Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناThursday 18/07/2013 Issue 14903 14903 الخميس 09 رمضان 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الثقافية

أشرتُ في الجزء الأول من هذا المقال إلى فئةٍ من المبدعين لَم يفلحوا في فهم الرؤية الحقيقة للنقد الإبداعي، ولَم يدركوا أهدافه وغاياته، حيث باتوا يُشكِّكون في كلِّ نقدٍ مُوجَّهٍ إلى أعمالِهم الفنية، ويتهمونه بالشخصنة المرفوضة، وافتقاده لأدنى درجات الموضوعية والنزاهة، رغم أنهم يطالبون في خطابِهم بِهذا النوع من النقد، إلا أنَّ المتأمل في مواقفهم يدرك أنَّ هذه المطالبات إنَّما هي في الحقيقة وهمٌ وزيف، وأنَّهم يقصدون بذلك أعمال غيرهم، أمَّا نصوصهم فيرون أنَّها فوق ذلك، وإن كان ثَمَّة نقدٌ مُوجَّهٌ إليها فينبغي أن يكون مصحوباً بالثناء والمديح، حيث إنَّ أيَّ نقد لا يَحمل ذلك، أو لا يُبشِّر بِميلادهم الأدبي أو بنصوصهم العبقرية، ولا يسهم في ظهور أسْمائهم وأغلفتهم على الصحف والمجلات مصحوبةً بكيلٍ من عبارات التطبيل وشهادات الاستثناء، ما هو إلا نوعٌ من النقد المغرض، وما أصحابه إلا ثُلَّةٌ من الحاسدين الحاقدين الذين لَم يتمكنوا من الوصول إلى مرحلة العبقرية الأدبية التي وصلوا إليها، فأشغلوا أنفسهم بانتقاص الآخرين.

وإذا أردتَ أن تتبيَّن حقيقة وجود هذه الفئة مِمَّن يُسمُّون أنفسهم (مبدعين)، ويدَّعون تقبُّلهم للنقد بصدرٍ رحب فانظر إلى مواقفهم من بعض العبارات النقدية الموجَّهة إلى أعمالِهم الفنية، ستدرك حينها أنَّ عباراتٍ مثل (المستوى الفني المتواضع) و(التجربة السطحية) و(اللغة الركيكة) لا يعدُّونَها سوى طعنٍ مقصود في ذواتِهم، وتَحاملٍ مقصود على شخصياتِهم، واستهدافٍ مُغرضٍ لتحطيمهم والتشفِّي بِهم، ولذا تراهم يسارعون في اتِّخاذ المواقف الصارمة من هذا النوع من النقد، وينبرون للدفاع بكلِّ ما أُوتوا من قوَّة بيان –إن كانوا يَملكون شيئاً منه- عن ذواتِهم ونصوصهم.

وأكثر ما يشهده واقعنا النقدي المعاصر من مواقف لِهذه الفئة أنَّهم يُجابِهون النقَّاد باللجوء إلى اتِّهامهم بالغيرة والحسد، أو الادِّعاء بأنَّهم يعانون من أمراضٍ عصابية أو تشوُّهات نفسية، وما هذا النقد سوى مُحاولاتٍ لإسقاط هذه الأمراض على أعمالِهم الإبداعية، أو أنَّ القضية برمَّتها لا تتجاوز دافع الثأر والتشفِّي من مواقف سابقةٍ مزعومة، لا يعلم حقيقتها سوى صاحب العمل المنقود.

وهنا يُصاب القارئ بالحيرة من هذه التصريحات، وتعتريه علامات الدهشة من هذه المواقف! ويَحِقُّ له أن يتساءل: إذا كان الأمر كذلك فما النقد الذين يطالبون به؟ وما المقاربات التي يدعون إليها؟ وكيف يريدون للحركة النقدية أن تؤتي ثِمارها وهم يُجابِهون النقَّاد بِهذه المواقف؟ ولِماذا يعتقدون دوماً أنَّهم مُستهدفون وأنَّ الممارسة النقدية التي تُمارس تِجاه أعمالِهم ما هي إلا مُمارساتٌ مغرضةٌ حاقدةٌ، الهدف منها تَحطيمهم والنيل منهم ومن إبداعهم؟ ولِماذا يظنُّون أنَّ نصوصهم بِمنأى عن النقد بينما ينبغي أن يُوجَّه إلى أعمال غيرهم؟ وما هي حقيقة العداوة وحسابات التصفية بينهم وبين النقَّاد؟ وتتوالى التساؤلات دون إجابة، ويستمر العجب دون تبدُّد، وتبقى الحيرة دون تلاشي!

إنه لِمن المؤسف حقاً أن يفهم كثيرٌ من المبدعين النقد الإبداعي هذا الفهم السقيم، والأكثر أسفاً أن يكون هذا الفهم متعمداً، في مُحاولةٍ منهم لستر رداءة أعمالِهم وتواضع نصوصهم، وأنَّى للحركة الإبداعية أن تزدهر في بيئة تفهم النقد على أنه شخصيٌّ ومغرض؟ وكيف للنقد أن يؤتي ثِماره وهو يُجابَه بعقولٍ فهمته على أنه ثناءٌ ومديحٌ وتطبيلٌ ووسيلةٌ من وسائل الشهرة والظهور؟ إنَّ على هذه الفئة من المبدعين أن تفهم ثقافة تقبُّل النقد قبل أن يلجوا عالَم الإبداع، وأن يدركوا الوظيفة والغاية الحقيقية من المقاربة النقدية لأعمالِهم، كما عليهم أن يعوا جيداً أنه لا يوجد نصٌّ بشريٌّ غير قابلٍ للنقد عدا ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والحقُّ أنَّ القارئ لا يشعر اليوم أثناء قراءة مُجمل النصوص الإبداعية المحلية بِهبة السرور أو المتعة، تلك الغاية التي يقول عنها (أرنولد بنيت) بأنَّهما أسْمى غايةٍ لأيِّ عملٍ فني، كما أنَّ القارئ لا يشعر كذلك إزاء هذه الأعمال الفنية بلذَّة التقصِّي والاكتشاف التي يراها (ألتوسير) بأنَّها الأساس في القراءة، وهو ما يفصح عنها بأنَّها الوصول إلى ما لا يُصرِّح النصُّ به، ما دام النصُّ لا يبوح بكل ما في جوفه، ومؤسفٌ أنَّ الأمر لا يتوقف عند هذا، بل يتجاوزه إلى أنَّ هذه النصوص لا تكتسحك بإعادة نضارة وعيك تِجاه تَجربة الحياة، بوصف الأدب - كما يقول الناقد المغربي نَجيب العوفي- لغةً مُكثَّفةً من لغات الوعي وشكلاً مُميزاً من أشكاله، واستيعاب مَجازي العالَم، يتضمَّن رؤية الأديب إلى العالَم وفهمه لِحركته، وموقفه من جُملة التناقضات التي تتمخَّض عنها هذه الحركة.

ولِهذا فإنَّ النقَّاد يتحمَّلون جزءاً من هذه المسؤولية، وقدراً كبيراً من هذه المصادمات التي تقع بينهم وبين أشباه المبدعين، إذ ينبغي عليهم عدم التوجُّه أصلاً نَحو هذه الأعمال الرديئة وإضاعة الأوقات في قراءتِها ونقدها، إذ ما قيمة الالتفات إلى عملٍ فني لا يُشعرك بسرورٍ ولا بِمُتعة، ولا يَمنحك لذَّة الاكتشاف والتقصي، ولا يُعيد إليك نضارة وعيك تِجاه تَجربة الحياة؟ ولِماذا يتمُّ هدر طاقات الناقد تِجاه مثل هذه الأعمال؟ وكأنَّ الممارسة النقدية عقوبةٌ جزائيةٌ على الناقد تأديتها! أو كأسٌ مريرٌ يَجب أن يتجرَّعه ويُسيغه! دون أن يكون هناك أملٌ للشفاء!

إنَّ على النقاد أن يدركوا ما قرَّره (أرنولد بنيت) من أنَّ الدراسة الأدبية ليس الغرض منها التسلية في ساعات الفراغ، إنَّما هو إيقاظ الإنسان، هو جعله حيا، وتقوية مقدرته على الإحساس بالسرور، وعلى المشاركة الوجدانية، وعلى الإدراك الحقيقي التام، كما عليهم أن يعوا أنه ليس الغرض أن يكون تأثيره ساعةً واحدة، بل أن يكون أربعاً وعشرين ساعة كل يوم، ولا بُدَّ أن يتذكَّر النقَّاد أن أهمَّ غرضٍ للدراسة الأدبية هو أن تُغيِّر علاقة الإنسان بالعالَم تغييراً تاماً، ويدركوا أنَّ فهم قيمة الأدب معناه فهم قيمة العالَم، ولا يعني أيَّ شيءٍ آخر.

Omar1401@gmail.com

(النقد الإبداعي.. وإشكالية التلقي) (2)
د. عمر بن عبدالعزيز المحمود

د. عمر بن عبدالعزيز المحمود

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة