Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSaturday 06/07/2013 Issue 14891 14891 السبت 27 شعبان 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

صياغة الاستراتيجية توحي بمدى قدرة أي بلد على التأثير في مجريات الأحداث واستباق المشاكل الممكنة، وقد تعددت أنواع حقول الاستراتيجية وإن كانت في جوهرها واحدة من حيث الأهداف والأساليب، ومن بين تلكم الحقول هناك الاستراتيجية المجالية بما فيها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية،

وهناك مستوى الاستراتيجية أي استراتيجية عليا واستراتيجية عسكرية واستراتيجية عملياتية، وفي مجال الاستراتيجية العسكرية هناك الاستراتيجية البرية والبحرية والجوية، ويمكن استقراء الاستراتيجية أيضا من حيث الزمن فقد تكون شاملة وعامة، وقد تكون محدودة ومرحلية، ومن حيث الوصول إلى الغايات هناك الاستراتيجية المباشرة وغير المباشرة... ولكن لضمان نجاح كل هاته المستويات، على كل الأفراد والمؤسسات المعنية العمل في إطار تناغم وتكامل لكي تساهم جميعا في تحقيق الهدف العام للسياسة، فعندما قرر الرئيس الابن بوش التدخل عسكريا في العراق، وبالرجوع إلى كتابات أهم الفاعلين في تلك الفترة نفهم أن المحافظين الجدد وعن اقتناع وجدوا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر مطية لتنفيذ بعض من استراتيجيتهم التي كانوا قد وضعوها ويؤمنون بها للدفاع عن المصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، فوقع التدخل العسكري ونجح الشق الأول من النظرية الاستراتيجية للمحافظين الجدد أي إزالة نظام صدام وإن كان التدخل مبنيا على مبررات خاطئة (مثلا توفر العراق على الأسلحة النووية) ولكن الشق الثاني (سقوط الأنظمة المجاورة) والثالث (الدمقرطة السريعة للعراق) من النظرية لم يقع، فأنظمة الدول المجاورة لم تصبها في تلك الفترة أية تغييرات سياسية، كما كان يعتقد الاستراتيجيون الأمريكيون، كما أن دولة العراق، وبعد عقد من الزمن لم تتمكن الديمقراطية الحديثة من الاستقرار فيها؛ ويكفي الرجوع إلى ما كتبه الأستاذ صباح ياسين مؤخرا لتمثل ذلك: «عشر سنوات لا يمكن حساب رصيدها تفاصيلها وتعداد دلالاتها بالأرقام وغيرها، فقد تحول العراق في ظل الاحتلال الأمريكي والحكومات اللاحقة، إلى رقم مجهول الهوية والمعالم؛ وأضحت واحدة من أقدم الدول العربية التي نالت سيادتها واستقلالها (1921)، تتموضع في حالة «دولة فاشلة» في معايير الأمم المتحدة، ومتقدمة في ترتيب الدول الأكثر فسادا في العالم، وبسجل مفجع للعنف لا يمكن التعبير عنه إلا بوصفه مجزرة متواصلة التكرار، إلى جانب غياب وتدهور الخدمات الأساسية للمواطنين، وفي المقدمة منها خدمات الصحة والتعليم والكهرباء والماء الصالح للشرب والمجاري والطرق... إلخ. ولأجل التمكن في إحكام السيطرة والهيمنة على العراق فقد أقدمت قوات الاحتلال الأمريكي على إصدار قرارات تقضي بحل الجيش الوطني وقوى الأمن الداخلي، واستبدالها بميليشيات حزبية بلاعقيدة قتالية، وفرضت على الشعب عملية سياسية مشوهة المعالم ودستورا هجينا كتب من خارج العراق... دستورا مثقلا بالكلمات البراقة ولكنه ملغم بعناصر التفجر لمقومات النسيج الوطني، وليؤسس لتناقضات وتعقيدات داخل بنية الدولة والمجتمع العراقي وليساهم في تشويه وطمس هوية العراق العربية... دستور شرع وفق منطق المحاصصة الطائفية ليظلل عملية سياسية عرجاء مزعومة لم ولن تستقيم أمورها بل ليساهم في تكريس التجاذبات الطائفية والإثنية في شكل الهيئات السيادية للدولة وعلى مستوى بنية المجتمع العراقي».

ويكفي الرجوع إلى تقرير مركز دراسات الوحدة العربية السنوي عن حال الأمة العربية استنادا إلى الإحصاءات التي تتداولها مراكز البحوث والمنظمات الدولية لتمثل ذلك:

- خمسة ملايين أمي في العراق، بعد أن كان خاليا من الأمية عام 1991.

- مليونا أرملة.

- خمسة ملايين عراقي مهجرين في الداخل والخارج.

- خدمات تحت الصفر (كهرباء، ماء صالح للشرب، غداء، دواء، بيئة).

- البلد الأول في السرقات من المال العام، والفساد الإداري (حسب منظمة الشفافية الدولية).

- انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.

- فوضى أمنية عارمة في العراق

فهنا نرى فشل السياسة الأمريكية في بناء عراق ما بعد صدام... ولعمري فالمخططون الأمريكيون لم تكن عندهم المكنة الفكرية والعلمية والذهنية الكافية للتخطيط المحكم لهاته الفترة ولهذا البلد... فدولة كالعراق ليست هي ألمانيا واليابان لما بعد الحرب العالمية الثانية كما كان يظن ذلك ديك تشيني ودونالد رامزفيلد... وقد يسأل سائل عن مكمن الخطإ: هل عند الاستراتيجي أو عند المخطط الأمريكي أو عند السياسي الأمريكي؟ أظن أن الخطأ مشترك ولكن يتحمله بالدرجة الأولى الاستراتيجي... فلو صاغ استراتيجية بناء دولة العراق ما بعد سقوط نظام صدام بدقة كما صاغ استراتيجيته لإسقاط نظام صدام لأخذت منذ البداية الإجراءات والتدابير والسيناريوهات الممكنة من المخطط لبناء دولة ما بعد انهيار النظام السلطوي، هذا إذا كانت نية الاستراتيجي حسنة (الوصول إلى الغاية القصوى وهي بناء دولة عراقية ديمقراطية لا مذهبية ولا طائفية).

إذن حاصل القول: إن جميع الطرق والوسائل المستعملة يجب أن تكون مجتمعة لخدمة الهدف النهائي الذي سطرته السلطة السياسية العليا للبلد... وإذا أخذنا الاستراتيجية العسكرية فلا تعني فقط مما تعنيه التدخل العسكري الدائم أو الوحيد، فالاحتواء الاستراتيجي يلعب في الكثير من الأحيان دورا رياديا من حيث المردودية... وهنا نستحضر هاته الحكاية التاريخية المعروفة عند الذين يزاولون الكندو (Kendo) (طريق السيف) وتعبر بجلاء عن نظرية الاحتواء الاستراتيجي:

-»...» ذات يوم، دخل رجل يحمل سلاحا وهو منهك القوى إلى مدينة صغيرة، ليبحث عن أكل وعمل.

-لم يجد شيئا يقتات منه أو يشربه.

- فإذا به يجد نفسه تجاه رجل مسلح يحمل سيفا براقا، وأعطاه موعد الغد ليتبارزا في وسط المدينة وبحضور الخاص والعام.

-زائر المدينة استعلم عن ذلك الرجل، فوجده من أعتى المحاربين وأقواهم، وله قوة وتجربة لا يعلى عليها، وهو من صناديد المحاربين بالسيوف والرمي، وشارك في الحروب وتصدى لكل الهجمات... فذهب عند معلم الفنون الحربية في المدينة... فأمره بأن يصلي على نفسه صلاة الموت لأن الوقت غير كاف لتعلم فنون الحرب المتطورة ومجابهة المحارب وطلب منه أن يقصد رجل دين حتى يتعلم الحكمة، فقصده ونصحه رجل الدين أنه في وقت المبارزة يجب عليه أن يبقى دون حركة أثناء القتال وأن يغمض عينيه وأن يقرأ صلاته المعتادة ويحرك بها شفتيه بصوت غير مرتفع... فلم يفهم الزائر شيئا وظن أنه قد كتب علبه مسبقا موتا سريعا، فغاظه ما سمعه من نصيحة إلا أن رجل الدين قال له هاته هي الوسيلة الوحيدة لتبقى على قيد الحياة.

- وفي وقت المبارزة، تعجب المحارب من ردة فعل الزائر، رجل يغمض عينيه وجالس بدون حركة يتمتم صلوات غير مفهومة، فبدأ يفكر المحارب لأنه كان ذا فكر، فالزائر 1) إما أن يكون أحمق 2) أو انه رجل انتحاري 3) أو انه رجل قوي جدا.

-»فإذا كان أحمق، فهذا لن يزيد من قوتي وشهرتي في شيء؛ وإذا كان انتحاريا فسيكون من الحمق مساعدته على ذلك؛ وإذا كان قويا جدا، فقد يودي بحياتي إلى التهلكة».

-فكانت نتيجة ذلك ان الزائر استقر نهائيا وبرخاء في المدينة الصغيرة، وعاش حياة مديدة.

هاته القصة المعبرة لفلسفة سوان تزو Sun Tzu عن فن الحرب تعبر عن العبقرية في الاستراتيجية ليست هي المبارزة العسكرية والمباشرة ولكن هي احتواء وتطويق العدو بدون قتال بمعنى تطويق استراتيجية الآخر وجعل الطريق الوعرة طريق سهلة.

عن العبقرية في السياسة الدولية
د. عبد الحق عزوزي

د. عبد الحق عزوزي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة