ضمن منهج النصوصِ الجغرافيَّة في عامنا الجامعي الأول حفظنا مقولةَ العالم الشهير (ابنِ خِرْداذبّة) صاحبِ كتاب المسالك والممالك: «والأرضُ في جوف السماء كالمُحّة في جوف البيضة» وفهمنا يقينَه من كروية الأرض متقدمًا في القرن الثالث الهجري على زمنٍ طويلٍ تلاه، وهو ما شاء أستاذُ المادة إعلامَنا به، ولم تغب في كشفه المبكر صورةُ جرمٍ ضئيلٍ في كونٍ كبير، وتأملنا مواقعَنا فلم نلقَ مكانًا ثم زعمنا مكانة.

* وعينا دروسَ الأرض وتجاوزنا منطقَ الفرض وتنقلنا بين ثوابتَ ومتغيراتٍ وأدركنا أننا نستطيع أن نجعل أنفسنا خارج التأريخ غير أننا لن نقدر على نزعها من الجغرافيا وهو ما يعني محدوديةَ الحركة على الأرض واتساعَ أمدائها في الفضاء، وفيما يتجلى فارقُ الواقعية عن الحلم تتكون فواصلُ ذهنٍ يلازم الجسد عن آخرَ يسيرُ الهوينى فيختال متخيلًا أنه طائرٌ في السماء.

** تبقى الجغرافيا المحددَ الحقيقيَّ لاتجاهاتنا الأصليةِ والفرعية فندورُ حول أنفسنا في بيوتنا وبين بني أقاربنا كما تنطلق الأرضُ بنا مع بني أباعدنا فنعيبُ المسار ولا تعبأ، وننفصل عنها ونحن منغرزون في ذراتها آناء الآصال وتحت الأنصال ليتَّحدَ المكانُ والزمان وتختفيَ لعبة الاحتماء بالأمس فرارًا من حرارة الشمس.

* صورةٌ تختزلُ أبعاد الأزمات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي نعاني منها؛ فلا التاريخ قدَرٌ ولا الجغرافيا خارطةٌ مثلما المكانُ إنسانٌ يعيش زمانه دون أن يختار أين يولدُ وكيف يحيا ولماذا يساكنُ مختلفين وينأى عن مؤتلفين ويحتربُ مع الأدنين ويتحالفُ مع الأقصين.

* لو تُرك لكل امرئٍ خيارُه الجغرافيُّ فلن ينأى عن أهله من أجل مذهبه ولن يتقدم به زمنه المغترب ليرجع طائعًا إلى زمن مقترب، ولعل كثيرين فينا وممن حولنا يلتئمون في علائق دمٍ ورحمٍ وجوارٍ تعدديةٍ تضمُّ الشيخَ والليبراليّ، والسلفيَّ والتحريري، والشيعيَّ والسني، والمسلمَ والنصراني، وأصحابَ الفرق والطرق، وذوي المواقفِ وتابعي الهوى.

* كذا يحكم الشارعُ ويغيبُ التشريعُ فيتصدرُ مؤدلجٌ ويسيطر مؤججٌ ويصبحُ حق الناس البسطُاءِ النَّصَبَ بين المتزاحمين على المناصب، ويشغلهم شعارٌ عن دثار وصوتٌ عن منفعةٍ ويحملُهم المتكئون على طموحاتهم وانتماءاتهم ليعادُوا بتوجيهٍ ويوالُوا بتوجه ويصبحوا وقودًا لمصالحَ فرديةٍ وحزبيةٍ لا تؤمنُهم من خوف ولا تقيهم من حيف.

* انشغل صديقُه المسيسُ حتى رأسه بأحداث الشارع العربيِّ المائج فأمطره برواياتٍ وتحليلاتٍ وتوقعات وقابله صاحبُكم بشيءٍ من الصمت حارفًا سمعَه عن ضجيجٍ سيخبو حين تقود الحقيقة ويغلب الحقُّ ويكتشف حاملو الراياتِ أن للأمكنةِ نفوذًا وللأفئدةِ مشارب، وأن زعاماتٍ تعيثُ بطهرها سينتصفُ منها التأريخ حين لا يبقى مكانٌ يُقصد ولا نبضٌ يُرصد.

* الأمواجُ لا تعني وفرةَ الماء، والأعاصير لا تدلُّ على جمال الهواء، والفتنُ محنٌ تتلاطمُ فيها الرؤى فتعصفُ بالأبصار وتُعشي البصائر، وموقدوها لن يكتووا بها وسيكتوي المُصطلُون.

* المكانُ لا يُحتكر.