Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSaturday 20/07/2013 Issue 14905 14905 السبت 11 رمضان 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

منهجهم في الجملة منهج علمي فكري يبدأ باليقين والرجحان مع شرع الله الذي ثبت أنه آتٍ من عند الله، ثم تأتي بعد هذه البداية مسائل ما تعبَّدنا الله فيها باليقين؛ وإنما تعبَّدنا بصحة مراد الله وَفْق ذلك المنهج الصحيح، وهذه المسائل مما يتردَّد فيه نظر العقل ثبوتاً أو دَلالة ، والمآل في النهاية إلى الاحتكام بما ثبتت شرعيَّتُه،

والحرج مرفوع من عند الله في هذا الاختلاف؛ ولهذا قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى عن هذه المسألة -في كتابه الإحكام م2 ج5 ص78-: “أصل مذهبنا أن الأخذ بظاهر القرآن والحديث الصحيح حق، ونحن على يقين من أننا مصيبون في ذلك، وفي كل قول أدَّانا إليه أخذُنا بظاهر القرآن والحديث الصحيح، وأن من خالفنا مخطئ عند الله عز وجل، ونحن على يقين من ذلك لا نشك فيه ولا يمكن خلافه؛ وإنما يخفى علينا الحق في بعض الجزئيات مثل بناء حديثين بأعيانهما لا ندري أيهما الناسخ من المنسوخ، ولسنا ننكر خفاءَ الحقِّ علينا في بعض هذه المواضع، وقد علم غيرُنا بلا شك وجه الحق فيما خفي علينا كما علمناه نحن فيما خفي على غيرنا، ومن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وورُدَ الأوامر منه علِم اليقينَ فيما غاب عنا بلا شك”.

قال أبو عبدالرحمن: هذا كلامُ حقٍّ في الجملة، ولكن لا يدخل في (يقين أبي محمد) الخطأُ في تطبيق الظاهر؛ وذلك خلاف ما خفي عليه من جزئيات؛ وأسباب الخطأ في تطبيق الظاهر الغفلةُ عما يظهر من دلالة الكلام، وعما يظهر من حكم العقل بخفاءٍ وجُهْدٍ شاق، وأن (غير الظاهر) ما لا سبيلَ ألبتَّة إلى ظهوره من دلالة اللغة والعقل عليه ببرهاني تصحيح وترجيح.. وأمتن براهين الثبوت التواتر، وقد زعم سعد بن منصور بن كمونة اليهودي من أعلام الضلال في القرن السابع الهجري بكتابه (تنقيح الأبحاث للملل الثلاث ص61-93): أن آيات محمد صلى الله عليه وسلم لم تأتِ بالتواتر، وأنه جائز فيها التواطؤ.

قال أبو عبدالرحمن: من آيات عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ما هو صحيح الثبوت بغير التواتر؛ فَلْنُرِح ابن كمونة بالقرآن المتوار الذي تواترَ فيه تعييرُ الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب والسحر وعلم الأساطير والجنون، ثم نزل عليهم القرآن الكريم وعَلِموه كافة، وحذَّر الله سبحانه وتعالى الكفار بقوله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ(10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ(12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13)ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ(14)إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ سورة الدخان(10-15)؛ فهل نُقل عن واحد منهم بأقل من التواتر أن هذا لم يحصل، وهل يجوز أن يتواطؤُوا على نفي شيء يرونه أنه ادُّعِي عليهم كذباً؟.. سبحان هذا بهتان عظيم؛ إذن المنهج أن لا يُطلب تواتر المعجزة -والتواتر موجود في بعض منها-؛ وإنما يُطلب سبب السكوت عن نفي حقيقة ثبت عِلْمُ الكفار كافة بها.

وهذا القرآن الكريم المتواتر النازل بلغة العرب تعامل معه الأئمة تعاملاً فكرياً لا وجود له في أهل مأثور الأديان السابقة.. قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: “إنَّ أصحَّ الطُرُقِ أن يفسَّرَ القرآن بالقرآن؛ فما أُجْمِلَ في مكان فإنَّه قد فُسِّرَ في موضع آخر؛ وما اختصر في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر؛ فإنْ أعياكَ ذلك فعليك بالسُّنَّةِ، فإنَّها شارحةٌ للقرآن وموضِّحةٌ له، بل قد قال الإمام أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: (كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فَهِمه من القرآن.. قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا سورة النساء (105)، وقال تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ سورة النحل (64)، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سورة النحل (44)؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا إنِّي أُوتِيتُ القرآن ومثله معه”.. يعني السنة (وهو صحيح)، والسنة أيضاً تنزلُ عليه بالوحي كما ينزلُ القرآن، إلا أنها لا تُتلى كما يُتْلَى القرآن.. وقد استدلَّ الإمام الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذكر ذلك”.

قال أبو عبدالرحمن: ولكن لا بد من تحقيق الثبوت وتحقيق الدلالة من جهة: هل هذا الحديث متعلق بمعنى الآية فيكون مفسراً لها، أو لا.. وقوله سبحانه: بِمَا أَرَاكَ اللّهُ سورة النساء (105) يعني ما أوحاه الله إليه من بيانه القرآن؛ فذلك إيراء الله.. وفي القرآن المتواتر الرَّدُّ إلى سنَّته صلى الله عليه وسلم، وفيها المتواتر، وفيها الثابت بلا تواتر؛ فهي مصدر بالتواتر، وهي موضوع إذن الله لعباده العلماء المؤمنين أن يتحقَّقوا من ثبوته بطرق التوثيق العلمية الفكرية التي تميَّز بها الأئمة من علماء هذه الملة، ثم يتعاملون مع السنة كما يتعاملون مع القرآن الكريم من جهة تحقيق الدلالة؛ فعاد معنى الديانةِ تطبيقاً إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من فهم دين الله على ما سنَّه الله من طُرق فَهْمِه كتفسيره بلغة العرب؛ إذْ جاء بلسان عربي مبين، وعدم ضربِ الشرع بعضه ببعض، والاستنباط من نصوصه مجتمعة في المسألة الواحدة؛ فليس بعضه أحق بالطاعة من بعض، ورد المتشابه إلى المحكم، والإذعان لدلالة النص الصحيح الصريح من غير مكابرة، وعدم الزيادة بالدعوى على المقدار المفهوم من النص بلا برهان، وعدم القَفْوِ لما ليس لنا به علم.. وما جهلنا تأويله فهو على التسليم بعلم الله المطلق، وحكمته المطلقة، وعدله المطلق، وإحسانه المطلق، وصدقه المطلق، ومحدودية إدراكنا، وأنه لا علم لنا إلا ما علمنا ربنا.. وأئمة السلف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم المعروفون بأوصافهم وأعيانهم في الرواية والفتيا، وبتزكية الله لهم التي لا تزكية فوقها، وهم المذكورون بقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ سورة التوبة (100)، ومن سواهم فاتِّباعه موزون بالإحسان وهو الإتقان، وهم قدوتنا في منهج فهم شرع الله، وهم قدوتنا في سيرتهم العملية، وهم قدوتنا فيما لم يُعلم فيه خلاف بينهم، أو علم فيه خلاف ثم حصل التنازل عنه وأُمْضي به ما عزم عليه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم؛ وذلك في الأحكام والأخبار المغيَّبة التي لن تقع في الدنيا، وهم قدوتنا فيما سكتوا عنه من ذلك.. وأما المغيِّب في عهدهم وهو سيقع في الدنيا فيفسّر بما استجد من علم حسي قاطع؛ إذن فما ورد عن جمهور الصحابة رضي الله عنهم بقولِه في الأحكام، ولم يُعرف لهم مخالف منهم (وعدم العلم بالمخالف ههنا استقراء حاصر يساوي العلمَ بالعدم): فلا ينبغي مخالفتهم؛ لأنهم في جملتهم أعلم بالنصوص؛ لأن أهل الرواية منهم معروفون محصورون، وهم أعلم بمقاصد الشرع ودلالته.. وإن اختلفوا فلا بد من الاجتهاد بالترجيح، أو قولٍ آخر يظهر للمجتهد بيانُ برهانه؛ فإن لم يظهر له برهان لزمه الترجيح.. فإن كان قول جمهورهم الذي لا مخالف له عن مغيَّب يوم القيامة، ولم يقم البرهان على أنهم أخذوه من أهل الكتاب: لزِم أن لا نتعدَّى قولهم؛ لأنه لا مسرح للاجتهاد في بلاغهم، وهم معايشون التنزيلَ؛ فهم أعلم بمراده.. وإن كان القولُ اجتهاداً منهم فبعيد أن لا يكون عن تمكنهم من معرفة الدلالة (مع أن حَمْلَ قولهم على المرفوع أولى؛ لأنه لا مسرح للاجتهاد في علم الغيب).. وإن كان المغيَّب مما يقع في الدنيا فنسير على تفسيرهم له إذا لم يُعرف لهم مخالف منهم؛ فإذا وقع المغيَّب أصبح التفسير مشاهدةً حسية مُقدَّمة، وأصبح قولُهم اجتهاداً في الاستنباط.

ثم قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عن تلَقِّي ما نُسِب إلى الشرع من الغيبيات ترتيباً على ما سبق من كلامه: “فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تَسْتَوْعِب الأقوال في ذلك المقام، وأن تُنَبِّه على الصحيح منها، وتبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاعُ والخلاف فيما لا فائدة تحته؛ فتشتغل به عن (الأهم)؛ فأما مَنْ حكى خلافاً في مسألة، ولم يستوعب أقوالَ الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه؛ أو يحكي الخلاف ويطلقه، ولا يُنبِّه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضاً؛ فإن صحَّح غَيْرَ الصحيح عامداً فقد تعمَّد الكذب، أو جاهلاً فقد أخطأ: (إذْ قفا ما ليس له به علم)، وكذلك مَنْ نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيَّع الزمان، وتكثَّر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثَوْبى زُور، والله الموفق للصواب”.

قال أبو عبدالرحمن: الأمر الأخير بخلاف رأي ابن كثير رحمه الله تعالى، بل هو ضروريٌّ لمن أراد أن يتقصَّى التفسير؛ ليحصر الأقوال تنصيصاً؛ فيحكم بالعدل.. وأما ما لا فائدة فيه فهو ما خرج عن مَحَلِّ النزاع، وهو أيضاً ما ليس من المنهج الذي قيَّد الله به تلقِّي الشرع، وهو ثالثة ما كان عن أحوال الوقائع وليس من براهين الشرع كما ذكرت ذلك في بعض المناسبات عن كون القياس كاشفاً الواقعةَ لا الحكم، وأن انكشافَ الواقِعةِ مَحَلٌّ وموضوعٌ لتطبيق الحكم الشرعي ببرهان من الشرع نفسه.. والعلم بمصطلحات العلماء ضروري جداً؛ للإحاطة بمقاصدهم عند تحرير مَحَلِّ النزاع؛ ولهذه المسألة مزيد بيان. وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.

- عفا الله عنه -

منهج أئمة المسلمين في التعامل مع ثبوت الشرع
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة