Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناTuesday 23/07/2013 Issue 14908 14908 الثلاثاء 14 رمضان 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

لو وضعت كلمة “سياسة” في محرك بحث لوصلت لعدد لا نهائي من الأخبار معظمها يتعلق بسياسيين من مختلف الاتجاهات والمشارب، فالسياسة على ما يبدو مرتبطة بالسياسيين أكثر من ارتباطها بالسياسة ذاتها، ولو نظرنا للتعريف الموسوعوي لكلمة سياسية فلا يكاد يكون هناك إجماع على معنى هذه الكلمة المرنة

مرونة المراوغة التي تتطلبها ممارستها. ففي بعض اللغات الأوربية يقابل كلمة سياسة في العربية كلمة “بوليتكس” الإنجليزية وأخواتها وبنات عمها في اللغات الأخرى المجاورة. وهي كلمة مشتقة كالمعتاد من جذر أغريقي هو “بوليتكوس”، أي العلاقة مع المواطنين، وتطور هذا المعنى تدريجييا، نتيجة لتطور السياسة ذاتها، ليعني التأثير على المواطنين، ثم تحول بعد ذلك ليعني الحصول على السلطة على المواطنين، وأصبح السلطوي سياسي، والسياسي سلطوي، تعددت المشارب والهدف واحد.

أما في لغتنا العربية فكلمة سياسة مشتقة من كلمة “ساس” أي قاد الحصان للماء، ومن يمارسها “سائس”، وجمعها “ساسة” والمعنى لا بأس به لولا أن الحصان يقاد للماء لا ليشرب بل ليحمل الماء أو ليشرب فارسه الماء. وبالطبع، فإن واقعنا السياسي ليؤكد أن السياسة في عالمنا العربي لها من اشتقاقها نصيب فهناك أغلبية من الخيول، أو ربما ما هو أبطأ من الخيول وهناك قلة من الفرسان تسوسهم. وهناك مقولة اشتهرت إبان الحرب اللبنانية أنه في الحرب يموت الفرس ولا يموت الفارس، أي أن السياسة واحدة بمعان مختلفة. والله جل وعلا يقول في محكم كتابه: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون). وهناك في عالمنا الإسلامي والعربي من يأخذ بحرفية كلمة سياسة ويسوس الناس حسب ما ورد في الآية وكأنهم من الأنعام، ويكون معنى السياسة ليس قيادة الشعوب بل معنى آخر.

والعرب لهم قصب السبق في اكتشاف أموركثيرة منها أن الإنسان قلب ولسان، أما بقية أعضائه فتخضع لهما، ويمكن القول: إن العقل (اللسان) والقلب هما في تاريخنا القادة السياسيين لبقية أعضاء الجسم الذي يوجد به أجزاء للاقتصاد وأخرى للتموين، وغيرها للدفاع، وبقية أخرى للهروب عند اللزوم. ولذلك اهتم العرب من قديم الزمان بالسيطرة عليهما، فالقيادة آمن وأسلس لمن ينقاد طوعا لا من يقاد مُرغما. واحتاج العرب للسان والقلب ايضا للقيادة، فمن سمات قادتنا الخطابة وفن سبك الوعود المعسولة، ويكملهم ساسة يساعدونهم بقلوب كالحجر لإيصال الشعوب للماء طبعا.

السياسة أصبحت علما يدرس له نظريات ومناهج وأساليب تصب في مجملها في فهم أقصر الطرق لخلق الانقياد الطوعي لدى الشعوب، والاحتفاظ بحالات قيادتها بالأساليب الأخرى للضرورة القصوى فقط، و عندما ضاق العالم وتقارب أصبحت السياسة تعني حفظ قواعد المرور السياسي العالمي الذي يمنع تصادم المصالح وتعارضها، وكيفية استدلال الضعيف على طرق ومسالك القوي مع ما يتطلبه ذلك من دفع لأتاوات ورسوم، و هناك في علم السياسة الدولي احتمالان فقط: أما أن تسوس أو تساس.

ويخضغ جميع الساسة في بداية حياتهم لتمارين مركزة لتقوية عضلات القلب واللسان، فإن لم يكن لسانه غير عادي وقلبه أقوى من بقية من يسوسهم فهو قد يضطر للاستعانة بألسن أخرى مدربة، وقلوب صلبة متحجرة. ومع تطور الانسان وتقدم التكنولوجيا اخترع الإنسان أدوات مساعدة تمنح لسانه تأثيرا لا محدودا على غيره. وأصبح ما يقال يدوّن، ويصّور، ويعاد، ويكرر. وأصبحت الخيول ترى المروج المقفرة خضراء، وترى السراب ماء، وأصبحت القيادة فن خلق الواقع لا الكلام عنه. فتضخمت صورة السائس لحجم يبهر الخيل ويجعلها تنقاد بطوعها للصورة التي تتجاوز كل الأبعاد المألوفة. فتزاوجت السياسة مع الدعاية زواجا كاثوليكيا. وأصبحت لغة الكلام موحدة والاتجاهات محددة.

وعالم السياسة عالم عجيب غريب، فليس كل ما يعرف يعلن وليس ما يعلن هو ما هو معروف، فرقم الرأي العام، جموع الخيل الجامحة التي لا بد وأن تساس، مجال صراع بين القوى السياسية المختلفة، وقد نبه لهذه الحقيقة عراب السياسة الانتهازية نيكولو ميكيافلي الذي ربط الوسيلة بالغاية فقط وليس بالأخلاق، فلا يهم بأي لسان تتكلم ما دامت الجموع تصدقك، ولا يهم أي طريق تسلك لتورد خيلك للماء. وميكافيلي لم يبتدع نظريته من قريحته بل استدل عليها من عوالم السياسة ذاتها. وبالنسبة له يحق للسياسي ما لا يحق لغيره. وعوالم السائس والمسوس عوالم لا تتطابق دائما بشكل أخلاقي، ولكنها لا بد وأن تتوافق وإن بشكل لا أخلاقي.

وكما يقال لكل زمان دولة ورجال، والتاريخ في أحيان كثيرة يستنسخ شخوصه، وقد استنسخ ميكافيلي في بلد مجاور في شخص جوزيف قوبلز، عراب الإعلام السياسي الحديث الذي ربط السياسة بالدعاية لا العكس، و أكمل ما بدأه ميكافيلي بأن أضاف له علم صناعة الأخلاق، أي أنه لا وجود لأخلاق خارج عقول الدهماء، فبدل أن يبدو السياسي لا أخلاقي أمام من يسوسهم، يستطيع ببساطة أقناعهم أن أخلاقه مهما تواضعت هي الأخلاق، وأن الكذبة كلما كبر حجمها زادت إمكانية تصديقها. أي إذا أردت أن تكذب سياسيا اجعل كذبتك ذات حجم ضخم مبهر يمكنك عند ترديدها أن تزيح جميع الأفكار الأخرى من عقول من يتلقفونها، وطبعا كانت خسائر البشرية من تبعات كذب حزب قوبلز بحجم الكذبة الكبرى التي روجها. وكان قوبلز مبهرا وناجحا لحد دفع خصومه كما قال تشرتشل أن يتحالفوا مع الشيطان في سبيل مجابهته.

وكان من أركان نظرية قوبلز أنه إلم يكن للدهماء عدو يرعبهم ليلجأوا للسياسي طلبا للنجدة بحيث يسلمون له السنتهم وقلوبهم فلا بد من خلق عدو ولو وهميا لهم، وكلما تضخم العدو زاد الخوف وسهل الانقياد، قوبلز وزمرته نجحوا في خلق شعب يعمل ليل ونهار وبشكل أعمى للقضاء على عدو وهمي. هذا العدو الخارجي إنما كان لزيادة الانقياد الداخلي ومن هنا تطورت الدعاية لتخلف السياسة وليس العكس، وتحولت السياسة فيما بعد لحرب باردة لتبادل القصف بالأكاذيب طيلة نصف قرن.

واسُتنسخ قوبلز مؤخرا في شخص يدعي أنه من ضحاياه وهو ليون شتراوس الذي رفع الكذب على العامة الغوغاء إلى مبدأ سياسي مبرر، بل هو المبدأ الوحيد المتاح، مادام الهدف نبيلا لا تدركه الغوغاء وتدركه النخبة، ونظر لسبل استغلال أقرب الأشياء لوجدان الشعوب لتضليلهم، فنظر لسبل استغلال الدين، والطائفة، بأساليب ميكافيلي وقوبلز لتحقيق المآرب السياسية، فكانت بالطبع ديانات وذاهب أخرى هي ضحية هذه التفكير الخطير، بعد أن قيض الله لأكبر دولة في العالم قيادة غوغائية تنظر للعالم من خلال نظرة روحانية بعيدة كل البعد عن واقع ما حولها.

أما العرب، بعد أن تحولوا لأقوام مقلدة غير مبدعة، متأثرة لا مؤثرة، تحول تاريخهم مع الدعاية إلى نوع من التقليد المحترف، ففي الحرب الباردة أقسموا لقسطاطين دعائيين أحدهما غربي والآخر شرقي فبدأ ما يمكن تسميته بعهد الأكاذيب العربية القوبلزية الكبرى الذي ما زلنا نعيشها اليوم علما بأن العالم تجاوزه. فالجميع تبنى قضايا المساواة، وتحرير القدس، والتصدي للعداون بشكل سيطر على غالبية الجماهير العربية المغلوبة على أمرها. فاتضح أن جيوش التحرير التي انفق العامة قوتهم على بنائها ليس إلا احصنة طروادة لمقاومة الشعوب ذاتها. و تحرير فلسطين كان حلما قوبلزيا ورديا جميلا.

اليوم تستحضر إيران خطابات العرب ذاتها في الحديث عن قضية القدس، بينما الهدف الحقيقي منها السيطرة على محيطه العربي الذي يمر بحالة غير مسبوقة من الضعف والتفكك. والواقع هو أنه لو أن إسرائيل خططت وأنفقت كل طاقاته لتوصلنا لما تحاول إيران أن توصلنا له لم تكن لتنجح في ذلك.

latifmohammed@hotmail.com
Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

“الأبواق والمدافع”
د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة