Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSunday 21/07/2013 Issue 14906 14906 الأحد 12 رمضان 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

ما حصل في الثلاثين من يونيو - حزيران في مصر 2013 لا يُعد انقلاباً تاريخياً يكفي لتغيير مفاهيم فحسب، ولكنه منعطف أيضاً، يصح القول إنه مشروع جديد للنهضة.

نعم، ثمة مظاهر للفوضى وللتجاذبات.. ولكنها فوضى وتجاذبات كل منعطف. ما حصل هو أن ثلاثة وثلاثين مليون مصري، أصدروا حكماً على آخر الأنظمة الشمولية التي عرفتها المنطقة.

وما حصل هو أن أولئك المواطنين الذي تقاطروا إلى ساحات التظاهر من كل حدب وصوب، قالوا كلمتهم ليس في حكم الرئيس محمد مرسي، ولكنهم قالوا كلمة التاريخ في كل حكم يصدر عن أجندة “فوق - وطنية” أو سياسات عابرة للحدود، أو خيارات تمضي الى عوالم فنتازية عابرة للقارات، أو تهاويم أيديولوجية تجتاز القضايا الملموسة لمصالح الوطن وحياة المواطن.

إذا كانت الأحداث قد أطاحت بالشمولية السياسية لحزب البعث العربي الاشتراكي، ولو بعد نصف قرن من التجارب المضنية، فإن عاماً واحداً من السلطة كان كافياً ليكشف مدى الفشل الذي مثلته الشمولية السياسية للإخوان المسلمين.

ولم يكن بوسع المصريين، أن يصبروا نصف قرن آخر.. فالمكتوب كان واضحاً من عنوانه!

ما الذي يجمع بين حركة الإخوان المسلمين وبين حزب البعث العربي الاشتراكي؟

سؤال سوف يبدو غريباً للغاية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن كلا هاتين الحركتين متناقضتان للغاية، بل ومتعاديتان للغاية أيضاً.

التناقض الذي يستند إلى افتراق أيديولوجي صارخ بين أجندة “إسلامية” وأخرى “قومية”، كان كافياً لكي يؤسس لعداء سياسي دام على مر العقود.. ولكن هذا العداء لم يلفت انتباه الحركتين إلى أنهما يتشابهان بالأحرى إلى درجة لا تسمح بجعل اختلاف الرايات، ولا لغة الخطاب الشعبوي، غطاءً كافياً يلغي التماثل الصارخ بينهما.

والمسألة لا تتعلق بالشكليات أبداً.. فـ”مكتب الإرشاد” يمكن أن يُنظر إليه، بلغة أخرى على أنه “قيادة قومية”، و”الرفيق المناضل”، “الأمين العام”، قد يكون نفسه، “الأخ الأكبر” بما له من هالة تبقيه خارج إطار المساءلة، وتضعه فوق الخطأ، إلا أن الأجندة السياسية برمتها لكلا هاتين الحركتين تستند، في واقع الحال، الى أساس واحد: “فوق وطني” وعابر للحدود.

ليست “فوق - الوطنية”، هنا، نكراناً للانتماء أو اتهاماً بخيانة.. إنها مجرد توصيف لواقع يقول إن الاوطان في نظر هاتين الحركتين، لا تعدو كونهما حالات مؤقتة، وعابرة، وغير ذات بال، مقارنة بالتطلعات فوق الوطنية التي تحدد لكل منهما هويته.

وهذه الهوية لا تنبذ حدود الوطن “القطر” فحسب، بل إنها تستصغره، وتحط من قدره، وتستهين بقضاياه، وتعمل على تجنيده لخدمة القضايا الكبرى، لتجعل منه في النهاية وسيلة لغاية، بدلاً من كونه غاية قائمة بذاتها.

الانعاكسات العملية لهذه الرؤية، واضحة في التجربتين.

صحيح أن الإخوان المسلمين لم يحكموا في مصر إلا وقتاً قصيراً نسبياً، قياساً بنصف القرن من سلطة البعث في سوريا والعراق، إلا أن ثمانين عاماً من فكر الإخوان، ظل يدلي بالشيء نفسه، وهو أن الأوطان “الصغرى” (القطر) لم تكن لتحتل المرتبة الأولى في سلم الاهتمامات.. وما من قضية وطنية إلا وكانت قيمتها مرتبطة، في نظر هاتين الحركتين، بما فوقها من قضايا كونية.. “أهم”.

الانعكاس الأول، إذن، هو أن سُلّم الأولويات كان واحداً لديهما، ولو في اتجاهين متناقضين.. وهو يعني أن الأوطان الصغرى، قضاياها صغرى.. وقد تنكسر أرجل السُلّم بفعل ضغوط تلك القضايا، إلا أن السُلّم لا قيمة فيه بحد ذاته إلا بوصفه جسراً للعبور إلى هدف آخر.. وهو ما جعل إصلاح درجات السُلّم، أمراً ثانوياًً قياساً بالقضايا الكلية والفوقية والعملاقة التي يجدر التركيز عليها.

لهذا السبب لم تكن قضايا محلية من قبيل الفقر والبطالة وأزمات المواصلات والسكن والتعليم، إلا ندوباً موضعية في جسد تلهبه حميات أخرى خارجة عنه، ويحسن، من وجهة نظر هذه التيارين التقليديين، الاهتمام بها أولاً.

الانعكاس الآخر، هو موقع المواطنة في الوطن.. فالمواطن في بلد صغير أو مُستصغر، إما أن يتحول إلى جندي لخدمة “القضية المركزية”، أو أنه لا يستحق أن يتمتع بأي حقوق.. وأداء الواجب تجاه تلك “القضية المركزية”، هو ما يحدد معيار المواطنة، وهو ما يقرر حدود فرصها في الحياة.

لهذا السبب، كان من السهل، في الفكرين والتجربتين، أن تتحول المطالب الشعبية بهذا الشيء أو ذاك، إما إلى خيانة أو إلى كفر.. وكان يكفي لأي مواطن أن يكون مختلفاً، بالقليل أو الكثير، حتى لا يعود ليستحق أن يُعامل كمواطن، أو حتى كبشر.

الانعكاس الثالث، وربما الأخطر، هو أن كلية الفكر وشموليته، كان من السهل عليها أن تذهب إلى مدى أبعد من استصغار الوطن واحتقار المواطن.

ذلك أن أهل المعرفة الكلية، والدراية المطلقة، هم وحدهم الذين يحق لهم أن يقرروا كل شيء.. ومعرفتهم التي لا جدال فيها، ظلت تؤهلهم للتعامل بفوقية شديدة حتى مع الجمهور الذي حملهم على الأكتاف.

ولا حاجة إلى القول إنه ما من دكتاتورية شمولية عرفها التاريخ، إلا وكانت دكتاتورية ذوي “معرفة مطلقة”.

ما حصل في الثلاثين من يونيو هو أن العالم العربي شهد ولادة لمسار جديد؛ مسار تنهض فيه الوطنية (لأول مرة في مصر منذ خمسينيات القرن الماضي) لتعيد ترتيب الأولويات، فتكون قضايا من قبيل الفقر والبطالة هي “القضية المركزية”.. وما من قضية أكبر من حقوق المواطن في وطنه.. وهي حقوق تبدأ وتنتهي داخل حدود وطن،.. كبير بذاته وقائم بحد ذاته؛ وطن يستحق أن تتم معالجة مشاكله أولاً، قبل أن يتم التبرع به لمعالجة مشاكل الكون.

حتى إذا ما اقتضت الضرورة لهذا الوطن أن يخدم قضية أخرى خارج حدوده، فإنه يخدمها بتقدمه وغناه، لا بتخلفه وفقره.

كاتب وناشر ومدير قناة «أي. أن. أن» الفضائية

نهضة الوطنية
علي الصراف

علي الصراف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة