Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناThursday 25/07/2013 Issue 14910 14910 الخميس 16 رمضان 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الثقافية

عامُ الجَدْري
سيمون نصار

رجوع

(1)

لا شيء يربطني بناجي العلي سوى فلسطين. هذا، على الأرجح، ما يجعلني، أرجع للوراء لسنوات، غالب الوقت أخاف الرجوع إليها. سنوات صعبة، قاتلة، مدمرة، لم نكن نشم فيها سوى رائحة الموت ولم نكن نشاهد فيها سوى جثث القتلى، كما لو أننا كنّا نعيش في قلب المشرحة. الفلسطينيون، وأنا منهم، يعيشون منذ قرن، تقريباً، في مشرحة. لم يمر عام عليهم دون قتلى، أينما كانوا. وأينما يمموا شطر وجوههم وإقاماتهم ومنافيهم، ولجوئهم.

خرج ناجي العلي من هنا، من هذا الشعب ومن هذا الواقع ومن هذا المصير الأسود. وخرجت وخرج كثيرون أيضاً، من هذا الشعب ومن هذا الواقع ومن هذا المصير الأسود. هو المصير الذي صيّر من ناجي العلي فناناً عالمياً مؤثراً في جيله وفي الأجيال التي تلته والتي ستليه. فأبناء المخيمات هم الأكثر امتصاصاً ومعايشة للظلم. كانوا، في ذلك الزمان، يشمّون، ولو عن بعد ظلم العالم ويعيشون عن كثب ظلم «الدرك» اللبناني الذي كان يقمع بلا هوادة النساء والأطفال والشيوخ ناهيك عن الشباب الذين كان منهم ناجي العلي. مثلما، عاشوا ظلم الجندي الإسرائيلي وبطشه باسم الحضارة الغربية المعاصرة.

(2)

لم أكن أعرف ناجي العلي. يوم اغتالوه في لندن، كنت ما أزال طفلاً. لكني، ولأسباب لها علاقة بالحظ، كنت أشاهد رسوماته في الصفحة الأخيرة من مجلة فلسطين الثورة التي كانت توزع مجاناً، في ذلك الوقت، على كافة المباني والشقق في حينّا. كنت أشاهد رسوماته ولا أفهم منها الكثير. حتى أني لم أكن أفهم شروحات ناظر المدرسة مالك الذي كان في الجبهة الشعبية، الناظر الشاب الأسمر الذي توحمت أمه على فلسطين فخرج بوحمةٍ على رقبته تشبه خريطتها، كان بين الوقت والآخر يسعى ليشرح لي ولبعض زملائي الفلسطينين ما ترمي إليه فلسفة ناجي العلي من خلال رسوماته. كنت طفلاً، مع ذلك، كان عليّ، كفلسطيني، كما كان يقول مالك، أن أفهم معنى أن يكون المرء فلسطينياً، وكنت أحب كوني فلسطينياً كما كنت وما زلت أحب الكتب. فأن تكون فلسطينياً لا يعني فقط أنك ابن الشعب، بل، أيضاً وأيضاً، ابن المأساة.

عرفت ناجي العلي، في ذلك الوقت مرتبطاً بفلسطين، مرتبطٌ بي، كنا معاً، أبناء الشعب وأبناء المأساة. لم أعاني مثله، لكني عشت الحروب ورأيت جثث القتلى كما رأيت لأول مرة في حياتي الجنود الإسرائيليين يجلسون على دباباتهم المدججة بالأسلحة. كنت صغيراً جداً لكني كنت أعرف أنهم أعدائي وأعداء كل ما هو فلسطيني. وطوال فترة وجودهم، بيننا، لم أقبل في يوم علب الشوكولا والبسكويت التي كانوا يوزعونها على الأطفال، الرفض الذي عودتني والدتي عليه. كما كانت جدتي تقول لي أخذوا بلدنا «وبدهن يعطونا بدالها علبة بسكوت». جدتي التي كانت من حيفا، ماتت، وفي قلبها غصة أن ترى حيفا مرة ثانية.

دخل ناجي العلي، قبل حتى أن يقتل، غيلة، في قلب لندن. إلى كل بيت فلسطيني كما دخل محمود درويش ومعين بسيسو وأبو عمار. لا أذكر بيتاً من بيوت زملائي في المدرسة أو حتى بيوت جيراننا إلا وفيه صورة لأبي عمار وأوراق أو ملصقات وصور تحمل رمز حنظلة الشهير. حتى أن أحمد عزام ابن جارتنا أم رفيق التي هجرت من الرأس الأحمر كان قد رسم شعار حنظلة على مدخل المبنى بشكل بارز كاتباً تحته شعارات لم أعد أذكر منها سوى كلمة فلسطين.

عرفت ناجي العلي من فلسطينيتي ومن جيراني ومن مدرستي ومن شباب الحي الذي كنا نسكنه، حتى أنهم بعد موته كانوا قد أقاموا دورة لكرة القدم حمل كأسها اسمه. ولم يتورع الحاج أحمد رنّو أن يقول لي ولأبناء الحيّ بعد مقتله «ما بدهن يخلوا ولا فلسطيني بيفهم عايش ولاد الكلب» الحاج رنّو الذي كان قد أخبرنا قصة ناجي وأبوه وأمه وأخواته، رحل بعد ذلك، في صيدا، أمام البحر، دون أن يكحل رموشه ببحر حيفا مرة ثانية.

(3)

كنت أحب الذهاب إلى بيت خالتي «وفيقة» في الشارع التحتاني من عين الحلوة. لم يكن فقط أبناؤها أصدقائي، بل لأنها كانت، تطبخ أفضل صينية بطاطا ولحمة في العالم. كما أن المخيم، في ذلك الزمن، قبل أن يتحول إلى مأوى لكل خارج عن القانون، تنفيذاً لقرار استخباراتي وسياسي سوري، بعد العام 1991 كان مكاناً جذاباً وملهماً، وكان كما قرية، تجمع سكان عدد كبير من القرى التي في فلسطين. حتى أنه، على مثال عدد من المخيمات الأخرى، يضم تجمعات سكنية تدل على هوية سكان القرية واسمها في فلسطين من «حي صفورية وحي حطين إلى الأحياء الأقل كثافة مثل حي عمقا والراس الأحمر والصفصاف.. إلخ». في حين أن الأحياء، وبسبب القرار، السوري المنفذ لبنانياً، امتلأت منذ عقدين بغرباء ليسوا من المخيم، وبعضهم لا تربطه أية علاقة، عضوية، بفلسطين.

كنت أزور خالتي «وفيقة» كثيراً، كلما صارعني الحنين إلى صينية البطاطا باللحمة التي تحضرها «بالفرنية». في ذلك العام، كان ناجي العلي قد قتل في لندن، وكان أهل المخيم والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قد اتفقا على إقامة نصب تذكاري على مدخل «الشارع التحتاني» حمل تمثالاً لناجي العلي. لم يكن المخيم في ذلك الوقت يكتظ بالناس والبيوت كما هو اليوم. وضعوا التمثال، تماماً، على مدخل فم الشارع التحتاني. كان التمثال، تماماً مدخل الشارع وبالتالي مدخل المخيم، ولم يكن، ذلك التمثال، سوى مدعاة فخر للمخيم وسكانه. وربما، لهذا السبب وحده، قرروا إقامته. كنا، نقطن خارج المخيم. مقابل السراي الحكومية التي كان يجاورها، تماماً، مكتب للتنظيم الشعبي الناصري الذي يترأسه مصطفى معروف سعد. وكنا كسكان المخيم، نحب ناجي العلي ومحمود درويش وسميح القاسم ومعين بسيسو وغسان كنفاني. تماماً، كما نحب أبو عمار ونكره حافظ الأسد. وكان بلال خميس، نجم الحيّ بكرة القدم، ثوري عنيف، لدرجة أنه ضرب حرس التنظيم الشعبي الناصري مرة لأنه قال عن الفلسطينيين (عقيص) وهي التسمية التي كان يطلقها سكان صيدا على الفلسطينيين وتدل على سمكة تعيش بالمتوسط صغيرة لكنها تعقص (تقرص) كل من يقترب منها. كما ضرب أحدهم مرة، لأنه قال إن أبا عمار خان فلسطين.

كنا، خارج المخيم، لكن كنا فلسطينيين ولم نزل. وفي الحي الذي أقوم بزيارته كل عدة سنوات، لا يزال الحال كما هو. أبناء جيلي يلعبون كرة القدم ويعلقون صور أبو عمار في كل مكان. كما أن الفريق الذي أسسوه أثناء غيابي قبل عدة سنوات أسموه فريق نادي العودة. إلى جانب ورقة نعوة للشهيد ناجي العلي لم تزل معلقة منذ اغتياله على حائط دكان أبو فتحي.

(4)

كان المخيم يعني لي بيت خالتي «وفيقة» ومعسكر الأشبال حيث كنت أتعلم الرسم بين حين وآخر، إلى جانب مكتب الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كنت ألعب فيه (بينغ بونغ). وفي ذلك العام، وبعد زيارتي لخالتي التي حضرت صينية البطاطا باللحمة نزولاً عند رغبتي. أصبت بالجدري بعد أن «عداني» ابنها سمير الذي يصغرني بعدة سنوات. أرسلت خالتي ابنها الكبير إلى أمي ليقول لها أني أصبت بالجدري وأن أمه تحبذ أن أبقى عندهم كي لا أنقل العدوى الى إخوتي. وهكذا حصل. كنت أخرج من بيت خالتي وأمر بالقرب من التمثال الشامخ لناجي العلي وأدخل إلى طريق بستان اليهودي لكي أصل بعد مائة متر إلى معسكر الأشبال. وفي ليل أسود من تلك الأيام لم أعد أذكر تاريخه. انفجر التمثال. في صباح اليوم التالي، مشيت من نفس الطريق الموصل إلى معسكر الأشبال وكان التمثال قد تحول إلى أشلاء، وكانت بعض النسوة وعدد من الرجال يلعنون من قام بهذه الفعلة الشنيعة ودمر لهم رمزهم. لم يفرح سكان المخيم بالتمثال كما أن التمثال نفسه لم يفرح. فجر التمثال هشام الشريدي الذي كان إسلامياً متشدداً، وهو من أسس «عصبة الأنصار» التي هي اليوم تنظيم وهابي إرهابي يقاتل في كل مكان إلا في فلسطين. وكان تفجير تمثال الشهيد ناجي العلي، أول رسالة إلى تواجد ما بات يعرف بالإسلام السياسي داخل التجمعات الفلسطينية التي لم تكن تعرف هذه الظاهرة من قبل.

قتل ناجي العلي في لندن ولم يعرف القاتل وقتل تمثاله على مدخل الشارع التحتاني بقاتل عرفت هويته ومصدره ومموله.

قتل ناجي مرتين. مرة في لندن ومرة في مخيمه.

أن تكون فلسطينياً فقط، وفقط حين تكون فلسطينياً، يحتمل أن تقتل مرتين.

- باريس

simnassar@gmail.com

رجوع

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة