف الآخر.. والآن تجد في الإنترنت كيف تحوّل جزء كبير من الصراعات إلى صراعات صور..

هيلمان الصور تم الانتباه له قبل انتشار كاميرات الهواتف المحمولة والإنترنت، وكان أول من انتبه لحرب الصور من خلال الفضائيات هو المفكر الفرنسي بودريار، حين كتب في صحيفة ليبيراسيون بعد يومين من حرب الخليج الثانية (1991) مقالة بعنوان «حرب الخليج لم تقع»!! وكان ليلة الحرب كتب مقالته المشهورة في الجاردين زاعماً أنّ الحرب لن تقع، بسبب عدم إمكانية التمييز بين الصور والكلام والواقع. فهناك زخم هائل من الصور التي نراها دون أن نعلم بالأحداث الفعلية لهذه المعارك. بل إنّ أصحاب القرار يتابعون الأحداث عبر شاشات الفضائيات ويتأثرون بالصور التي يشاهدونها. ومن هنا يمكن القول إنّ التغطية الإعلامية والصور المنقولة هي التي تصيغ الحرب، بل هي الحرب ذاتها! لأنّ الانطباعات التي تنشأ منها لا تؤثر في عموم المشاهدين فقط، بل تؤثر في أصحاب القرار أيضا.

إنّ الوقائع التي تلتقطها الكاميرا يحتفظ بها الذهن أما الوقائع التي لا تلتقطها الكاميرا فتعتبر غير موجودة، وبتعبير آخر فعند متابعة الأحداث، فإنّ الحدث المنقول الذي لم نره لا يبقى في أذهاننا مثل الحدث الذي رأيناه. أو كما تقوم فلسفة بورديار: «الأشياء لا تحدث إذا كانت غير مرئية»، فما حدث في حرب الخليج هو حرب صور متلفزة.. فقوة تأثير وسائل الإعلام وهيمنتها أفضت إلى ما فوق الحقيقة.. وأصبحت الصورة أكثر حقيقية من الحقيقة! أي وصلنا إلى ما وصفه بورديار: «كدنا أن نقول إنّ الحقيقة أصبحت غيورة من الخيال وأصبح الواقع غيوراً من الصورة!»

أفكار بودريار هذه ظهرت قبل عقدين عندما كانت القوى المتقدمة تكنولوجياً وعسكرياً هي المسيطرة على منظومة إنتاج الصورة، موضحاً أن الحروب أصبحت مجرّد لعب فيديو عبر سيناريو تخييلي تكون الحقائق فيها آخر المعلومات المتفق عليها، ليتمكن هذا السيناريو التخييلي من المزج بين الحقيقة والمعتقد.. عبر صور زائفة واستراتيجيات الردع النفسي.. حيث يتم اللعب بالحقائق بمزجها بالصور الطارئة.. ليعتلي الزمن الظاهري على الزمن الفعلي.. بل يعتلي الظاهري عموماً على الفعلي عموماً..

وكان المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه انتبه مثل صاحبه بودريار، للقدرة المسيطرة للصورة العولمية، وكتب: «إذا كان أساس السلطة هو الإقناع، فإنّ الصورة توفر اليوم قدرة إقناعية لم يسبق لها مثيل، فمن يتحكم بإنتاج وتسويق الصورة يتحكم بالمجتمع كله». فكيف سيكون الوضع عندما صارت الكاميرا بيد الجميع؟ فالقوى العسكرية الجبارة والمتقدمة تكنولوجياً والمؤسسات الإعلامية الضخمة لم تعد محتكرة للصورة وصارت تخسر تدريجياً من مؤيديها في الرأي العام؛ وأظهرت أهم الصحف العالمية أنّ نسبة كبيرة من الرأي العام العالمي قد صارت تقتنع بالرواية الصادرة من المستخدمين، أي من صور الشخص العابر في الطريق..

لكن هل ستستسلم القوى العظمي لانفلات سيطرتها على الصورة وروايتها الرسمية؟ هل سترضخ المؤسسات الصحفية الكبرى لهذا القدر؟ هناك ترجيح بأنّ المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ستنساق مع الشعبوية المفرطة، بينما يتوقع أن المؤسسات الكبرى والقوى العظمى ستجد طريقاً لإعادة سيطرتها .. لكن كيف؟

ربما أنها ستتبع إستراتيجية جديدة للسيطرة على الصور بتكثيف المتعاونين معها لتصوير الأحداث المهمة وسرعة إنتاجها وبثها وفقاً لما يناسبها.. أو منح أسعار مغرية لشراء صور العابرين، مقابل الادعاء - كما يحدث فعلاً - أن منافسيها من العابرين الآخرين هم من الهمجيين أو الإرهابيين وتحاول عبر الصور المضادة أن تثبت ذلك.. ربما ستمتلك المؤسسات الكبرى حقوق استخدام أجهزة التصوير التي ستكون منتشرة في كل الشوارع والمواقع ومن ثم تحصل على السبق الصحفي.. مما يعني أنها يمكن أن تمارس تزييفاً أشد تضليلاً مما كان قبل عولمة الصورة!

alhebib@yahoo.com

زمن الصورة.. نهاية المصوِّرين!
د.عبد الرحمن الحبيب

د.عبد الرحمن الحبيب

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة