Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSaturday 06/07/2013 Issue 14891 14891 السبت 27 شعبان 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

التَّنظيرُ إما تقعيد علمي من حقل المادة العلمية: (من كلِّياته وقواعده الجامعة، أو من أفكاره المستنبطة منه)، وإما من هوَّيات المسمَّى العامة التي جَرَّدها العقل عن مسمَّيات كثيرة كالمعاني العامة المجردة من المسمَّى بيتاً أو فرساً أو حيواناً ناطقاً، وإما بوضع اصطلاح على شيئ لا يوجد في المأثور اصطلاح ينطبق عليه..

وهذا الأخير يُشترط فيه الصحة لغةً، والصحة واقعاً.. والتنظير هو الخلاصة من كل هذه الأمشاج المُؤدَّاةِ بأقصى ما يُقدر عليه من الإيجاز بجمل أو سطور جامعة مانعة، والتنظير منه الحقيقي ومنه الادِّعائي، وكلامي هنا عن التنظير الادِّعائي، ولا يهمني في هذه العجالة أن أصف صاحب التنظير الادِّعائي بأنه مُعتَمِدٌ التضليل عن غير جهل، أو أنه اجتهد اجتهاداً خاطئاً عن غفلة وجهل لا عن سوء قصد، وإنما يهمني تحقيق التنظير وحسب بأمانة القلم علماً وفكراً.. ومن التنظير الادِّعائي قول الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه الخطاب والتأويل ص 204: «مَبدَأُ الحرية نقيضاً للعبودية هو مبدأ شديد الالتصاق من حيث دلالته بمبدإ العقل؛ ذلك أن الإنسان الحر هو الإنسان العاقل أساساً».

قال أبو عبدالرحمن: هذه مواضعه جديدة خلاف اللغة والعُرف، هي خلاف واقع الحرية والعقل، وهي أيضاً مواضعه من كيس أبي زيد، والمواضعة والتنظير بإرادتهما عرفاً عاماً، أو اصطلاحاً خاصاً مرفوضان لغة إذا لم يكن شاهدهما من اللغة نفسها؛ لأنّ اللغة للبيان والإيضاح والاطِّراد غير المتناقض لا للتضليل.. وهما مرفوضان إذ لم يُعَبِّرا عن واقع، فأول ما نراه من الادِّعاء جَعْلُه الحرية نقيضة للعبودية بإطلاق، وهذا غير موجود في عموم الطبيعة، ولا في طبيعة الإنسان الذي هو جزء من الطبيعة العامة؛ لأنه لا وجود لحرية مطلقة ملَّكها الله الإنسان أو ملَّكها الطبيعة المسَّيَّرة حُرِّيَّتُها بسنَّة حتمية تُوَجِّه هذه الحرية.. وتلك السنَّة الحتمية عند المؤمنين هي إرادة الله بقدرته وعلمه وحكمته؛ إذن الحرية ليست نقيض العبودية بإطلاق، بل هي نقيض ما يُقدَر على التخلص من أسره.. والعبودية جزء من نقائض الحرية؛ لأنّ الفرد قد يُقَيِّد نفسه بسلوكه من غير إكراه، ويتحرّر من ضد ما قيَّد به نفسه من غير إكراه أيضاً كمن اختار البطالة والاستجداء وهو قادر على العمل وتحصيل الرزق، وقد ينتهي ما اختاره بحرِّيته إلى عبودية يعجز عن التحرُّر منها إلا بلطف من ربه، وذلك هو تكوين العادة السيئة كتعاطي المخدرات؛ فيكون تطبُّعه طبعاً، وإذن فالحرية من شيئ تقيد به باختياره ليَتَقيَّدَ بشيئ آخر باختياره أيضاً.. وثاني ما نراه من الادِّعاء قوله: (إن الإنسان الحر هو الإنسان العاقل أساساً)؛ فلا يُعرف في اللغة أن الحر هو الإنسان عاقلاً أو غير عاقل، بل الحُرِيَّةُ المُقَيَّدة التي يتصف بها ذو الحرية وصف شامل لمن ملك الحرية من إنسان عاقل أو غير عاقل، وهي وصف للأحياء الأخرى كالنحل والنمل والعنكبوت.. الخ من مشاهدتها في الواقع، فهي تملك أشياء كثيرة من الحرية في علم المؤمن والكافر.. إلا أن المؤمن تزيد براهينه بأن تلك الحرية تمليك من الله، ومن مقتضى سنّته الكونية تدبيراً وحكمة، ويجد التذكير بذلك المعقول بالمشاهَدة من خالق العقل جل جلاله في قوله سبحانه وتعالى عما قاله كليمه موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (50) سورة طـه، فتلك الحرية المنحة نتيجة إعطاء الرب وهدايته.. وفاقد العقل يملك حرية عمياء من السلوك، والإنسان العاقل يملك حرية غير معقولة ترديه دنياً وآخرة إذا تحرر من مسؤولية العقل، وتَقيَّد بأواء نفسه وشهواته،؛ فسقط سقوطاً مُظهراً عبث الادِّعاء: (أن مبدأ الحرية شديد الالتصاق دلالة بمبدأ العقل) بالمعنى الذي أراده، وهو أن الإنسان الحر هو العاقل، لأنه لا تلازم بين الحرية وكون الإنسان عاقلاً، ولأن العقل لا يهب حُرِّية مطلقة، ولأن الإنسان في الأكثر بما يملك من حرية سلوك، ولما عنده من نوازع تعصي العقل: يعطل الالتزام الذي أفضت إليه (حرِّية التفكير)، وإنما يكون السلوك نطقاً وحركة وفق الالتزام عند ذي القلب التقي الذي كان الالتزام الفكري إيماناً مريحاً في أعماقه؛ فألجم بسعة الالتزام مضايقَ نوازع الباطل والشر والقبح المعتدية على خِصِّيصة الوصف الكريم، وهو (الإنسان العاقل).

قال أبو عبدالرحمن: اقتران العقل بالإنسان كاقتران الإنسان بالوسائل والأدوات التي هي جزء منه، أو من صنع البشرية يستخدمها ذكاء العقل - لأن العقل آلة من صنع الله - فيما يضره، فتل-ك هي الحرية العمياء، فالعبرة بيقين العقل أو رجْحانه الذي انتهت به حرية التفكير، فصار ما بعد الانتهاء التزاماً.. وليست العبرة بذكاء العقل في التضليل وصنع الأغلوطات.. والعقل له صفته الواقعية المحدودة بالتجربة، فمعرفته رهن إدراكه الحسي، وعلمه رهن تجاربه واستنباطاته التي تقيِّدها ضرورات العقل وضرورات الدلالة.. ألا ترى أن تقديس العقل المطلق، وتحميلَه فوق ما في وسعه في الإدراك، والخبالَ في النفس، والخبالَ من استحواذ الشيطان بدعاوي الذوق والكشف، وسهولة الإيمان بالمنامات والحكايات والأحاديث الموضوعة، وأسْرَ الإلْف والعادة والبيئة، وتصدُّر من لا يخافون الله بدعاوي الولاية وكشف الحجب والأبدال والأغواث والكرامات التي هي أحوال شيطانية أو إنسية كالتساكر بالأفيون، وتوليد الأحاديث الموضوعة والأخبار المصنوعة، من أجل الجاه وأكل الخبز الخبيث، والبعد عن صريح القرآن الكريم وصحيح السنة وصريحها بالتأويل اللذين هما من عند الله خالق العقول (وذلك التأويل تغييب لليقين أو الرجحان، وهو مدحوض بدلالتي التصحيح والترجيح)، واختراق المسلمين بالمتأسلمين تقيَّة وهم ملاحدة حاقدون على الأمة ودينها من الإمبراطوريات الوثنية ثأراً لملكها الزائل وباطلها الزاهق (ومن كيد أهل الكتاب، ومخالفة وصية الله بالاعتصام بشرعة وعدم التفرق)، وغلبة الأهواء والشهوات والشبهات، وحب الزعامة في المناصب الدينية، والحمية للإلف وتقليد المذهب وما عليه الإرث: كل ذلك جعل أمتنا أحزاباً وشيعاً متناحرة، حتى أصبح أهل الحق طائفة واحدة لا يضرها من خذلها إلى يوم القيامة.. وكل هذه الآلام هي عطاء الحرية العمياء المعتدية على خصوصية الإنسان العاقل، ونتج عن تعطيل مسؤولية العقل تلك الظواهر المؤلمة، إذ ترك الناس تحقيق مسائل العقيدة عند من جعلوهم أئمة لهم من أتباع السلف أهل الحديث في الفقه وأصول الفقه كمالك والشافعي وسفيان بن عيينة ومن يحكي (أمثال ابن المنذر، والمجتهدين المتأخرين كابن جرير وابن عبدالبر رحمهم الله تعالى). اتفاقهم واختلافهم، وجعلوا لهم أئمة في التوحيد دينهم توليد الأفكار، وجعلوا لهم شيوخاً في طرق الرقص الصوفي، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

قال أبو عبدالرحمن: إنه بعد الإيمان بالله وشرعه - وذلك الإيمان ثمرة لزوم عقلي علمي - تضافر العقل والشرع على أن مسؤولية الالتزام هي وجوب اتباع دين الله حسبما سنَّة الله من التثبُّت من صحة نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلِّغ الدين عن ربه، وحسبما سنّه الله من طُرق فهمه بلغة العرب التي نزل بها، وردِّ المتشابه إلى المحكم، والمجمل إلى المفسر.. وأن يكون دور العقل فهم شرع الله، والتمييز بين أخباره وبين أحكامه، وبين الوقائع التي هي موضوع تطبيق الحكم.. ولا دور للعقل في عصيان الشرع، أو استبداله، أو الإسقاط منه، أو الإضافة إليه.. وما سوى ذلك هو البدعة، واتباع الهوى، والاختلاف المحرَّم، لأن الله لا يُعبد إلا بنية الإخلاص، وبنية تمييز العمل الذي أراده الله، فلا يعبد الله إلا بما شرع، ومما شرعه أن لا يُعبد غيره، ولا يُشرك معه غيره، وكل عمل ليس عليه أمر الشرع فهو ردٌّ، ولا يقبل الله إلا ما كان خالصاً لوجهه، وكل بدعة خلاف أمره فهي ضلالة، فمسؤولية الالتزام الشرعي العقلي هي تلقِّي ما عليه الصدر الأول من سبيل المؤمنين الذي هو طاعة شرع الله وفهمه على المنهج الذي أراده الله، وما سوى هذا السبيل فهو الكفر أو البدعة أو الفسق أو اتباع أهواء التقليد.. ومن تعمد الزعم بأنه يؤمن بالله وهو متعمِّد الكذب باختراع أحاديث باطلة وحكايات ومنامات تخالف دين الله، وتعمَّد أن يحرِّف الكلم عن مواضعه بغير دلالة تصحيح من لغة العرب التي نزل بها الشرع، وبغير دلالة ترجيح على مراد مُنزِّل الشرع (وهو يعلم في قرارة قلبه أنه كاذب على الشرع في كل ذلك): فأمره أعظم من أن يكون مخطئاً ذا قصد حسن، بل هو راغب عن دين الله مفتر عليه، وذلك هو الكفر، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.

- عفا الله عنه -

التَّنظيرُ ادِّعاءَّ
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة